يُمثل تحرك مؤسسة الرئاسة الجزائرية واعتزام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إطلاقَ حوار وطني ومبادرة لم الشمل، نقطة فاصلة في الولاية الأولى للرئيس تبون، ومسارًا حيويًا نحو إعادة ضبط المشهد السياسي بكافة مكوناته الحزبية وتكتلات المعارضة الداخلية. ويستند ذلك الطرح بصورة خاصة إلى إجراء مصالحة وطنية مع القوى السياسية والمعارضة داخل الجزائر وخارجها والتي تزايدت وتيرتها منذ الحراك الشعبي الذي بدأ مطلع عام 2019 وأطاح بنظام الرئيس الأسبق “عبد العزيز بوتفليقة”. ولعل تلك المبادرة الرامية لغلق ملف الحراك الشعبي نهائيًا وإطلاق سراح المعتقلين السياسين، تأتي بالتزامن مع احتفالات ذكرى الاستقلال الجزائري الستون في الخامس من يوليو 2022، وتحقق قدرًا من ديناميكية التفاعل للمشهد الداخلي وبمثابة محرك للمياه الراكدة لدى الأوساط السياسية الجزائرية.
دوافع متباينة
إن المتأمل لمبادرة “لم الشمل” التي تُجهز لها مؤسسة الرئاسة الجزائرية يجد أنها تستهدف بصورة كبيرة جملة من الأهداف تتجلى في الآتي:
- خلق مساحة للتفاهم السياسي: أول أهداف تلك المبادرة يقوم على إيجاد ديناميكية سياسية داخل الجزائر للتغلب على أوجه القصور في ظل التأزم الاقتصادي الداخلي في ضوء أزمة جائحة كورونا والأزمة الروسية الأوكرانية وما تبعها من انعكاسات ضاغطة على الاقتصاد الوطني الجزائري، وهنا تكمن الرغبة في فتح المجال السياسي أمام كافة التكتلات والقوى السياسية، ويرتبط بذلك رغبة النظام الجزائري في فتح صفحة جديدة مع الشرائح المجتمعية الرافضة للسياسات المُتخذة منذ انطلاق الحراك الشعبي في فبراير 2019.
- تحصين الداخل الجزائري من الاختراقات الخارجية: إن تلك المبادرة تتزامن مع سباق اختراقات مفتوح داخل إقليم شمال إفريقيا، خاصة في ضوء التفاهمات والتقارب المغربي الإسرائيلي ومساعي التكتلين لخلق وضع مضطرب داخل الجزائر، وقد برز ذلك فيما يتعلق بالاتهامات الرسمية الجزائرية لبعض الحركات الجزائرية المعارضة (حركتي ماك – رشاد) بتنفيذ أجندات خارجية في العمق الجزائري واتهام تلك الحركتين بأحداث الحرائق التي شهدتها الجزائري نهاية عام 2021 ومطلع عام 2022، ولعل هذا التحرك الرسمي المتلاحق يهدف بشكل كبير لإعطاء السلطة متنفسًا جديدًا لمواجهة المخاطر وحماية الدولة من خطر الانشطار والتمزق الداخلي.
- دفع مشروع الجزائر الجديدة: يعد مشروع الجزائر الجديدة واحدًا من بين التطلعات التي كان يسعى لتحقيقها الرئيس تبون منذ انتخابه رئيسًا في ديسمبر 2019، ولكن شهد هذا المشروع تعثرات متتالية على خلفية الأزمات الداخلية المتراكمة التي ورثها عن عقدين من حكم الرئيس بوتفليقة، وكذا الأزمات العالمية الراهنة مما يتطلب معه خلق جبهة داخلية متماسكة وداعمة لمشروع الرئيس، لذا فإن مشروع المصالحة الوطنية ذو منفعة متعددة لكل القوى السياسية الجزائرية الطامحة للانخراط في المشهد السياسي وكذلك على مستوى السلطة في تحقيق التماسك والاستقرار الداخلي.
سياق داعم وفرص النجاح
تأتي تلك المبادرة بالتزامن مع عدد من الخطوات الإيجابية الداعمة لإنجاح مسار “لم الشمل والمصالحة الوطنية”، ويتجلى ذلك في الآتي:
- تسوية ملف المعتقلين واحتواء المعارضة: بات هناك تحرك ملحوظ من جانب الدولة الجزائرية لتسوية ملف معتقلي الحراك الشعبي، واتضحت معالم ذلك في إجراءات الإفراج عن نحو 300 معتقل للرأي مطلع أبريل 2022، إلى جانب توجيه القضاء لتخفيف الأحكام عن عدد آخر وإلغاء أحكام أخرى، وهو توجه جديد لدى السلطة الجزائرية ومؤشر هام نحو إعادة ديناميكية التفاعل السياسي الشامل لكافة الأطياف السياسي وتغيير التوجهات الأمنية لمعالجة القضايا الداخلية، ولعل هذا الأمر يساهم في تحسين الموقف الداخلي فيما يتعلق بوضعية الحريات وحقوق الإنسان من ناحية، ومن ناحية أخرى تُمثل استجابة للأحزاب المعارضة التي لطالما طالبت بغلق ملف الاعتقالات وإطلاق سراح معتقلي الرأي وعلى رأسها “حركة البناء الوطني” وحزب “الحركة الديمقراطية” علاوة على حركة “مجتمع السلم” أكبر الأحزاب الإسلامية المعارضة في الجزائر، علاوة على توجيه دعوات للمعارضين المقيمين خارج الجزائر وطرح مسار العودة والعمل السياسي داخليًا كما هو الحال بالنسبة لرجل المخابرات الجزائري السابق “كريم مولاي”.
- توسيع المشاركة السياسية: الأمر الآخر توسيع دائرة الاختيارات للتمثيل الحكومي المقبل، حيث يعتزم الرئيس تبون إجراء تغيير وزاري شامل يستهدف من خلاله إفراز حكومة تكنوقراط متنوعة الاتجاهات، حيث برز في اللقاءات التي أجراها تبون مع الشخصيات الحزبية والسياسية بمختلف أطيافها وتوجهاتها كما هو الحال بالنسبة للقاء “عبد القادر بن قرينة” رئيس حركة البناء الوطني وكذلك “سفيان جيلالي” رئيس حزب جيل جديد، وهي إشارة واضحة للانفتاح وسياسة اليد الممدودة بما يحقق تطلعات الشعب الجزائري.
إلى جانب ذلك؛ هناك تحرك إجرائي موازٍ على مستوى التنظيم الإداري والهيكلي للدولة الجزائرية والذي تمثل في إعلان الرئيس “تبون” في التاسع من مايو 2022 استحداث عشر ولايات جديدة لتضاف إلى الــ48 ولاية في الجزائر، وهو بمثابة تحريك وتوجيه للموارد البشرية للاستفادة منها في تقديم الخدمات للمواطنين، إلى جانب أنه يعتبر تكتيكًا ملائمًا لتحديد المناصب التي تتماشى مع الكثافة السكانية لكل ولاية.
- الدعم المؤسسي لمساعي الرئيس تبون: من بين دعائم المبادرة وعامل لنجاحها هو الدعم المؤسسي لمبادرة الرئيس، وبرز ذلك في اعتزام مجلس الأمة الجزائري انخراطه في الحوار السياسي، وكذلك التأكيد على أهمية الالتفاف حول مسعى الرئيس تبون في إطار سياسة لم الشمل بما يحقق مبدأ “الجزائر للجميع ويبنيها الجميع”، وبما يحقق أيضًا الوحدة الوطنية وتدعيم استقلال القرار السياسي عبر ضمان الاستقلالية السياسية والاقتصادية.
- الدعم الحزبي: هناك تحرك إيجابي من جانب غالبية الأحزاب السياسية الجزائرية للانخراط بصورة فعالة في هذا الحوار، وهو ما أبداه حزب “جبهة التحرير الوطني” الذي وصف تلك المبادرة بأنها مسار لبناء جزائر جديدة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية، وكذلك أحزاب المعارضة وعلى رأسها حزب حركة البناء الوطني الذي طالب بأهمية التكاتف مع الدولة للحفاظ على أمنها واستقرارها، وكذا حزب “تجمع أمل الجزائر” الذي وصف المبادرة بأنها مسار لبناء جبهة داخلية متماسكة لمواجهة التحديات الوطنية والدولية.
وفي التقدير؛ إن المساعي الجزائرية لإطلاق مبادرة لم الشمل هي بمثابة اعتراف حول وجود خلل سياسي داخلي وتناقضات داخلية حيال سياسات الرئيس عبد المجيد تبون التي لم تكن مرضية لشريحة واسعة من الشعب الجزائري من ناحية والتي برزت بصورة كبيرة في العزوف السياسي العام خلال الاستحقاقات الدستورية التي مرت بها الجزائر بداية من الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على الدستور وكذلك الانتخابات التشريعية، ومن ناحية ثانية تبرز رغبة “تبون” في تحقيق وفاق سياسي داخلي داعم له حال ترشحه لولاية ثانية، ولعل ضمان نجاحها في ضوء انفتاح السلطة الأخير على المعارضة سوف يخلق جبهة داخلية قوية ويكرس للجمهورية الجزائرية الجديدة.