يبرز الغاز كأداة رئيسية في الصراع الروسي-الأوكراني المتصاعد، والذي هو في جوهره صراع جيوسياسي بين روسيا وحلفائها من ناحية، والولايات المتحدة وحلفائها من ناحية أخرى، وهو ما يعيد إلى الأذهان أجواء الحروب العالمية الماضية. وقد سلطت الأزمة الأوكرانية الضوء على ضرورة الحاجة إلى تنويع إمدادات الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي، مع تهديد روسيا بقطع الإمدادات المُغذية لأوروبا عبر الخطوط المارة بأوكرانيا حال فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية عليها. وهنا تُطرح منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كبديل محتمل للغاز الروسي. ليس هذا فحسب، فمعركة التنافس الجيوسياسي الدائرة الآن في أوروبا الشرقية ستحمل ارتدادات مباشرة على قضاياه وملفاته العالقة. وعليه، تناقش تلك الورقة أبعاد توظيف الغاز في الصراع، وفرص احتياطات الشرق الأوسط من الغاز في استراتيجية تنويع البدائل الأوروبية، وتبعات الأزمة على قضايا المنطقة.
أولًا- الموارد النفطية كأداة للصراع الدولي:
لقد كان النفط وما زال أداة للصراع نظرًا للأهمية التي يمثلها هذا المورد، والطلب العالمي المتزايد عليه والتخوف من احتمالية انقطاع الإمدادات في حالة نشوب صراع بما يضر بمصالح الدول المختلفة، ولأن كثيرًا من مصادر العالم الرئيسية للنفط تقع في مناطق متنازع عليها، وأنه يتم نقله إلى الأسواق العالمية من خلال السفن أو خطوط الأنابيب، الأمر الذي يفسر وجود تعزيزات عسكرية للقوى الدولية في المناطق الغنية بالنفط، مثل البنية العسكرية للولايات المتحدة في منطقة الخليج، وكذلك القوات الروسية في شمال القوقاز وحوض بحر قزوين، والتمركز الصيني في بحر الصين الجنوبي.
تعددت نماذج الصراع في الماضي، والتي كان محورها النفط أو الغاز، ففي الحرب العالمية الثانية تفاقم الصراع عندما حاولت قوى المحور السيطرة على إمدادات النفط الموجودة في مناطق يسيطر عليها خصومهم، وكذلك السعي وراء عائدات نفطية أكبر هو الذي أدى إلى غزو العراق للكويت في 1990، حيث يمثل النفط مصدرًا للصراع الثنائي أحيانًا. وإن كثيرًا من الموارد المتنازع عليها تتقاسمها دولتان أو أكثر، أو أنها تقع في مناطق حدودية متنازع عليها، أو في نطاقات اقتصادية في عرض البحر، والذي يثير في بعض الأحيان الصراع مع الدول المجاورة وربما تفاقمه. مثال على ذلك عندما تشترك دولتان في حوض نفط كبير، وتقوم إحدى الدولتين باستخراج حصة غير متناسبة من مخزون الموارد النفطية، مما يسبب نقصًا في الإمدادات للدولة الثانية، مما يؤدي إلى نشوب صراع بينهما، وهو ما حدث في حالة العلاقات العراقية-الكويتية في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، حيث رأت العراق أن الكويت تستخرج أكثر من حصتها المستحقة من النفط في حقل الرميلة المشترك. وكذلك نموذج آخر هو الصراع على مخزونات النفط المشتركة بين السعودية واليمن. وفيما يلي سوف يتم الإشارة إلى بعض نماذج الصراع التي كانت المواردُ النفطية أحد الأسباب الرئيسية لتفاقمها:
1- الصراع العربي-الإسرائيلي: عند اندلاع الصراع العربي–الإسرائيلي في أكتوبر 1973، استُخدم النفط كسلاح استراتيجي وأداة للضغط في الصراع، حيث قامت إيران والعراق والإمارات والكويت والسعودية وقطر برفع أسعار النفط وخفض الإنتاج واستخدام صادرات الطاقة كأداة ضد الدول التي دعمت إسرائيل، وتم قطع إمدادات النفط عن الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واليابان وهولندا، ونتيجة لذلك تضاعف السعر العالمي للنفط أربع مرات، وأدى تزايد الطلب على النفط مع النقص في مناطق كثيرة إلى إحداث ركود اقتصادي آنذاك. ودفعت هذه الصدمة الاقتصادية الولايات المتحدة للمساعدة في التفاوض على وقف إطلاق النار. كما ساهمت هذه الأزمة في تغير الفكر الاستراتيجي لهذه الدول، وقامت بالبحث عن مكامن نفطية جديدة في مواقع أكثر أمنًا مثل: بحر الشمال، وألاسكا، وبحر قزوين، حيث قامت الولايات المتحدة بتخزين كميات كبيرة من النفط في مستودعات خاصة، وبدأت اليابان في التحول بعيدًا عن الصناعات كثيفة الاستخدام للنفط، وانخفض الطلب على السيارات الأكبر والأقل كفاءة في استهلاك الوقود.
2- الصراع في بحر الصين الجنوبي: يحتوى بحر الصين الجنوبي على مخزون من النفط والغاز الطبيعي، تحده من الشمال تايوان والصين، ومن الشرق جزر الفلبين، ومن الجنوب إندونيسيا وماليزيا، ومن الغرب فيتنام، ووفقًا لتقديرات وزارة الجيولوجيا والموارد المعدنية الصينية فإن بحر الصين الجنوبي يضم كمية كبيرة تُقدر بـنحو 130 بليون برميل من النفط، وأدت الثروة النفطية به إلى تنافس بين الصين وفيتنام على استغلال احتياطات النفط والغاز واشتباكات بحرية بينها، لا سيما في ظل النمو الاقتصادي لمنطقة آسيا / المحيط الهادئ والاستهلاك المتزايد للطاقة، وحاولت الصين نشر أكبر منصة حفر في المياه على بعد حوالي 120 ميلًا بحريًا قبالة سواحل فيتنام، وتمت محاصرة الصين بأسطول كبير من سفن البحرية وخفر السواحل، وأجرت فيتنام تدريبات بالذخيرة الحية في المنطقة. كذلك أدى الخلاف بين الصين واليابان حول حقل الغاز الطبيعي المتنازع عليه في بحر الصين الشرقي إلى سلوك عسكري استفزازي من كلا البلدين.
3- الصراع في بحر قزوين: يضاف إلى المواقع الغنية بالنفط والغاز بحر قزوين، حيث يعد أكبر مسطح مائي مغلق في العالم، وتبلغ مساحته 370 ألف كيلومتر مربع، ومن الدول المشاطئة للبحر (روسيا، إيران، أذربيجان، تركمانستان، كازاخستان)، تحده جبال البرز الإيرانية من الجنوب، والقوقاز من الشمال الغربي، ويغذيه نهر الفولغا الروسي من الشمال، ليشكل دلتا واسعة قرب أستراخان، وهو من أقدم مناطق إنتاج النفط في العالم، ويعود تاريخ حفر أول بئر لعام 1840. ولبحر قزوين مكانة خاصة في إمدادات الطاقة العالمية بما يقدر بنحو 48 مليار برميل من النفط الخام، وحوالي 4.76 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي. وتمتلك كازاخستان الحصة الأكبر من النفط بحوالي 31.2 مليار برميل، بينما تمتلك روسيا النسبة الأكبر من الغاز بنحو 3 تريليونات قدم مكعب.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بدأ التنافس والصراع حول ثروات بحر قزوين بين الدول المستقلة، لا سيما في ظل ما يحتويه من ثروات هائلة من النفط والغاز الطبيعي، وكان النظام القانوني للملاحة في بحر قزوين وتنظيم استغلال ثرواته قبل تفكك الاتحاد السوفيتي ينظمه اتفاق 1921 بين الاتحاد السوفيتي وإيران، والذي ألغى القيود المفروضة على حرية الملاحة. واتفاق آخر عام 1940 خاص بتحديد المياه الإقليمية الخاصة بهما والانتفاع بثروات البحر. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال الدول المطلة على بحر قزوين (أذربيجان، وكازاخستان، وتركمانستان)، طالبت الدول الثلاث بصياغة نظام قانوني جديد تتفق عليه الدول الخمس، ومن ثم أصبح هناك اتجاهان:
الأول: يضم كلًا من روسيا وإيران وتركمانستان، ويدعو إلى اعتبار بحر قزوين حوضًا مائيًّا وبحيرة تتقاسم الدول المتشاطئة احتياطات النفط بها، وتحصل كل دولة بالتساوي على 20% من مساحتها، وهو ما يخدم دولًا ذات إطلالة صغيرة على بحر قزوين مثل إيران، وتلتزم كل منها باتفاقيتي 1921 و1940.
الثاني: تدعمه كل من أذربيجان وكازاخستان، ويدعو إلى سريان قانون البحار على بحر قزوين واقتسام أجزائه المتشاطئة، واعتباره بحيرة حدودية مقسمة إلى خمسة أقسام، كل منها يمثل مياهًا إقليمية تتبع الدول الساحلية المطلة على البحيرة، ولها وحدها الحق في هذا الجزء من البحيرة، وترفض الالتزام بالاتفاقيات السابقة نظرًا لأنها تضمنت الملاحة وصيد الأسماك ولم تركز على استغلال الموارد الطبيعية. ولحل الخلاف بين الدول المتشاطئة وقّعت الدول الخمس، في 12 أغسطس 2018، على اتفاقية الوضع القانوني لبحر قزوين، في محاولة للجمع بين وجهتي النظر الخاصة باعتباره بحرًا أو بحيرة من خلال النظر لسطح البحر كمياه دولية، وتقسيم أعماق البحر إلى مناطق وقطاعات إقليمية، ومنح الدول المطلة عليه حق مد أنابيب بحرية، واقتصار التواجد العسكري في البحر على قوات الدول التي تتقاسمه، وتحديد حصص سنوية لكل دولة من صيد سمك الحفش الذي ينتج الكافيار الفاخر.
وتُعد منطقة بحر قزوين مجالًا حيويًّا لروسيا، فهي إحدى الدول المطلة عليه من الشمال، وفي ظل الخلاف القائم بين دول بحر قزوين حول كيفية تقسيم موارده، دخلت كل من الولايات المتحدة والصين على خط المنافسة على ثروات المنطقة، وأقامت علاقات مع الدول المطلة عليه في إطار عقود استغلال واستكشاف للثروات، بالإضافة إلى إنشاء أنابيب نقل وتطوير منشآت ملحقة مثل الموانئ والطرق البرية وحتى السكك الحديدية، وهو ما مثّل تهديدًا للنفوذ الروسي هناك.
لذا عملت روسيا على احتكار منظومة خطوط الأنابيب لتصدير النفط والغاز إلى الأسواق الخارجية. ولإحكام قبضتها أكثر على الدول المنتجة للنفط والغاز في آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين، اتفق رؤساء روسيا وكازاخستان وتركمانستان، في 12 مايو 2007، على مشروعين لبناء أنبوبي نقل غاز، ينطلق الأول من الحقول الشرقية لتركمانستان، والثاني موازٍ له ينقل الغاز عبر كازاخستان على طول بحر قزوين نحو روسيا لضمان نقل 20 مليار متر مكعب سنويًا، بدءًا من عام 2012. ويدخل هذان المشروعان في إطار توسيع أنبوب بريكاسبيسكي الذي يربط تركمانستان وكازاخستان بروسيا بهدف إفشال مخطط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لبناء أنبوب الغاز العابر لقزوين من أجل نقل الغاز التركماني والكازاخي عبر بحر قزوين إلى أنبوب نابوكو.
وتمثل منطقة بحر قزوين أهمية كبيرة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، فهي منطقة تضم منافِسَيْن إقليميَّيْن للمشروعات الأمريكية هما روسيا وإيران، لذا تعارض واشنطن الجهود الروسية لتحقيق نفوذ في القوقاز وآسيا الوسطى من خلال سعي واشنطن لزيادة إمدادات الطاقة من آسيا الوسطى للمستهلكين في مختلف الأسواق، وحرمان إيران من استغلال وشحن وتطوير وتسويق منتجات الطاقة، ومنع أي دولة من احتكار الإمدادات النفطية في المنطقة، مع العمل على تطوير قدرة دول المنطقة على إنتاج وشحن النفط للخارج.
كما عملت الولايات المتحدة ضمن أهدافها الجيواستراتيجية على ضمان أن يصب معظم إنتاج آسيا الوسطى في الغرب، وحققت نجاحًا مع الانتهاء من خط أنابيب نفط باكو-تبيليسي-جيهان العابر لأذربيجان وجورجيا وتركيا والذي ينقل نفط أذربيجان على مسافة 1760 كلم إلى ميناء جيهان التركي شرقي البحر الأبيض المتوسط، وبدأ في مايو 2005. مع وضع أهداف مستقبلية لتطوير نشاط هذا الأنبوب لينقل غاز كازاخستان من أكتو عبر خط أنابيب تحت البحر والانتهاء من خط أنابيب غاز جنوب القوقاز عبر أذربيجان وأرمينيا، وتطوير ميناء جيهان التركي ليكون منفذًا رئيسيًّا إلى الأسواق العالمية للنفط الخام والغاز المسال. وواجه خط باكو – تبيليسى –جيهان غضبًا روسيًّا، لأنه أول خط أنابيب ينقل نفط قزوين دون الاعتماد على منظومة الأنابيب التي تسيطر عليها روسيا.
كما دخلت الصين على خط التنافس وأقامت علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع دول بحر قزوين كبديل للاحتكار الروسي ولمنافسة النفوذ الأمريكي، بالإضافة إلى تأمين إمداداتها النفطية، وتنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الشرق الأوسط، ومن ثم أقامت الصين عدة مشاريع أنابيب لنقل النفط والغاز، منها أنبوب نقل النفط من كازاخستان نحو شينجيانغ الصينية، وتصل القدرة التصديرية للأنبوب الممتد على مسافة أكثر من 3000 كم إلى ما بين 800 ألف ومليون برميل من النفط يوميًا، وتم تجسيد المشروع عبر ثلاث مراحل، ووصل إلى طاقته القصوى عام 2011.
ودخلت الصين في محادثات مكثفة لبناء خطوط أنابيب أخرى، فاتفقت في أبريل 2007 مع كازاخستان لاستكمال أشغال بناء أنبوب نقل الغاز الموازي لأنبوب نقل النفط في عام 2009، كما تم التوقيع في 14 أكتوبر في بكين على بروتوكول لإنشاء خط أنابيب آخر لنقل الغاز باسم خط أنابيب بينو-شيمكانت، ويضخ 10 مليارات قدم مكعب من الغاز الكازاخي للصين سنويًا.
ونجحت الصين في تجسيد مشروع أنبوب الغاز الرابط بينها وبين تركمانستان في 14 ديسمبر 2009، وينقل للصين ما بين 30 و40 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي، فأصبحت الصين شريكًا تجاريًا هامًا لكل من كازاخستان وتركمانستان، وخلال زيارة الرئيس “شي جين بينغ” إلى منطقة بحر قزوين في سبتمبر 2013 تم توقيع اتفاقيات في مجال الطاقة تقدر بنحو 60 مليار دولار.
ثانيًا- الغاز كسلاح روسي في مواجهة الغرب:
تتعدد الأهداف الروسية من استمرار تصعيد تهديدها للحدود الأوكرانية (أو ربما الإقدام في وقت ما على مهاجمتها) ما بين أهداف أمنية وأهداف اقتصادية. فكما يتردد رسميًا عن الجانب الروسي، تتعلق الأهداف الأمنية بسحب القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي القريبة من حدود دول الاتحاد السوفيتي السابق وحلف وارسو، وتقديم ضمانات أمنية مكتوبة بشأن توسعات حلف الناتو المستقبلية. بالنسبة للكرملين، فإن التوسع في أوكرانيا من شأنه أن يُزيل حاجزًا حاسمًا بين روسيا وحلف الناتو، وهو ما تصبح معه عضوية أوكرانيا في الناتو خطًا أحمر بالنسبة لروسيا. فيما يرى محللون أن الأمر لا يتوقف فقط عند حد اعتبارات أمنية قد يكون حدوثها قريب المدى، وإنما ما تخشاه موسكو أكثر هو وجود نظام سياسي أوكراني يقع خارج نطاق نفوذ الكرملين، وبشكل قد يؤثر على استقرار النظام الروسي.
في خلفية تلك الأهداف الأمنية السياسية، تبرز أهداف اقتصادية مرتبطة بشكل أساسي بتصدير الغاز الروسي، حيث السعي الأمريكي الأوروبي لتقليل اعتماد الأخير على الغاز الروسي، ومحاولات الولايات المتحدة وقف مشروع خط أنابيب (نورد ستريم 2) الواصل بين ألمانيا وروسيا بشكل مباشر بعيدًا عن أوكرانيا عبر فرض العقوبات تارة، أو التهديد مؤخرًا بوقف اعتماد (نورد ستريم 2) في حال تحقق الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى جانب التواصل الأمريكي مع الدول المنتجة للغاز لتوفير إمدادات الطاقة لأوروبا في ظل تصاعد الأزمة الراهنة. وتُعد هذه العوامل مجتمعة عنصرًا مضافًا إلى الصراع الراهن بين روسيا والغرب حول مساحات النفوذ والسيطرة التي يسعى كلٌّ منهما لتعزيزها.
1- الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي: بشكل عام، توفر روسيا حوالي ثلث استهلاك الغاز الطبيعي في أوروبا، والذي يستخدم للتدفئة الشتوية وكذلك لتوليد الكهرباء والإنتاج الصناعي. كما يلجأ الاتحاد الأوروبي إلى روسيا لتوفير أكثر من ربع وارداته من النفط الخام، وهو ما يجعل روسيا أكبر مصدر منفرد للطاقة في الاتحاد.
بشكل أكثر تحديدًا، في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2021، استهلك الاتحاد الأوروبي 291 مليار متر مكعب من الغاز، بزيادة قدرها 6٪ مقارنة بعام 2020. فيما بلغ الإنتاج الأوروبي من الغاز نحو 38 مليار متر مكعب والذي من شأنه تغطية 13٪ فقط من الاستهلاك الأوروبي المحلي، في حين تشكل الإمدادات الخارجية، ومعظمها من روسيا والنرويج والجزائر، حوالي 80% من الغاز الذي يستهلكه الاتحاد الأوروبي. وتبعًا لما ورد بإحصائيات عام 2020 الصادرة عن موقع Statista، فقد كانت روسيا أكبر مورد للغاز إلى أوروبا، وبلغت حصتها 43% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي، وفي النصف الأول من عام 2021، مثل نصيب الغاز الروسي من واردات الغاز الأوروبية نحو 44%، فيما ارتفعت واردات الاتحاد الأوروبي من “الغاز الطبيعي المسال” قليلًا، ولكنها بقيت دون 23%، وتوزعت بين أمريكا وروسيا ودولٍ أخرى.
في جميع أنحاء أوروبا، يختلف الاعتماد على الغاز الروسي بشكل كبير من دولة إلى أخرى، حيث يشتري البعض بالكاد أي غاز روسي، مثل المملكة المتحدة، أو يستخدمون كميات منخفضة من الغاز الطبيعي، مثل السويد. في المقابل، فإن هناك دولًا أخرى خاصة في وسط وشرق أوروبا، بما في ذلك الدول التي كانت جزءًا من الكتلة السوفيتية، تعتمد بنسبة 100٪ -أو قريبة منها- على روسيا للحصول على احتياجات كبيرة من الغاز الطبيعي، مثل: مقدونيا الشمالية، البوسنة والهرسك، مولدوفا، لاتفيا، فنلندا، صربيا.
وبنسبة أقل من اعتماد الدول بوسط وشرق أوروبا، تحصل ألمانيا على أكثر من نصف غازها الطبيعي وأكثر من 30% من إمداداتها من النفط الخام من روسيا، فيما تحصل فرنسا على معظم احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة النووية لكنها لا تزال تعتمد على الواردات الروسية لتلبية احتياجاتها من الوقود الأحفوري، بينما تعتمد إيطاليا على الغاز الروسي في إمدادها بما نسبته 46% من احتياجاتها. وتُشير تقارير إلى أن خطط ألمانيا ودول أخرى للتخلص التدريجي من الطاقة النووية والفحم قد تزيد من اعتمادهم على الغاز الروسي.
ويمكن الإشارة إلى وجود عدد من العوامل التي أسهمت في زيادة الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، منها ضعف الإنتاج المحلي نظرًا لعوامل بيئية تقيد عملية استخراج الغاز (تسببت عملية استخراج الغاز من حقل “غرونينجن” الهولندي إلى حدوث زلازل، وهو ما أدى إلى تقييد الإنتاج بالحقل)، وتضاؤل احتياطيات بحر الشمال بشكل أدى إلى لجوء بريطانيا إلى النرويج في توفير نصف الطلب البريطاني على الغاز، فيما تعاني النرويج نفسها –التي تعد حاليًا أكبر منتج للغاز بالقارة- من ضغوط لوقف استخراج الغاز أو تخفيفه، لما في ذلك من أضرار بيئية. يضاف إلى ما تقدم صعوبة الاعتماد الأوروبي على الغاز المسال بشكل أكبر أو كبديل عن الغاز الطبيعي الروسي لأسباب متعلقة بارتفاع تكلفة الغاز المسال، بشكل لا يتناسب مع الأسعار المحلية الأوروبية، فضلًا عن طرق نقل الغاز المسال وضرورة وجود بنية تحتية مجهزة لاستقباله (يوجد في أوروبا حاليًا نحو 30 محطة لإعادة تحويل الغاز المسال عند درجة حرارة 162 درجة مئوية إلى غاز طبيعي متناسب مع درجة حرارة الغلاف الجوي).
2- خطوط الغاز الروسي إلى أوروبا: تتدفق معظم صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي عبر البنية التحتية الموجودة في خطوط الأنابيب في أوكرانيا. فعندما انهار الاتحاد السوفيتي السابق، احتفظت روسيا بأكبر احتياطيات الغاز في العالم، فيما ورثت أوكرانيا خطوط الأنابيب. ومنذ ذلك الحين، اختلف البلدان حول هذا الإرث. ولذا عمدت روسيا إلى تنويع شبكة الغاز، وتقليل اعتمادها على أوكرانيا عبر عقد شراكات واتفاقات جديدة تستطيع عبرها مد خطوط أنابيب جديدة إلى الدول الأوروبية لا تمر بالضرورة عبر أوكرانيا.
وعليه، جرى العمل على خط أنابيب “يامال – أوروبا” عام 1997، والذي بمقتضاه يتم نقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر المرور ببيلاروسيا وبولندا. وفي عام 2003، بدأت روسيا في استخدام خط أنابيب “بلوستريم” الذي يمر تحت البحر الأسود. وفي سبتمبر 2005، تم التوقيع على اتفاقية بناء الخط الأول من نورد ستريم بحضور المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتم بدء العمل به في عام 2012. وفي عام 2020، تم تشغيل خط أنابيب (ترك ستريم) الواصل بين روسيا وتركيا ومن ثم دول الاتحاد الأوروبي، فيما بدأ العمل في خط أنابيب (نورد ستريم 2) الواصل بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق عام 2018، واكتمل بناؤه في عام 2021، ولكن نظرًا لموقعه في واجهة الصراع الروسي مع الغرب، لم يتم تشغيله بعد، حيث لا يزال ينتظر الترخيص النهائي من هيئة تنظيم الطاقة الألمانية.
وفي أغسطس 2021، توصلت روسيا إلى اتفاق مع المجر، بشأن استيراد الأخيرة للغاز الروسي دون المرور بأوكرانيا، حيث ستحصل المجر على 4.5 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا (3.5 مليارات متر مكعب عبر صربيا من خلال خط أنابيب غاز ترك ستريم، ومليار متر مكعب عبر النمسا).
3- استخدام روسيا للغاز في مواجهة الغرب: غني عن البيان أن روسيا تستخدم سلاح الطاقة بغرض جني منافع اقتصادية، إلى جانب المحافظة على نفوذها السياسي في دول “الخارج القريب” (يُقصد بها تلك الدول التي كانت منضوية تحت مظلة الاتحاد السوفيتي)، وفي حال ما إذا دعت الحاجة إلى ممارسة ضغط سياسي على المستهلكين النهائيين، تستخدم موسكو الغاز بغرض تذكيرهم بمحورية اعتمادهم على الغاز الروسي.
ولا تُقْدِمُ روسيا أبدًا على الاعتراف باستخدامها الطاقة عمومًا أو الغاز على وجه التحديد كوسيلة للضغط، حيث دائمًا ما تقدم شركاتها غازبروم أو روسنفت تبريرًا تجاريًا لقراراتها الضاغطة على المستهلكين، وذلك عند النظر في عدد من حالات تعطل الإمدادات أو نزاعات التسعير. في عام 1993، قطعت روسيا إمدادات الغاز عن أوكرانيا، ظاهريًا للضغط على كييف لإعادة الصواريخ النووية السوفيتية إلى روسيا، هذا على الرغم من ادعاء روسيا بأن ذلك كان بسبب فشل أوكرانيا في دفع ثمن الغاز. وفي أعقاب الثورة البرتقالية في أوكرانيا نهاية عام 2004، والتي أدت إلى الإطاحة بزعيم موالٍ للكرملين واستبداله بشخص يسعى إلى توثيق العلاقات مع الغرب، طالبت شركة غازبروم أوكرانيا عام 2005 بدفع أسعار السوق بالكامل مقابل الغاز المصدر إليها.
مثال آخر، عندما انخفضت إمدادات النفط الروسية إلى جمهورية التشيك في يوليو 2008، أصرت موسكو على أن ذلك كان لأسباب فنية. لكن الكثيرين، بما في ذلك في براغ، كانوا مقتنعين بأن الأمر مرتبط بالقرار التشيكي باستضافة نظام الرادار الأمريكي الجديد المضاد للصواريخ، والذي اعتبرته روسيا تهديدًا.
وفي يناير 2009، في أعقاب النزاع بين روسيا وأوكرانيا حول رسوم العبور، تم حظر إمدادات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي عبر أوكرانيا. وأدى الحصار، الذي لم يحدث حتى في أكثر لحظات الحرب الباردة توترًا، إلى ترك بعض دول أوروبا الشرقية، التي كانت روسيا المورد الوحيد لها، بدون إمدادات في منتصف الشتاء لمدة أسبوعين. واضطرت سلوفاكيا وبعض دول البلقان إلى تقنين الغاز وإغلاق المصانع وقطع إمدادات الكهرباء.
وقبيل تصاعد الأزمة بين روسيا والغرب، كان يتم الترويج لخط أنابيب (نورد ستريم 2) من قبل شركة غازبروم وشركات الطاقة الغربية كمشروع تجاري بحت لتعويض الانخفاض في إنتاج الغاز الأوروبي المحلي. ومع ذلك، ترى الحكومات في أوروبا الوسطى والشرقية، في خط الأنابيب محاولة لزيادة النفوذ السياسي لروسيا عليها، وربما سيسهم هذا الخط في توسع الانقسامات السياسية الأوروبية حول كيفية الرد على العدوان الروسي. وفي الوقت نفسه، تشعر دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا وأوكرانيا، بالقلق من أن يحرمها الخط الجديد من مليارات الدولارات من رسوم العبور السنوية، وكذا إمدادات الغاز المباشرة، وسيضعها تحت رحمة روسيا.
بالفعل، أسفر افتتاح (نورد ستريم 1) عن خسارة سنوية لأوكرانيا قدرها 720 مليون دولار أمريكي، التي كانت تجنيها من عبور الغاز الروسي، وفي حال تشغيل الخط الجديد يمكن أن تخسر كييف نحو 1.8 مليار يورو.
ونتيجة التأخر في منح خط (نورد ستريم 2) الموافقة التنظيمية النهائية، يبدو أن روسيا قد لجأت إلى استخدام سلاح الضغط مجددًا، والذي برزت معالمه في ديسمبر 2021، حيث خفضت روسيا صادراتها من الغاز إلى أوروبا مع اشتداد حدة الأزمة المتعلقة بأوكرانيا. فعلى الرغم من أن روسيا كانت لا تزال تفي بعقودها من الناحية الفنية، إلا أنها توقفت عن بيع غاز إضافي فوري كما كانت تفعل في الماضي، بما أدى في النهاية إلى ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا ثلاث مرات وسط تهديدات بحدوث نقص في إمدادات الطاقة في جميع أنحاء القارة. ويمكن القول إنه خلال الأزمة الأخيرة، نجحت روسيا في استخدام سلاح الطاقة بشكل لا يمكن اتهامها بخرق أي من علاقاتها التجارية، لكنها في الوقت نفسه تمكنت من تذكير ألمانيا، على وجه الخصوص، وبقية أوروبا، مقدار اعتمادهم على الغاز الروسي.
نماذج من استخدام روسيا سلاح الغاز الطبيعي
المصدر:
Rem Korteweg, Energy as a tool of foreign policy of authoritarian states, in particular Russia, (European Parliament website, April 2018) & Massimo Lombardini, Russia e Unione europea: tra dipendenza e interdipendenza energetica, (Institute for International Political Studies (ISPI), February 2022).
ثالثًا- حدود القدرات التنافسية لغاز الشرق الأوسط:
سلطت الأزمة الأوكرانية الضوء على ضرورة الحاجة إلى تنويع إمدادات الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي مع تهديد روسيا بقطع الإمدادات المُغذية لأوروبا عبر الخطوط المارة بأوكرانيا حال فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية عليها. فربما تبدو هذه اللحظة كلحظة أكتوبر 1973 بالنسبة للنفط الخليجي التي اتخذت بعدها الولايات المتحدة قرارًا استراتيجيًا بضرورة التقليل التدريجي للاعتماد على نفط الخليج والبحث عن بدائل محلية. وبالتالي حتى مع احتمالية عدم لجوء روسيا لتسليح الغاز في الصراع الحالي نظرًا لتبعاته السلبية على اقتصادها، فسيظل البحث عن بدائل خيارًا استراتيجيًا لأوروبا للتحرر من الهيمنة السياسية الروسية. وهنا يبرز الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كبديل محتمل، وهو ما يُمكن توضحيه كالتالي:
1- قطر: تُعد بديلًا ممكنًا على المدى البعيد، فهي تمتلك ثالث أكبر احتياطات من الغاز الطبيعي، والمنتج الثاني الأكبر للغاز المسال عالميًا، لا سيمَّا أنها تخطط لزيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 64% بحلول عام 2027 من خلال مشروع توسعة حقل الشمال. ومع ذلك، فهي بديل محدود الفاعلية على المدى القصير، حيث إنها تنتج بطاقتها القصوى وترتبط حوالي 90% من صادراتها بعقود طويلة الأجل مع العملاء الآسيويين تتراوح مدتها بين 20 و25 عامًا، فيما ستكون قادرة على تحويل ما بين 8% إلى 10% فقط من غازها الطبيعي المسال إلى أوروبا بعقود فورية، وحتى هذا الخيار سيستغرق وقتًا، حيث يستغرق شحن الغاز الطبيعي المسال من قطر إلى أوروبا وقتًا أطول منه إلى آسيا، وتُشير التقديرات إلى أنه إذا أرسلت قطر جميع إمداداتها غير المتعاقد عليها إلى أوروبا فسوف تُقدر بنحو 60 ألف متر مكعب في اليوم، وهو جزء بسيط من صادرات روسيا اليومية.
ويظل الخيار الوحيد أمامها هو تعديل بعض العقود الآسيوية مع الصين أو اليابان لإعادة توجيه تلك الإمدادات إلى أوروبا، لكن هذا يتطلب منها دفع تعويضات للعملاء الموافقين، كما أن هذا السيناريو يحمل مخاطر خسارة بعض الأسواق الآسيوية. لكن على المدى البعيد يُمكن أن يجد الغاز المسال القطري طريقه إلى الشبكة الأوروبية التي رفعت قدرتها لاستقبال الغاز المسال وإعادة تغييزه بقدرة بلغت 150 مليون طن متري سنويًا بحلول نهاية عام 2021، وهو ما يحقق مكاسب سياسية واقتصادية للدوحة ليس أقلها التحول لمورد رخيص أكثر موثوقية وأمانًا وشريكًا لاستراتيجية التحول للطاقة النظيفة منخفضة التكلفة، وربما يمنحها ورقة ضغط للمطالبة بإغلاق تحقيق أطلقته المفوضية الأوروبية عام 2018 للنظر في استخدام قطر المزعوم لعقود طويلة الأجل لمنع تدفق الغاز إلى السوق الأوروبية الموحدة.
2- الجزائر: تبرز أيضًا كخيار محتمل أمام الاتحاد الأوروبي باعتبارها ثالث أكبر مزود للغاز في الاتحاد بعد روسيا والنرويج، حيث صدرت حوالي 34 مليار متر مكعب من الغاز إلى الاتحاد الأوروبي عام 2021 (8% من إجمالي واردات الاتحاد) من خلال خطوط أنابيب عبر البحر المتوسط الواصلة إلى إسبانيا وإيطاليا، ومحطة للغاز الطبيعي المسال. وتُشير التقديرات إلى إمكانية أن توفر الجزائر 7 مليارات متر مكعب إضافية من الغاز إلى أوروبا عام 2022 من خلال زيادة الشحنات عبر خط أنابيب “ترانسميد” إلى إيطاليا، وكذلك عبر التوسع الأخير في خط أنابيب “ميدغاز” إلى إسبانيا وربما بعض شحنات الغاز الطبيعي المسال. ومع ذلك، فإن زيادة الاستهلاك المحلي للغاز وعدم الاستقرار السياسي في البلاد وإغلاق خط الأنابيب المغاربي الأوروبي “GME” عبر المغرب إلى إسبانيا يحد من فاعلية البديل الجزائري على المدى القصير. لكن ربما يدفع هذا الاتحاد الأوروبي لممارسة ضغوط سياسية على المغرب والجزائر لتسوية الخلافات السياسية العالقة وإعادة تشغيل خط GME.
3- مصر: حققت مصر الاكتفاء الذاتي من الغاز وتحولت إلى مصدر صافٍ للغاز الطبيعي المسال منذ 2018 بعد تنمية اكتشافات حقل ظهر بالبحر المتوسط، ليستقر إنتاجها اليومي ما بين 6.5 و7 مليارات قدم مكعبة، مما انعكس على ارتفاع صادراتها من الغاز المسال لتصل إلى 4.3 ملايين خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 صعودًا من 0.45 مليون طن خلال الفترة نفسها من عام 2020 (بنسبة ارتفاع 385%)، وشمل ذلك إرسال 75 شحنة غاز مسال إلى الخارج حتى نوفمبر 2021 مقارنة بـ 24 شحنة خلال 2020، وهو ما يجعلها أحد موردي الطاقة الأقرب والأرخص إلى أوروبا، لكنها على المدى القصير لن تكون قادرة على تلبية الاحتياجات الأوروبية المتزايدة كون صادرتها بلغت طاقتها القصوى كما تعمل محطتي الإسالة في إدكو ودمياط بكامل طاقتها.
ومع ذلك، فإن مصر ستكون شريكًا استراتيجيًا لأوروبا في مجال الطاقة على المدى البعيد من خلال العمل كمركز إقليمي لتداول الطاقة، وبالأخص الكهربائية، حيث تمتلك فائضًا بحوالي 26 جيجاوات، وتعمل الدولة على ربط الشبكة المصرية بالأوروبية عبر قبرص واليونان بحوالي 3 جيجاوات بحلول عام 2023 يتم مضاعفتها إلى 6 جيجاوات لاحقًا، كما أنها ستعمل كمعبر للطاقة الكهربائية النظيفة الخليجية والإفريقية حيث وقعت مصر والسعودية اتفاقية للربط الكهربائي في أكتوبر 2021 بقدرة 3 جيجاوات خلال ثلاث سنوات. كما سيلعب قطاع الطاقة المتجددة المصري دورًا في استراتيجية التصدير لأوروبا، حيث سيبلغ إنتاجه بحلول عام 2035 حوالي 90 جيجاوات (42% من إجمالي إنتاج الطاقة محليًا).
4- ليبيا: تمتلك احتياطات كبيرة من الغاز الطبيعي تُقدر بـ 52 تريليون قدم مكعب، ومع ذلك ظلت معدلات الإنتاج منخفضة نظرًا لاعتماد البلاد الأكبر على النفط، إذ يُقدر الإنتاج بـ 2.2 مليار قدم مكعب سنويًا تقريبًا، موزعة بحوالي 700 مليون قدم مكعب من المنطقة الشرقية، وحوالي 1.5 مليار قدم مكعب من المنطقتين الجنوبية والغربية، ويتم التصدير إلى الشبكة الأوروبية عبر خط الأنابيب البحري الوحيد الواصل إلى إيطاليا “غرين ستريم”، إلا أن قدرة الدولة الليبية على تلبية الاحتياجات الأوروبية ضعيفة للغاية لاعتبارات عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الأمنية؛ فاستمرار الانسداد السياسي يُعزز سيطرة المرتزقة على المنشآت الغازية ويضعها ضمن بنك أهداف هجمات المتشددين، كما يعني انقسام قطاع الطاقة الليبي بين المؤسسة الوطنية للنفط وحرس المنشآت النفطية، وخضوعه لثلاث حكومات هي المؤتمر الوطني العام والمجلس الرئاسي في طرابلس ومجلس النواب في طبرق، وهو ما يعرقل خطط صيانة البنية التحتية وتنمية الإنتاج والصادرات.
علاوة على افتقار ليبيا للإمكانيات التقنية اللازمة لزيادة الإنتاج والصادرات وتوقف الاستثمارات المحلية والأجنبية في قطاع الغاز، وتحويل كميات الغاز المخصصة للتصدير إلى أوروبا للاستخدام المحلي وتشغيل محطات الكهرباء؛ حيث تصدر البلاد 24% فقط من إنتاجها الغازي، والباقي يوزع على الاستهلاك المحلي.
5- إيران: تُعد أسواق الطاقة الأوروبية جائزة مغرية أمام طهران، ورغم شراكتها الاستراتيجية مع روسيا (المورد الأكبر للسوق الأوروبية) فإنهما تتنافسان في سوق الطاقة، وهو ما يجعل البعض يطرحها كأحد البدائل المحتملة للغاز الروسي، إلا أن هذا الطرح يواجه معوقات جيوسياسية واقتصادية بالجملة تجعله غير مرجح على المدى القريب، وحتى مع استبعاد الحسابات السياسية الدقيقة لإيران والتي قد تمنعها من الاصطفاف إلى جانب المحور الغربي خلال الأزمة الحالية، فإن تحول إيران لدولة مصدرة للغاز أمر مستبعد على الأجل الفوري، فخلال السنوات الماضية كان الغاز الطبيعي خارج استراتيجية الطاقة الإيرانية ولم يتجاوز حجم صادراته 7% من الإنتاج الكلي مقابل استهلاك 244 مليار متر مكعب محليًا ضمن استراتيجية إحلال الغاز محل النفط لتعظيم الصادرات النفطية، وبالتالي فإنها لم تهتم لإقامة بنية تحتية لشبكات نقل وتسيل الغاز.
ومع اكتشاف حقل غاز تشالوس ببحر قزوين الذي يُعتقد امتلاكه احتياطات تُقدر بحوالي 120 تريليون قدم مكعب، تجددت التكهنات بإمكانية بروز إيران كمورد رئيسي لأوروبا كونه سيمكن طهران من تلبية 20% من احتياجات الغاز الأوروبية، كما ترددت أنباء على استحياء بشأن رغبة إيران إحياء مشروع “خط الصداقة” الهادف لتصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر العراق وسوريا ولبنان، إلا أن تحديات جيوسياسية بالغة تعترض هذا المسار، لعل أهمها الهيمنة الروسية على القرار السوري، فلطالما تقلق روسيا من المنافسة الجيواستراتيجية لإيران في مجال تصدير الغاز، وتحرص على إبعاد صادراتها من الغاز عن أوروبا، علاوة على الأوضاع الأمنية والسياسية الهشة داخل الدول الثلاث وعرقلتها لتنفيذ أي مشاريع تكامل إقليمي. وحتى إن سمحت روسيا مستقبلًا بمشروع كهذا فإنها ستكون شريكًا أساسيًا به يؤهلها للتحكم بعائداته الاقتصادية.
رابعًا- الارتدادات الجيوسياسية على الشرق الأوسط:
لطالما كان الشرق الأوسط أحد مسارح العمليات الذي تدور رحى معارك التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى على أرضه باعتباره يُشكل مجالًا حيويًا لأمنها القومي، وتتشابك مصالحها السياسية والاقتصادية هناك. فقد وجدت المنطقة نفسها جزءًا من الصفقات السياسية التي أعقب الحربين العالمية الأولى والثانية، وفي قلب معركة تكسير العظام خلال الحرب الباردة، ولعل هذا هو ما وضع جذور الاضطرابات الحالية وترك آثارًا سياسية مدمرة ما زال يتردد صداها حتى الآن في جميع أنحاء المنطقة.
وبالتبعية لا يقع الشرق الأوسط بمعزل عن التوترات الجيوسياسية المحتدمة حاليًا في أوروبا الشرقية، كونها تتجاوز مجرد مواجهة بين دولتين إلى محاولة لإعادة صياغة معادلة توازن القوى العالمية التي ترسخت عقب انتهاء الحرب الباردة ورسمت الخطوط الدقيقة لخريطة التفاعلات الجيوسياسية بين الفواعل الدولية والإقليمية الرئيسية المنخرطة بدرجات متفاوتة في قضايا وأزمات المنطقة، مُشكلة المعادلة الأمنية القائمة، تلك المعادلة التي بدأت إرهاصات إعادة تشكلها تتبلور في ضوء عدة متغيرات أهمها تقليص الهيمنة الأمريكية في المنطقة لصالح تشكل محور “روسي-صيني-إيراني” وربما “روسي-صيني-خليجي” بدأ يتموضع لملء الفراغات الناجمة عن الانسحاب الأمريكي، إضافة إلى الانفتاح على القوى الثلاث (إسرائيل، وإيران، وتركيا) بسلسلة من المصالحات الإقليمية، وتبني برامج إصلاحية اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة.
وتُضيف الأزمة الأوكرانية بُعدًا جديدًا لتعقيدات المشهد العربي، فسواء اندلعت الحرب أو لم تندلع، فستحتل ملفات الشرق الأوسط المشتعلة مرتبة متقدمة على أجندة القوتين الدوليتين المتنافستين، فالحضور المكثف للولايات المتحدة وروسيا سياسيًا واقتصاديًا في العديد من الدول العربية يجعلها ساحة رئيسية للتصعيد وأداة ضغط فعالة لا سيمَّا وأن التقديرات تشير إلى عدم حاجة القوات النظامية الروسية خوض حرب مباشرة، وإنما الاكتفاء بحرب بالوكالة تواجه فيها القوات الانفصالية الأوكرانية الجيش الأوكراني، وهي الحرب التي قد تتجاوز المسرح الأوروبي وتنتقل إلى الساحات التي تشهد تقاطعات مصلحية بين وواشنطن وموسكو لإكساب موقفيهما المزيد من القوة والتأثير. وحتى مع دخول الأزمة الأوكرانية إلى مرحلة المفاوضات الحتمية، فإن تبعات ترتيبات تقاسم النفوذ والمصالح ستنعكس بلا شك على الملفات الإقليمية في سوريا وليبيا والعراق واليمن وإيران وغيرها.
علاوة على أن حالة التفكك والوهن والسيولة الأمنية والسياسية التي ضربت دولًا عربية عديدة تقوض قدراتها على المناورة والاستثمار في الأزمة، وتترك مستقبل التسويات السياسية لصراعاتها رهنًا بالصفقات والتفاهمات التي ستعقدها القوى الدولية والإقليمية الفاعلة خلف الأبواب المغلقة. ولعل الصمت العربي إزاء تطورات الأزمة الأوكرانية كاشفٌ عن حجم المأزق العربي واضطرار الدول العربية للسير على خط رفيع لحماية مصالحها وتقليل العواقب المتوقعة على أمنها واستقرارها. فقد حذر الجنرال مايكل كوريلا، المرشح لتولي منصب قائد القيادة المركزية الأمريكية، خلال جلسة استماع نظمتها لجنة الخدمات المسلحة، من أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يؤدي لتوسيع حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وبالأخص في سوريا.
لكن من ناحية أخرى، يعكس هذا الصمت الحسابات الجديدة للدول العربية التي لم تعد مضطرة للاصطفاف تلقائيًا إلى جانب الولايات المتحدة أو اتخاذ مواقف عدائية صريحة ضد موسكو، كإحدى تبعات تراجع ملفات الشرق الأوسط -باستثناء الملف النووي الإيراني- على قائمة أولويات واشنطن وإدراك الدول العربية ضرورة عدم الاعتماد الكلي على المظلة الأمنية الأمريكية وتنويع شراكاتها الدولية. وعليه، يناقش هذا الجزء تبعات الأزمة الأوكرانية على التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط:
1- تعقيد الأزمات الراهنة:
تبرز الحالة السورية كإحدى الساحات المرشحة بشدة لتجليات الارتدادات الإقليمية لصراع إعادة توزيع مراكز القوى العالمية الدائر حاليًا على الأراضي الأوكرانية، إذ إن استقرار خطوط التماس بين جيوش وأذرع خمس قوى إقليمية ودولية منخرطة ميدانيًا في سوريا خاضع لمعادلة توازن دقيقة جرى الاستقرار عليها بموجب تفاهمات واتفاقيات عديدة تم التوصل إليها على مدار السنوات الفائتة، وأي إخلال بها سينعكس مباشرة على الأوضاع الميدانية بالبلاد التي قد تجد نفسها حلقة ضمن المنافسة الجيوسياسية الأكبر على زعامة العالم، وهي لطالما كانت كذلك. فقاعدتا حميميم وطرطوس المطلتان على البحر المتوسط أُنشئتا بالأساس لتطويق الخاصرة الجنوبية لقوات الناتو الرابضة في قاعدة إنجرليك التركية، والعمل كقاعدة متقدمة للدفاع عن شبه جزيرة القرم، وإظهار القدرة الروسية على التحريك المضاد للأسلحة والقاذفات الاستراتيجية، حيث تضم القاعدتان قاذفات طويلة المدى طراز Tu-22M3 ومقاتلات طراز MiG-31K وصواريخ كينجال الفرط صوتية وصواريخ اعتراضية K22H. وفي 25 ديسمبر 2021، حركت موسكو أكثر من 20 طائرة ومروحية من قاعدة حميميم إلى المطارات في الحسكة ودير الزور لتقارب القوات الأمريكية شرقًا.
وفي الصراع الأخير لجأت روسيا إلى سوريا وقاعدتيها هناك (حميميم، وطرطوس) لإرسال رسائل تحذيرية مضادة إلى الولايات المتحدة والناتو وتأكيد وجودها العسكري في الشرق الأوسط، حيث نفذت البحرية الروسية مناورة شرق المتوسط بمشاركة 15 سفينة حربية و6 سفن إنزال من أساطيل الشمال وبحر البلطيق والبحر الأسود والمحيط الهادي كانت قد وصلت إلى المركز اللوجيستي للبحرية الروسية في طرطوس بالتزامن مع تفقد وزير الدفاع الروسي سيرجي لافروف للقاعدة ذاتها، وذلك ردًا على مناورة للناتو ضمت حاملات الطائرات هاري ترومان الأمريكية، وشارل ديجول الفرنسية، وكومتي إيدي كافور الإيطالية، إلى جانب سفن هجومية وسفن دعم. كما كثّفت موسكو أنشطتها العسكرية في سوريا، حيث أجرى ضباط روس مناورات مع وحدة دفاع جوي تابعة للجيش السوري في 15 يناير الماضي، أعقبها في 24 من الشهر ذاته تسيير دورية مشتركة بين طائرات عسكرية سورية وروسية على طول المجال الجوي السوري بما في ذلك مرتفعات الجولان.
وتعكس تلك المواجهة المتوسطية الأهمية الاستراتيجية لسوريا في المعركة السياسية الدائرة الآن بين الغرب وروسيا التي ستتجاوز النطاق الجغرافي لشرق أوروبا إلى مناطق القيادة المركزية الأمريكية. فبينما تنظر إليها موسكو باعتبارها إعلانًا لعودتها القوية إلى المسرح الدولي، ترى واشنطن تنامي الحضور العسكري الروسي هناك تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية في العراق وسوريا والبحر المتوسط، وهو ما سيجعلها دائمًا خاضعة للتفاهمات والتجاذبات بين الدولتين، وربما يعوق الخطوات المتقدمة التي قطعها الجانبان في اتجاه تسوية الأزمة بموجب سياسة “خطوة مقابل خطوة”، ولا سيمَّا إذا أجازت روسيا لإيران تحريك مليشياتها لتصعيد الضربات ضد المصالح والقوات الأمريكية بالبلاد، بما يدفع الأخيرة لمحاولة قلب الأوراق لتكبيد نظيرتها الروسية خسائر فادحة، وهو ما من شأنه عرقلة التسوية السياسية للأزمة وإطالة أمدها.
الأمر نفسه يمتد –لكن بدرجات أقل– إلى ساحات الصراعات الأخرى المفتوحة في الشرق الأوسط، فالتفاهمات الإيرانية الروسية لإلحاق الأذى بالمصالح الأمريكية ستمتد إلى العراق أيضًا بما يُضفي مزيدًا من التعقيد على العملية السياسية المتعثرة منذ انتخابات أكتوبر 2021. كما تبرز ليبيا كورقة ضغط على الأوروبيين يُمكن لموسكو توظيفها من خلال التهديد بإثارة موجة لاجئين جديدة عبر المتوسط.
وفي هذا السياق الإقليمي المضطرب ربما يتأثر مسار مفاوضات فيينا النووية بحسابات الأطراف المتناقضة، فبينما قد تستعجل واشنطن التوصل لاتفاقية لسبيين؛ الأول: محاولة ترميم صورتها الدولية التي تضررت بشدة على وقع فشلها في تبني نهج إيجابي مُبادر لإنهاء الأزمة الأوكرانية، وارتهان استجابتها للمناورات الروسية، لا سيمَّا مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس. والثاني: إغلاق الملف الذي يحتل صدارة اهتماماتها في المنطقة لتحويل اهتمامها شرقًا نحو المحور “الصيني-الروسي” الذي يطل برأسه بقوة. تأتي على الجانب الآخر روسيا التي قد تضغط على حليفتها الإقليمية لعرقلة التوصل لاتفاق في الوقت الراهن. فيما قد تستغل طهران المأزق الأمريكي الأوروبي الحالي وحالة الارتباك والتشتت القائمة لانتزاع المزيد من الامتيازات والضمانات الغربية.
وفي كل الأحوال، تبرز إيران كمستفيد أكبر –وربما استثنائي بين القوى الإقليمية– من الأزمة الأوكرانية؛ فالتوصل إلى اتفاق ورفع العقوبات في ظل الانشغال العالمي يعني فك العزلة الإيرانية ومنحها مساحات حركة إضافية إقليميًا، كما أن فشل التوصل لاتفاق سيؤدي لارتماء أكبر في أحضان الصين وروسيا وربما تجاهلهما للعقوبات الغربية المفروضة على إيران، والإسراع باتفاقية شراكة استراتيجية مأمولة مع روسيا لمدة 20 عامًا على غرار الاتفاقية الموقعة مع الصين لمدة 25 عامًا، وربما تقرر موسكو مد طهران بأنظمة دفاع جوي متطورة، خاصة أنها ليست محظورة بموجب العقوبات الغربية.
2- إعادة صياغة التوازنات الإقليمية:
يحمل التصعيد والتصعيد المضاد في إقليم الدونباس عنوان “إعادة تشكيل النظام الدولي” بما يراعي تنامي القدرات الشاملة لروسيا والصين وتطلعهما لاحتلال مواقع قيادية داخل النظام الدولي الذي لا يجب أن تُهيمن عليه الولايات المتحدة بمفردها. ولا شك أن المرحلة المقبلة ستشهد ميلاد نظام دولي سيشهد صعودًا لمحور الصين وروسيا على حساب الولايات المتحدة وأوروبا، بما يعكس إعادة توزيع عناصر القوة الشاملة السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية لصالح الأول. وهذا تحول مهم بالنسبة للشرق الأوسط الذي ظل حتى وقت قريب محسوبًا على المحور الغربي قبل عمليات إعادة الهندسة التي قادتها دوله إدراكًا منها للإرهاصات المبكرة لتحولات النظامين الدولي والإقليمي اللذين يتطلبان منها اعتمادًا أكبر على الذات وتنويع الشراكات الاستراتيجية. وعليه، فإن أحد التداعيات المباشرة للأزمة الأوكرانية سيكون تعزيز سياسة التوجه شرقًا في ظل تراجع موثوقية الولايات المتحدة والميل لرؤية نظام عالمي متعدد الأقطاب.
ولعل أحد الارتدادات الإقليمية المتوقعة للأزمة الأوكرانية هو تصاعد الدور الإقليمي لإيران وقطر؛ إذ سيترسخ تحالف “إيران-روسيا-الصين” الذي نشأ كجزء من جهود تشكيل نظام إقليمي يتحدى المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، وانعكس في منتديات دولية متعددة كمسار أستانة بشأن سوريا ومنظمة شنغهاي للتعاون. ومع احتمالات العودة للاتفاق النووي، تتوقع تقديرات أن تقود طهران دورًا أوسع في عملية التسوية السورية برعاية موسكو التي ما إن عادت للشرق الأوسط عبر البوابة السورية أكسبت الدور الإيراني في الأزمة بُعدًا سياسيًا، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن اتجاهات التأثير على مساعي إعادة إدماج سوريا ضمن المنظومة العربية عبر بوابة جامعة الدول العربية، وعلى عملية التقارب الإيراني الخليجي التي تسير ببطء.
أما قطر فقد صُنفت “حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو” لتصبح بذلك واحدة من 18 دولة فقط على مستوى العالم تحصل على هذا التصنيف والثالثة في منطقة الخليج بعد الكويت والبحرين، وهو ما يجعلها شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، ويعزز تموضعها الاستراتيجي مع الحلفاء الأمريكيين الآخرين في المنطقة وخارجها، ويمنحها القدرة على التحوط الاستراتيجي ضد المخاطر السياسية المحتملة، لا سيمَّا وأن شبح تجربة المقاطعة العربية لا يزال ماثلًا أمامها، علاوة على رفع قدراتها العسكرية بمنحها حق الوصول التفضيلي إلى التكنولوجيا العسكرية الأمريكية المتقدمة والمعدات الدفاعية، وهي المكانة التي كانت تطلع إليها قوى خليجية أخرى في إطار المنافسة على لعب دور الراعي للمصالح الأمريكية الذي يُكسب حاملة مركزية في المشهد الاستراتيجي الأمريكي. ويتيح هذا التصنيف لقطر نفوذًا إقليميًا أكبر وحضورًا مميزًا على الساحة الدولية يهيئ لها لعب أدوار فاعلة في بعض الملفات الإقليمية أو الدولية ذات الأبعاد الشرق أوسطية. وفي هذا السياق، تُشير توقعات إلى احتمالات قيادتها جهود الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران حال تعثر مسار بغداد.
3- تعقّد حسابات القوى الإقليمية:
تبرز في هذا الصدد كل من تركيا وإسرائيل، فكلاهما يسيران على حبل مشدود في تعاطيهما مع الأزمة الأوكرانية. فمن جهة، تراعي إسرائيل حسابات دقيقة بين حليفتها الاستراتيجية وراعيتها التاريخية واشنطن، وبين شريكتها الاستراتيجية موسكو لضمان ألا تصبح صواريخها الموجهة للأهداف الإيرانية داخل سوريا –التي تعدها تهديدًا لمجالها الحيوي وأمنها القومي– في مرمى الدفاعات الجوية الروسية التي تُغطي المجال الجوي السوري؛ فالطريقة الوحيدة التي يُمكن لإسرائيل أن تواصل بها هجماتها الجوية المتكررة على أهداف إيرانية في سوريا هي موافقة القوات الجوية الروسية على استخدامها للمجال الجوي السوري، ولهذا قام رئيسا الوزراء الإسرائيليان بنيامين نتنياهو ونفتالي بينيت بإحدى عشرة زيارة إلى روسيا بين عامي 2015 و2021 للتنسيق بشأن العمليات الجوية الإسرائيلية في سوريا وضمان عدم تعرضها للمصالح الروسية، ولعل الدوريات المشتركة بين الطائرات الروسية والسورية فوق مرتفعات الجولان تحمل في إحدى دلالاتها إنذارًا روسيًا لإسرائيل بإمكانية إنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا إذا ما اصطفت الأخيرة إلى جانب المحور الغربي في الأزمة الأوكرانية.
وتنظر تل أبيب لسوريا كجزء رئيسي مما تسميه “الحملة بين الحروب” التي تتعلق في أحد أهدافها بمنع نقل الصواريخ الإيرانية المتطورة وأنظمة التوجيه عبر سوريا إلى حزب الله في لبنان، وإحباط محاولات المليشيات المدعومة إيرانيًا من فتح جبهة أخرى مع إسرائيل على مرتفعات الجولان. فعلى سبيل المثال، نفذت إسرائيل أوائل فبراير الجاري سلسلة ضربات ضد شحنات صواريخ إيرانية الصنع في طريقها إلى لبنان بالتنسيق مع موسكو لتجنب إلحاق الضرر بالقوات الروسية في سوريا. كذلك، تُثير الأزمة الأوكرانية حساسية من نوع آخر بالنسبة لإسرائيل وهي المتعلقة باحتمالات توسع أنشطة الأذرع الإيرانية بطلب أو صمت موسكو، وهو ما يضعها في دائرة الاستهداف المباشر إذا ما تبنت مواقف مناهضة لروسيا. علاوة على أن فرض أي عقوبات على روسيا سيضر بصناعتها التكنولوجية، كونها تبيع تقنياتها غير العسكرية للشركات الروسية بشكل روتيني.
وقد دفعت تلك الاعتبارات الأمنية والاقتصادية تل أبيب لعرض وساطة مبكرة بين الخصمين بطلب من كييف خلال أبريل وأكتوبر من العام الماضي، لكنها حظيت برفض موسكو. ومن المتوقع أن يظل الموقف الإسرائيلي الرسمي محايدًا لا يدعم طرفًا على حساب الآخر، رغم شراكتها الدفاعية مع كييف، ولا يرجح انضمامها لأي عقوبات غريبة قد يتقرر فرضها في وقت لاحق.
كذلك الحال بالنسبة لتركيا التي قدمت نفسها باعتبارها صانع سلام إقليميًا ووسيطًا محايدًا، فرغم ميل موقفها الرسمي للجانب الأوكراني لاعتبارات عديدة تتعلق برغبتها في تأمين إمدادات تكنولوجيا المحركات العسكرية ذات الأهمية الاستراتيجية لصناعتها الدفاعية وحماية الشراكة الاقتصادية بين البلدين، وتفادي الاضطرار للموازنة بين التزاماتها بموجب الناتو وعلاقاتها الاستراتيجية مع موسكو حال قرر الأول فرض عقوبات على روسيا أو طالبها بتأمين المزيد من المعدات العسكرية لكييف، علاوة على موازنة النفوذ الروسي المتنامي في البحر الأسود منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 الذي قلب الميزان العسكري لصالح موسكو، وتحسين العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة والناتو، وتقديم نفسها كفاعل دولي محايد قادر على صناعة القرار الإقليمي وقيادة وساطات ناجعة فشلت الحكومات الغربية في إنجازها.
ومع ذلك، فإنها لن تُقدم على استفزاز موسكو بتجاوز خطوطها الحمراء لضمان عدم الإضرار بمصالحها التجارية والاقتصادية معها فيما يتعلق بقطاعات الغاز والسياحة والواردات، ولاعتبارات التشابكات المصلحية بين البلدين في ساحات متعددة بين شمال إفريقيا وبحر قزوين، وارتهان مصالحها داخل بعض مسارح العمليات بموافقة موسكو. فعلى سبيل المثال، يُمثل الرضا الروسي ضمانًا لاستمرار السيطرة التركية على المنطقة الآمنة التي أنشأتها القوات التركية بفعل العمليات العسكرية المنفذة شمال سوريا، كما تخشى أنقرة التصعيد الروسي في إدلب إذ إن بضع طلعات جوية هناك سيكون كافيًا لإجبار ملايين السوريين على التوجه نحو الحدود التركية، وهو أمر لا تستطيع الأخيرة تحمله. كما تحرص تركيا على استمرار نمط “التعاون التنافسي” التي طورته مع روسيا بحيث يدعمان أطرافًا متعارضة في النزاعات الليبية والسورية وجنوب القوقاز بينما يظهران مستويات تنسيقية عالية وقدرة على إدارة خلافاتهما واحترامهما لمساحات نفوذ بعضهما بعضًا.
وفي هذا الإطار، ستحافظ تركيا على موقف متوازن بين روسيا وأوكرانيا، وربما تقود في مرحلة لاحقة وساطة بين البلدين ضمن العودة للنهج البراجماتي وللالتفات مجددًا لعمقها الأوراسي وحلفائها الغربيين بعدما فشلت رهاناتها الأيديولوجية على التيارات الراديكالية في الشرق الأوسط في إحياء مشروعها الإمبراطوري العثماني.
4- تهديد الأمن الغذائي وتفاقم الأزمات الإنسانية:
إن اندلاع مواجهة مباشرة بين روسيا وأوكرانيا وفرض عقوبات اقتصادية غربية على الأولى، وهو سيناريو يظل قائمًا وإن بدرجة منخفضة في ظل حالة اللا يقين وتضارب التقديرات الاستخباراتية بشأن احتمالات حدوث حرب؛ يعني وضع الأمن الغذائي في كثير من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مهب الريح، حيث يشكل حوض البحر الأسود مصدرًا رئيسيًا لإمدادات المنطقة من الحبوب وبالأخص لبنان (تمدها أوكرانيا بـ 50% من واردات القمح)، وليبيا (43% من واردات القمح مصدرها أوكرانيا)، ومصر (توفر روسيا وأوكرانيا 97% من واردات القمح وتشكل أوكرانيا المورد الرئيسي للذرة)، واليمن، وسلطنة عُمان، وإسرائيل، وتركيا. ليس فقط الحبوب فواردات بعض الدول العربية، لا سيما الكويت والإمارات والسعودية من الدجاج الأوكراني ستتراجع، حيث تصدرت خمس دول عربية قائمة أبرز عشرة مستوردين للدجاج الأوكراني عالميًا عام 2020.
وعليه، فإن انخفاض الإنتاج الزراعي نتيجة تدمير الأراضي الزراعية أو تعثر موسم الزراعة المقبل في الربيع أو ارتفاع أسعار الأسمدة والطاقة، أو تعطل سلاسل الإمداد نتيجة إغلاق موانئ البحر الأسود (تصدر أوكرانيا 95% من حبوبها عبر البحر الأسود وذهب أكثر من 50% من صادراتها من القمح إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عام 2020)؛ سيؤدي إلى نقص إمدادات الحبوب إلى المنطقة، وبالتالي ارتفاع أسعارها بما يضغط على الاقتصادات الإقليمية المتضررة جراء تداعيات جائحة كورونا، لا سيمَّا أن أسعار القمح ارتفعت بحوالي 45% تقريبًا خلال 2021 متأثرة بالجائحة، وواصلت ارتفاعها خلال الشهرين الأخيرين متأثرة بالأزمة الأوكرانية.
ويثير خطر انعدام الأمن الغذائي وتصاعد الضغوط الاقتصادية مخاوف بشأن تأجيج الغضب الشعبي داخل الدول العربية الهشة التي تكافح من الناحية الاقتصادية بما يفاقم الاضطرابات السياسية. كما أنه سيفاقم من الأزمات الإنسانية المتردية في دول كاليمن ولبنان اللذين يكافح سكانهما للوصول إلى الغذاء يعتمدان بشكل كبير على المساعدات الدولية التي قد تتأثر ولا تستطيع تلبية الحاجة المتزايدة للأشخاص، لا سيمَّا أن التمويل الدولي للمساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار يُعاني ضغوطًا بالفعل.
ختامًا، من غير المرجح حدوث قطع مفاجئ وكامل للغاز الروسي عن أوروبا، فعلى الرغم من استمرار التهديد الروسي باستخدام سلاح الطاقة ضد الغرب، لكنها في المقابل مستفيدة أيضًا. حيث تشير تقديرات إلى ما تمثله صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا من أهمية كبيرة في الميزانية الروسية، فضلًا عن موقع أوروبا كسوق رئيسي للغاز الروسي. وعلى الرغم من وجود بدائل يمكن لروسيا الاعتماد عليها جزئيًا في تصدير الغاز (كالصين، والهند، ودول جنوب شرق آسيا، وإفريقيا)، لكن يظل التمسك الروسي باستمرار التصدير إلى أوروبا وإتاحة مواردها من الطاقة عمومًا والغاز على وجه التحديد بشكل مستمر ودائم غير منقطع، ضامنًا للحيلولة دون دفع الدول الأوروبية بشكل جدي للبحث عن بديل –حتى وإن كان مكلفًا- بما يفقد روسيا سلاحها الذي تضمن في إطاره فرض رؤيتها ومصلحتها القومية، وتواجه بمقتضاه الضغوط الغربية.
على سبيل المثال، برزت أهمية السلاح الروسي في أعقاب ضم القرم عام 2014، حيث تجنبت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات اقتصادية على قطاعي الغاز والنفط التقليدي في روسيا ردًا على ضم شبه جزيرة القرم أو التدخل في شرق أوكرانيا. في الواقع، على الرغم من العلاقات السياسية الصعبة نتيجة لأعمالها في أوكرانيا، استمرت إمدادات الغاز الروسية. ففي يونيو 2015، وقّع الطرفان الروسي والألماني اتفاقية بناء نورد ستريم 2. وفي ديسمبر 2017، اشترت المملكة المتحدة شحنة من الغاز الطبيعي المسال من مصنع يامال الجديد للغاز الطبيعي المسال في روسيا، بما يشير إلى أن هناك حدودًا لمدى استعداد الدول الأوروبية استخدام الغاز في معالجة خلافات سياستها الخارجية مع روسيا.
وفي حال حدوث هجوم عسكري روسي على أوكرانيا، أو تطور الأحداث إلى الحد الذي يرتب فرض عقوبات اقتصادية غربية على قطاعي النفط والغاز في روسيا، من المتوقع أن يكون مردود هذه العقوبات بشكل أكبر على الدول الأوروبية. وتشير العديد من التحليلات إلى أن اقتصاد روسيا المحصن حاليًا قد يُمكّنها من التغلب على جولة جديدة من العقوبات لعدة سنوات، هذا بالنظر إلى نمو احتياطيات روسيا من العملة الصعبة إلى 630 مليار دولار، مضافًا إلى ذلك تنامي الطلب على النفط والغاز. وفي الوقت نفسه، فإن أسعار الغاز والنفط مرتفعة للغاية، لذا في حال ما إذا قررت موسكو قطع أو خفض وارداتها من الطاقة الموجهة إلى أوروبا ردًا على العقوبات، فمن المتوقع أن تتضرر خزائن الدول الأوروبية بشكل أكبر والتي ستسعى جاهدة لتغطية نقص الإمدادات.
وبالنظر إلى الشرق الأوسط كبديل محتمل لتدفقات الغاز الطبيعي، فإنه لن يكون قادرًا بمفرده على تغطية تدفقات الغاز الروسي المُقدرة بحوالي 130 مليار متر مكعب وفقًا لعام 2021، لكنه مرشح بقوة ليصبح شريكًا مستقبليًا لاستراتيجية التحول الأخضر الأوروبية من خلال صادرات الطاقة النظيفة، إذ تبدو مساهمته في المرحلة الانتقالية للتحول الطاقوي قاربت حدودها القصوى.
ورغم ما يبدو من تصدر الشرق الأوسط لتفاعلات الأزمة الأوكرانية؛ إلا أن تصاعد تطوراتها سيحول الأنظار العالمية بعيدًا عن أزمات المنطقة وسيرتب قضاياها ثانيًا وربما ثالثًا على أجندة الاهتمامات الدولية، وهذا يعني تأخر التسويات السياسية للصراعات، وتراجع جهود مكافحة الإرهاب، والإغفال عن الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار، بما ينعكس على تنامي نشاط التنظيمات الإرهابية التي أعادت ترتيب صفوفها واستعادت بعض إمكانياتها واستطاعت تنفيذ عمليات نوعية داخل العراق وسوريا خلال الأسابيع الأخيرة لتأكيد وجودها في خضم الانشغال العالمي باحتواء التداعيات الاقتصادية المدمرة لأزمة كورونا، علاوة على تشجيع المزيد من الهجمات الإيرانية بالوكالة في المنطقة في ظل الشعور بالإفلات من العقاب العالمي، على غرار المحاولة الإيرانية الأخيرة لتغيير قواعد الاشتباك الميداني باستهداف المنشآت المدنية الإماراتية للمرة الأولى.