تتبادل روسيا والناتو سياسة دفاعية خطرة، ستعيد رسم خرائط النفوذ بينهما، فبينما بادرت روسيا إلى التقدم عسكريًا إلى مناطق نفوذ الناتو عبر أوكرانيا يسارع الحلف حاليًا إلى تعزيز بنيته العسكرية في جناحه الشرقي بشكل غير مسبوق، وبالتالي تعد الحرب الروسية في أوكرانيا مجرد حلقة في مسلسل صراع طويل سيمتد بينهما في المستقبل، إلا أن حالة انعدام الثقة إلى حد العداء ما بين الطرفين ستصعب مهمة ما يمكن تصوره بشأن أي ترتيبات أمنية مشتركة بعد الحرب، وعلى الأرجح سوف تكون الخطوة التالية هي إطلاق سباقات تسلح محمومة ستقوض عمليًا كافة الترتيبات الأمنية ما بعد الحرب الباردة، وستحرك روسيا أسلحتها الاستراتيجية إلى أوكرانيا كما هو الوضع في بيلاروس، لإغلاق “الباب المفتوح” الذي انتهجه الحلف كسياسة في العقود الثلاثة الماضية، والتي سيستبدلها الحلف بسياسات الردع والتفوق العسكري في إطار إعادة بناء موازين القوة الجديدة مقابل روسيا.
قد يستغرق الوصول إلى هذا السيناريو سنوات، حيث لا يزال من الصعوبة بمكان التنبؤ بنهايات الحرب الأوكرانية، وعند أي نقطة ستتوقف الآلة العسكرية الروسية، وما إذا كانت ستكتفي روسيا بالسيطرة على النصف الشرقي من أوكرانيا، كخط دفاع متقدم على حدود الناتو الشرقية، أم أنها ستواصل السعي للسيطرة العسكرية الكاملة على أوكرانيا، وبالتالي سترسم “خط النار” على حدود التماس مع بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا ومولدوفا وبلغاريا. هناك محطة أخرى فاصلة حينما تنتهي فاعلية معاهدة “ستارت 3” في فبراير 2016، والمتعلقة بالحد من الأسلحة الهجومية، والتي جددتها موسكو وواشنطن (فبراير 2021). هذا في حال صمدت المعاهدة بالفعل حتى هذا التاريخ حيث أصبحت مهددة إلى حد كبير.
“التفوق الدفاعي”: نهج الناتو الاستباقي تجاه روسيا
في هذا السياق، هناك إشارات واضحة في رؤية “الناتو” لعام 2030 التي وضعتها مجموعة Reflection Group والتي تستند إلى تقوية الحلف بأسرع ما يمكن لضمان “التفوق الدفاعي” في السنوات العشر المقبلة، حيث لم يكن متوقعًا أن تتطور التوترات ما بين روسيا والحلف بهذه السرعة، لكن المجموعة أيضًا وضعت احتمالًا آخر أشارت فيه إلى وجود حالة من “اللا يقين” حول مستقبل المهددات التي قد تواجه الحلف خلال العقد الثامن من عمره حتى الوصول إلى عام 2030، في ظل حالة تنافس القوى العظمى التي وصفت بعضها (روسيا والصين) بالاستبدادية، وربما لن تغير من طبيعة حالة الاستقرار التي عاشها الحلف ما بعد الحرب الباردة، إلى حالة عدم الاستقرار، التي ستتطلب من الحلف التكيف السريع مع قدر أكثر من المهددات والمخاطر، عبر نهج تكاملي بين أعضائه سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وتضييق فجوة التباين بشكل عام، أو في الحد الأدنى تقارب الأولويات السياسية والاستراتيجية لدى هولاء الأعضاء للاستجابة لتلك التهديدات والمخاطر المتعددة، وفي المقدمة منها قائمة من التحديات التي تمثلها روسيا والصين، فقد تضمنت الرؤية 14 بندًا تمثل نصائح لصناع القرار داخل الناتو، 10 بنود منها على الأقل أشارت بشكل مباشر إلى خطر كل من موسكو وبكين، بدءًا من أسلحة الدمار الشامل وحروب الظل وصولًا إلى الحرب الثقافية. لكن يبدو أن موسكو عجلت بالضربة الأولى التي ستفرض على الحلف اختزال تلك الأعوام، وفق سياسة “تكييف” أكثر حزمًا من أجل الردع.
حتى الآن يمكن القول إن هناك إرهاصات لسباقات الردع التالية، التي سيتبناها الطرفان خلال السنوات المقبلة، في إطار عدد من المؤشرات ومنها على سبيل المثال:
سباقات الردع: حيث سيسعى كل طرف إلى تعزيز قدرات الردع على خط التماس الصفري تقريبًا، فبالنسبة للناتو سيكون هناك اعتماد رئيسي على دور الولايات المتحدة في هذا الصدد، فقد أنفقت واشنطن قرابة 260 مليار دولار على التوسع في الدرع الصاروخي لتغطية الجناح الشرقي، في الفترة التي أعقبت استحواذ روسيا على “القرم”، وعملية الانتشار البحري في البحر الأسود، وزيادة القدرة الاستراتيجية للأسطول السادس، بالإضافة إلى قوات التدخل السريع متعددة المهام، ورفع مستوى التنسيق المشترك بين واشنطن والناتو، في السابق كانت إيطاليا هي مركز إدارة هذه العمليات، وربما ستظل على هذا النحو في المستقبل، لكن من المؤكد أن بولندا ستتحول مبدئيًا إلى رأس حربة في سباقات الردع، كمركز متقدم على خط التماس مع روسيا، وقيادة حيوية للدرع الصاروخي الأمريكي، في إطار سياسة تعزيز الجبهة الأمامية للناتو. مع الوضع في الاعتبار أن واشنطن أعلنت (9 مارس 2022) أنها تدرس نشر منظومات “باتريوت” هناك، وإن كان البنتاجون قد أعلن بالفعل -في الوقت ذاته- عن نشر بطاريتي باتريوت في بولندا، في إطار الاستجابة للمادة الخامسة من ميثاق التحالف للدفاع بشأن أي خطر يتهدد أعضاءه، وربما جاء هذا الإعلان بشكل متزامن كرد فعل على رفض واشنطن مقترحًا بولنديًا بنشر مقاتلات “ميج 29” الروسية في قاعدة “رامشتاين” الألمانية ووضعها تحت الولايات المتحدة، بالنظر إلى صعوبات لوجستية، ولا سيما عملية تشغيل مقاتلات روسية الأصل.
سياسات الدفاع المستقلة: على الجانب الآخر، أحد الدروس المستفادة لدى القوى الأوروبية أن الحرب الأوكرانية وضعت الأمن الأوروبي على المحك، ولا يمكن الارتكان إلى استراتيجية الدفاع التي ينتهجها الناتو فقط، بينما هناك حاجة لبناء قدرات ردع جديدة ومستقلة، وهو ما يظهر من اتجاه ألمانيا إلى إعادة بناء قوتها العسكرية، وإن كان لا يزال من المبكر تقييم هذا المسار، لكن من المؤكد أن دولًا أخرى ستحذو حذوها، فهناك إشارات فرنسية في هذا السياق على نحو ما أشار إليه رئيس الأركان الفرنسي تييري بوركار. وعلى الأرجح لن تكون هذه البنية مستقلة تمامًا، ففي الأخير سيتم ربطها بالناتو، ولا يزال من غير المعروف أي من البلدين (ألمانيا وفرنسا) سيعيد بناء وتعزيز قدراته العسكرية أسرع من الآخر، استعدادًا لمستقبل متوتر مع روسيا. لكن من الواضح أن الجميع تبنّى سياسة عدم الانخراط في الحرب الأوكرانية، ورد فعل واشنطن حيال المقاتلات التي تمتلكها بولندا من إرث الاتحاد السوفيتي تعكس هذه الدلالة.
تعزيز الجناح الشرقي للناتو عسكريًا: ومن المربك في هذه التصورات الحديث عن عنصر المفاجأة الروسية، أو التحدي الذي يعكسه الخطاب الأوروبي بأن مواجهة من هذا النوع كانت محتملة في نهاية العقد الجاري. بحلول عام 2030، وفقًا لحديث “بوركار”، ربما كان هناك تصور بأن هناك حاجة إلى جاهزية أوروبية للتعامل مع سباقات تسلح وتمدد نفوذ مزودج من كل من روسيا والصين معًا، وليس روسيا فقط، وهو ما يشير إلى فجوة التقديرات الاستراتيجية، لا سيما وأن “الناتو” منذ قمة “وارسو” 2016، شخص هذه الحالة، ومنذ 2018 بدأت واشنطن فعليًا نهج سياسة الردع المتقدم، الذي حمل إشارة واضحة من أمين عام الحلف ينس سولتنبيرج “متحدون ضد روسيا”، ووضعت واشنطن (تحت مظلة الحلف قوات انتشار إضافية) منها أربع كتائب متعددة الجنسيات في دول البلطيق (إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا)، بالإضافة إلى بولندا –مقر “شتشيتسين” للقيادة- (قوامها 4000 جندي) بقيادة بريطانيا وكندا وألمانيا والولايات المتحدة على التوالي.
ووفقًا للخطة ذاتها تمّ إقرار مساهمات من كل من: ألبانيا، والتشيك، وأيسلندا، وإيطاليا، والجبل الأسود، وبولندا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وإسبانيا، في مجموعة القتال التي تقودها كندا في لاتفيا. وتقدم بلجيكا والتشيك وأيسلندا ولوكسمبورغ وهولندا والنرويج مساهمات في مجموعة القتال بقيادة ألمانيا في ليتوانيا. وتساهم الدنمارك وفرنسا وأيسلندا في مجموعة القتال التي تقودها المملكة المتحدة في إستونيا وكرواتيا ورومانيا والمملكة المتحدة كجزء من مجموعة القتال التي تقودها الولايات المتحدة في بولندا. علمًا بأنه كان قد تم تفعيل مقر القيادة الشمالية للفرقة المتعددة الجنسيات التكميلية (أكتوبر 2020) ومقره “Adazi”، في لاتفيا، بينما يقع المقر الشمالي في Karup بالدنمارك.
كما تمّ نشر قوة استطلاع جوية في المنطقة الشمالية من الجناح الشرقي، حيث تقوم بدوريات تحت إشراف قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا. ونشرت بريطانيا قوة تعزيز للعمليات اللوجستية ودعم عمليات الإغاثة الإنسانية قوامها 1000 جندي لدعم المجر وسلوفاكيا ورومانيا وبولندا. وهناك قوة (رأس الحربة) التابعة لقوات المهام المشتركة، وهي قوة تدخل متعددة المهام، بقيادة فرنسية، وبالاشتراك مع ألمانيا، والتي دخلت حيز التنفيذ في 2022، وهي مكونه من مجموعة (التدخل السريع) من 500 جندي، بالإضافة إلى قوة الردع الرئيسية وتصل إلى 40 ألف جندي. فيما تم نشر أربع قوات بحرية دائمة متعددة الجنسيات تقوم بدوريات في الحلفاء والمياه الدولية، بما في ذلك بحر البلطيق. بالإضافة إلى نشر 120 قطعة بحرية تابعة للحلف. وتُضاف هذه التعزيزات إلى قوة الناتو الرئيسية والتي تشمل 34 مركز قيادة عمليات، والانتشار البحري في ميناءين، و5 منشآت بحرية، و6 قواعد، و6 وحدات لواء مدرع، وهناك 30 مركز تدريب، بالإضافة إلى 14 مستودعًا عسكريًا، و57 قاعدة جوية، و5 كتائب متعدد الجنسيات، و6 كتائب درع صاروخي ودفاع جوي.
القدرات الأمريكية المضافة: يضاف إلى هذه القدرات، قدرات الأسطول السادس الأمريكي الذي عزز تواجده في المحيط الأوروبي، ويعمل بالتنسيق مع الناتو، حيث يضم حاليًا تشكيلًا عسكريًا بحريًا مكونًا من 40 سفينة حربية و175 طائرة 21 ألف فرد، وسفينة القيادة يو إس إس ماونت ويتني، و(حاملة طائرات نووية) “هاري ترومان” ومجموعاتها البحرية (4 مدمرات أمريكية هي دونالد كوك – ميتشر – سوليفان- جوالنزليس) وطرادًا صاروخيًا (56 صاروخ توماهوك) وفرقاطة مجهزة بنظام “إيجيس” (تمت إضافة المدمرات الأربعة في 16 فبراير 2022)، و175 طائرة، و4 غواصات نووية أبرزها الغواصة النووية الأمريكية “جورجيا” ومجموعاتها البحرية وهي الأخرى مجهزة بـ154 صاروخ توماهوك كروز، و5 سفن هجومية (وسب)، وسفن دعم لوجستي للإمداد والصيانة (ناقلات وقود، قاعدة عائمة للمدمرات، سفن إنقاذ، سفن صيانة، سفن إمداد غذائية)، و6 فرق قتالية، ودعم لوجستي وقيادة مهام، كما نشرت الولايات المتحدة قوة إضافية بالتزامن مع إطلاق الحرب منها نشر 2000 جندي أمريكي (الفيلق الأمريكي الثامن عشر المحمول جوًا) كقوة طوارئ إضافية لدعم “الناتو”، وتقدر القوة الأمريكية حاليًا في أوروبا بحوالي 90.000 جندي.
1- Nato 2030, United For A New Era, Analysis And Recommendations Of The Reflection Group Appointed By The NATO Secretary General, 25 November 2020. Available at: https://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/2020/12/pdf/201201-Reflection-Group-Final-Report-Uni.pdf
2- واشنطن ترسل صواريخ باتريوت إلى وارسو.. لماذا؟، موقع دوتش فيله بالعربي، 9 مارس 2022، على الرابط التالي:
3- Fireside Chat. General Thierry Burkhard, French Chief of Defence, Mar 8, 2022. Available at: