يأتي توقيت إعداد مشروع الموازنة العامة للدولة في العام المالي 2022/2023 في وقت استثنائي على المستوى المحلي والعالمي، تتداخل فيه التحديات العالمية الناجمة عن انتشار وباء كورونا والأوبئة الأخرى التي رافقته، مع أزمة سلاسل التوريد دوليًا التي تسببت في ارتفاع أسعار الشحن عالميًا، وأخيرًا الحرب التي نشبت بين روسيا وأوكرانيا والتي تسببت في أزمات غير مسبوقة في أسعار الغذاء والطاقة، وهو ما يضع برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري والحكومة المصرية الحالية في اختبار حقيقي للتعامل مع تلك الأزمات المركبة.
نجاحات قائمة
نجحت الدولة المصرية منذ عام 2016 في تحقيق إنجازات متسارعة في الملف الاقتصادي، بداية من برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تم تطبيقه مع صندوق النقد الدولي والذي حسن من معظم المؤشرات الاقتصادية بالبلاد وساعدها على إيجاد حلول لأهم مشكلاتها في ذلك الوقت وهو توافر النقد الأجنبي، واستطاعت الدولة المصرية التعامل مع جائحة كورونا التي تسببت في ضغط كبير على موارد الدولة بالعملات الأجنبية، بل وقدمت برامج الدعم الاجتماعي بمبلغ 100 مليار جنيه في مختلف القطاعات لمساعدة الفئات الأكثر احتياجًا والأكثر تضررًا، وتقليل أثر ذلك الوباء وحالة الإغلاق الاقتصادي التي رافقته على تلك الفئات، والحفاظ على قدر مناسب من الاستقرار والنشاط الاقتصادي الذي سمح بسرعة التعافي للاقتصاد المصري وتحقيقه معدل نمو في الربع الثاني من عام 2020/2021 بنسبة 9 % بدعم كبير من التعافي في قطاعي السياحة والقطاع الصناعي. ومن ثم تشير التوقعات إلى احتمالية أن تحقق مصر نموًا اقتصاديًا للعام 2021/2022 بمعدل 5.7%، هذا فضلًا عن الحفاظ على مستويات البطالة عند مستوى 7.4 %، مع استمرار إنفاق الدولة على الاستثمار بشكل واسع وهو ما ساهم في خلق مليون فرصة عمل حتى ديسمبر 2021. أما عن الانضباط المالي (قدرة الدولة على السيطرة على الديون) فقد استطاعت الدولة الحفاظ على تحقيق فائض أولي بحوالي 31 مليار دولار، أي فائض بحوالي 0.39 % من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة من يوليو إلى مارس 2021/2022.
أصداء الحرب
شهد شهر فبراير من عام 2022 اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وكان للغرب بالتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية رد عنيف على ما قامت به روسيا بفرضه سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي قيدت حركة كل شيء من أصل روسي تقريبًا، فيما عدا الطاقة التي لا غنى لأوروبا عنها، وتسبب ذلك الأمر في رفع أسعار معظم السلع والمعادن والغذاء عالميًا، وفرض ضبابية شديدة على مستقبل تلك الحرب وما إذا كان سيعود الوضع الاقتصادي للتعافي بنهايتها، أم أن تلك الأوضاع الاقتصادية مستمرة حتى في حال نهاية الحرب. تلك الضبابية الشديدة كانت هي المناخ الذي تم فيه إعداد الموازنة العامة لعام 2022/2023، لكن وبشكل عام ارتكزت تلك الموازنة على 4 محاور رئيسية فسرت رؤية الحكومة المصرية حول الاقتصاد المحلي العالمي، تتمثّل تلك المحاور في الاهتمام بالبعد الاجتماعي والحماية الاجتماعية من خلال برامج الدعم الاجتماعي وزيادة الدعم وبرامج الدعم النقدي إلى حد ملحوظ، وثانيًا البُعد الخاص بالارتقاء بالمستوى المعيشي للمواطنين من خلال تطوير قطاعي التعليم والصحة والذي يمكن أن نسميه البعد الخاص برأس المال البشري، والبعد الثالث الذي دائمًا ما يتم الاهتمام به والذي يُسمى الانضباط المالي والمديونية الحكومية، وأخيرًا البعد الخاص بدعم النشاط الاقتصادي خاصة القطاع الصناعي بهدف زيادة صادرات مصر.
ولتحقيق تلك الأهداف التي سبقت الإشارة إليها فقد تم وضع الافتراضات الخاصة (التي تم بناء هيكل التكاليف عليها) كالتالي، حيث تم افتراض معدل التضخم المستهدف عند نسبة 9 %، وسعر الفائدة على أدوات الدين الحكومية عند مستوى 14.5 % (مقابل 13.7 % للعام الماضي)، ومتوسط سعر خام برميل برنت عند مستوى 80 دولارًا للبرميل (مقابل 75 دولارًا للبرميل في العام الحالي، وسعر سوقي للبرميل في الوقت الحالي يتخطى حاجز 100 دولار للبرميل) ومتوسط سعر قمح أمريكي بحوالي 330 دولارًا للطن (مقابل 300 للعام الحالي).
جاءت تلك الافتراضات ضمن المستهدفات الاستراتيجية للموازنة العامة للدولة والتي استهدفت خفض نسبة دين أجهزة الدولة إلى الناتج المحلي الإجمالي ليكون في حدود 75 % بحلول يونيو 2026، مع استهداف تحقيق معدل نمو سنوي يتراوح بين 5.5 % إلى 6.0 % في المتوسط (في حال افتراض تعافي النشاط الاقتصادي العالمي واستمرار الحكومة في الالتزام ببرامج الإصلاح الهيكلي والاقتصادي)، مع استهداف تحقيق فائض أولي بنسبة 2 % سنويًا على المدى المتوسط وهو ما يسمح بخفض حجم الدين العام في المستقبل، أما عن مستهدف النمو للعام القادم فقط 2022/2023 فقد تم افتراضه عند مستوى 5.5 %، وهو معدل يقترب بشكل كبير من ذلك الذي تم افتراض تحقيقه للعام السابق والذي بلغ 5.7 % مع الأخذ في الاعتبار الموجة التضخمية العالمية، واعتزام المركزي الحفاظ على معدل التضخم ضمن النطاق المستهدف عند مستوى 7 % (± 2 %)، (فاق معدل التضخم لشهر أبريل تلك المستهدفات جراء ما يحدث عالميًا من غلاء في المواد الأساسية التي تتمثل في الغذاء والسلع والطاقة وارتفع إلى ما يفوق نسبة 13 %).
وفقًا لتلك المستهدفات والفروض السابق ذكرها، تستطيع الدولة الحفاظ على الفجوة بين الإيرادات والمصروفات نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي عند حدود 6 % (الإيرادات تمثل 17 % من الناتج المحلي الإجمالي، والمصروفات تمثل نسبة 23 % إلى الناتج المحلي الإجمالي)، مع الأخذ في الاعتبار أن إيرادات الموازنة الحالية قد نمت بنسبة 22.9 % في حال مقارنتها بالعام الماضي، بينما نمت المصروفات الحالية بنسبة 20.4 % في حال مقارنتها بمثيلتها في العام الماضي، وهو أمر يمكن وصفه بالجيد، حيث إن استدامة تلك المعدلات في بنود الإيرادات والمصروفات يمهد لخفض الدين العام وأعبائه تدريجيًا كنسبة من إجمالي المصروفات، ومن ثم فقد بلغ مقدار الإيرادات العامة 1,518 مليار جنيه محققة زيادة سنوية بنسبة 16.4 % مقارنة بموازنة العام الحالي (16.7 % من الناتج المحلي الإجمالي)، أما عن المصروفات العامة (الإنفاق العام) قبل مدفوعات الفوائد فقد بلغت 1,381 مليار جنيه، وفي حال الأخذ في الاعتبار مدفوعات الفوائد ترتفع النفقات العامة إلى 2070 مليار جنيه (نسبة نمو 15.4 % عن العام الحالي).
ومن ثم ففي حال الرغبة في وصف الموازنة العامة للدولة عن العام 2022/2023 فإنه يمكن القول إنها تصف إصرار الدولة المصرية على زيادة إنفاقها الاستثماري والتوسع في برامج الدعم الاجتماعي الخاص بها مثل برامج تكافل وكرامة ومخصصات السلع التموينية بهدف الحفاظ على النشاط الاقتصادي ومعدلات البطالة عند مستويات جيدة، وحماية المواطنين وتخفيف الآثار العالمية لارتفاع الأسعار على المواطن المصري، مع الاستمرار في تطبيق المبادرات الأخرى التي سبق تطبيقها بل والتوسع بها، حيث ينظر إلى العام الحالي على أنه ظرف استثنائي لن يؤثر على عزم الدولة على النهوض بالاقتصاد المصري والارتقاء بحياة المواطن.