في 15 مايو 2022، أعلنت مالي انسحابها من مجموعة دول الساحل الخمس (G5) التي تضم دول: تشاد، ومالي، والنيجر، وموريتانيا، وبوركينافاسو، لتصبح هذه المجموعة أربع دول فقط، وقررت حكومة مالي الانسحاب من جميع أجهزة المجموعة، بما في ذلك القوة العسكرية المشتركة التي تحارب الجماعات الإرهابية (FC-G5S). ويأتي هذا الإعلان احتجاجًا على رفض رئاسة مالي للمجموعة في الدورة العادية الثامنة لرؤساء دول المجموعة. وهذه الخطوة بالتزامن مع مجموعة من المتغيرات هي: توتر العلاقات بين مالي وفرنسا، وانسحاب قوة برخان الفرنسية وقوة تاكوبا الأوروبية من مالي وإعادة تموضعها في النيجر، وانخراط مجموعة “فاجنر” الروسية في مالي، فضلًا عن العقوبات المفروضة من الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “الإيكواس” على مالي.
دوافع كاشفة
اتخذت مالي بعد طرد الممثل الخاص لجماعة إيكواس وسفير فرنسا، القرار الأخير بالانسحاب من مجموعة الساحل الخمس بكافة هيئاتها، وكان رفض تكليفها برئاسة المجموعة سبب القرار، حيث تأجل عقد القمة السنوية لرؤساء دول مجموعة دول الساحل الخمس الذي كان من المقرر عقده في فبراير 2022 في العاصمة باماكو، ولم يجتمع وزراء دفاع المجموعة منذ نوفمبر 2021، وتأسست هذه المجموعة عام 2014، وأنشأت قوة دول الساحل عام 2017 لمواجهة الجماعات المسلحة، والأجهزة الأخرى مثل مؤتمر قادة الدول، ومجلس الوزراء، والأمانة التنفيذية، ولجنة الدفاع والأمن، ولجان التنسيق الوطني لتحركات دول مجموعة الساحل، لكن تعثر عمل هذه الأجهزة بسبب نقص التمويل. وجاءت أسباب رفض رئاسة مالي للمجموعة، نتيجة مجموعة من الدوافع، يمكن توضيحها على النحو التالي:
• تأزم الوضع الداخلي في مالي: اتفقت الحكومة الانتقالية في مالي في البداية على إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في فبراير 2022 بعد 18 شهرًا من إقدام “أسيمي جويتا” على الإطاحة بالرئيس “أبوبكر إبراهيم كيتا” في أغسطس 2020، وبعد ذلك حدث الانقلاب الثاني في مايو 2021، على الرئيس الانتقالي “باه نداو”، وما تبع ذلك من فرض العقوبات من قبل الإيكواس، جراء تمديد الفترة الانتقالية وتأجيل موعد الانتخابات وتعثر العملية السياسية في البلاد. ووفقًا لميثاق الانتقال كانت مدة الفترة الانتقالية 18 شهرًا حتى مارس 2022، مع إجراء الإصلاحات المؤسسية والانتخابية وتنظيم العملية الانتخابية. وفي هذا الصدد، بررت مالي بأنه لا يوجد نص قانوني في ميثاق مجموعة الساحل، ينص على فرض قيود على دولة عضو بسبب وضعها السياسي الداخلي، وانتقدت أيضًا المصادقة على العقوبات التي فرضتها الإيكواس على مالي.
• توتر العلاقات بين باماكو وباريس: ساهم الخلاف بين البلدين منذ الإطاحة بالحكومة المنتخبة في مالي عام 2020. ومع ذلك، فقد تفاقمت الأزمة الدبلوماسية بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، وبلغت ذروتها مع طرد السفير الفرنسي من مالي، فقد تم تجاوز العديد من الخطوط الحمراء لفرنسا مثل الرغبة في التفاوض مع الجماعات المسلحة، والاستيلاء على السلطة من قبل المجلس العسكري، ورفض تطبيق جدول زمني للعودة إلى النظام الديمقراطي الذي تم الإعلان عنه، وقررت فرنسا سحب قواتها العاملة من مالي بحلول يونيو 2022. كما وصلت العلاقات بين مالي وفرنسا إلى نهاية النفق المسدود؛ إذ أعلنت باماكو مطلع شهر مايو إلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي مع فرنسا عام 2014، واتفاقات أخرى عام 2013 و2020، التي تحدد الإطار القانوني لتواجد قوات برخان وتاكوبا.
• تصاعد الخلافات الإقليمية: على خلفية التوترات بين فرنسا ومالي بشأن تواجد مجموعة “فاجنر”، تبنت النيجر موقفًا متشددًا تجاه المجلس العسكري الحاكم في مالي، نتيجة انتشار عدوى الانقلابات العسكرية، في ظل محاولات الانقلاب الفاشلة في النيجر. وكذا، احتلت النيجر مكانة استراتيجية في استضافة القوات الفرنسية والأوروبية، باعتبارها حليفًا موثوقًا فيه بدول المنطقة.
• تفاقم المشكلات الداخلية للمجموعة: أوضحت حكومة مالي عدم تحقيق مجموعة الساحل أهدافها في محاربة الجماعات الإرهابية، وتعزيز روابط التنمية الاقتصادية، وتوفير الأمن، نتيجة مجموعة من العراقيل الهيكلية، وتدني كفاءة الموارد البشرية، ونقص سياسات التمويل، وضعف التنسيق بين الدول الأعضاء، ونقص الدعم اللوجستي، وضعف التعاون البيني بين هذه الدول. وبالإضافة إلى ذلك، اتهمت قوات المجموعة بانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية، والاحتجاز، وعمليات القتل خارج نطاق القانون.
تداعيات محتملة
تعمل هذه الخطوة على إعاقة تقدم دول مجموعة الساحل في حربها ضد الإرهاب، وتستغلها مالي كورقة ضغط لرفع العقوبات المفروضة عليها من الإيكواس، وكرسالة لدولة فرنسا، في ظل معارضتها التعاون بين مالي ومجموعة “فاجنر”، ويفاقم ذلك التحديات القائمة، ويقوض أنشطة المجموعة في تحقيق السلام وزعزعة الاستقرار وامتداد التهديدات الأمنية، وسيزيد من انكشاف المناطق الحدودية بين دول المنطقة، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
• تفكك جهود المجموعة وفقدان الترابط الجغرافي: تشهد دول مجموعة الساحل مجموعة من التحديات الأمنية المحلية والاضطرابات السياسية وموجة الانقلابات المتزامنة في المنطقة، التي تشكل تهديدات مشتركة، في ظل سحب دولة تشاد حوالي 600 جندي في أغسطس 2021، من قواتها داخل المجموعة، لمواجهة الفصائل المتمردة في البلاد، وضعف قدرة قوات المجموعة بسبب الافتقار إلى الترابط الجغرافي، في إطار أهمية الحدود البرية المشتركة لنجاح العمليات ضد الجماعات الإرهابية من الناحية الميدانية؛ إذ أصبحت دولة موريتانيا بعيدة جغرافيًا عن دول تشاد والنيجر وبوركينافاسو، حيث كانت مالي محور تنفيذ العمليات لموقعها بين هذه الدول. وعلاوةً على ذلك، التداعيات السلبية للحرب الروسية-الأوكرانية على سياسات التمويل للدول المانحة لهذه المجموعة، وعلى رأسها دول الاتحاد الأوروبي، وبلغ مساهمة تمويلها حوالي 256 مليون يورو، في ظل رفض الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تقديم التمويل من خلال آلية منتظمة برعاية الأمم المتحدة.
• تنامي العزلة الإقليمية والدولية لمالي: أدانت دولتا تشاد والنيجر تواجد مجموعة “فاجنر” في مالي، حيث انحازت هذه الدول لصالح فرنسا ضد مالي، مع تداعيات العقوبات الاقتصادية لمجموعة “الإيكواس” على مالي، كما أيد مجلس الأمن والسلم الأفريقي هذه العقوبات، وسيؤدي الانسحاب إلى عجز الجيش المالي بمفرده عن مواجهة انعدام الأمن المتزايد. ويأتي القرار بعد أسبوع واحد من إعطاء ألمانيا الضوء الأخضر بزيادة عدد جنودها في إطار بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام “مينوسما”، ومدى تأثير الانسحاب على هذا القرار ومستقبل المساعدة الإنمائية من ألمانيا لمجموعة الساحل.
• تفاقم تردي الأوضاع الأمنية في إقليم الساحل: تتخوف موريتانيا من تفاقم انعدام الأمن على حدودها مع مالي، حيث تعتبر مالي أهم مصدر للمخاطر الأمنية في المنطقة. وكذا تشترك في حدودها مع النيجر وبوركينافاسو، في ظل تصاعد الهجمات الإرهابية وانعدام الأمن في منطقة ديفا جنوب شرق النيجر، ومنطقة تيلابيري غرب النيجر، ومنطقة تاهوا شمال غرب النيجر، ومخاطر العصابات الإجرامية على الحدود بين نيجيريا ومنطقة مارادي جنوب شرق النيجر. بالإضافة إلى منطقة الحدود الثلاثة (ليبتاكو جورما) بين دول تشاد، ومالي، وبوركينافاسو.
• تمدد الإرهاب خارج إقليم الساحل: من المتوقع انتشار خطر التمرد الجهادي وتنامي نفوذ الجماعات الإرهابية من مالي إلى النيجر وكذلك بوركينافاسو، وصولًا إلى البلدان الساحلية في خليج غينيا بغرب إفريقيا، في ظل القدرة المحدودة للجيوش الوطنية في المنطقة وهي ليست أفضل استعدادًا لمواجهة هذا التهديد بمفردها، وهناك مخاوف بشأن قدرات جيوش المجموعة على الصمود، وخلق فراغ أمني في منطقة الساحل، مما يخلق تحديات إضافية. ومن أبرز الجماعات الإرهابية التي تنشط في منطقة غرب إفريقيا، تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتنظيم داعش، وجماعة المرابطين، وجماعة بوكو حرام.
وفي الأخير، قد يُثير هذا الانسحاب محاولات دول أخرى للانسحاب مثل بوركينافاسو التي تعاني من ظروف متشابهة مع مالي من حالة الاضطرابات السياسية، وتعاظم التنافس الدولي، مع تنامي نشاط الجماعات الإرهابية، وضعف قدرات الجيوش الوطنية، مما سيؤثر على جهود التعاون الإقليمي في محاربة الإرهاب، وقد يقتصر على تنفيذ بعض العمليات النوعية في المنطقة.