تلبية لدعوة الرئيس “عبد الفتاح السيسي”، زار أمير دولة قطر الشيخ “تميم بن حمد” مصر يوم 24 يونيو 2022، لبحث مسار العلاقات الثنائية، والتي شهدت تقدمًا ملحوظًا منذ اتفاق الجانبين على الالتزام بالإطار المنبثق عن قمة العُلا التي أعادت العلاقات إلى طبيعتها مجددًا بين البلدين.
أهمية هذه الزيارة لا تكمن فقط في كونها الزيارة الأولى للأمير “تميم بن حمد” إلى مصر منذ عام 2015 حينما شاركت قطر في أعمال القمة العربية المنعقدة في مدينة شرم الشيخ؛ أو كونها الزيارة الأولى له بعد أعوام من الجمود الذي طال علاقات البلدين، وإنما تنبع أهمية هذه الزيارة أيضًا من السياق الدولي والإقليمي المصاحب لها، من حيث تنامي مستوى التحديات التي تواجه دول المنطقة، وما ترتب على ذلك من تفاعلات تستهدف معالجة تلك التحديات بما يتماشى مع مصالحها وأولوياتها.
وفي هذا السياق، أكد الرئيس السيسي على أن زيارة الشيخ تميم إلى القاهرة تجسد ما تشهده العلاقات المصرية القطرية من تقدم، وترسخ لمسار تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين خلال الفترة القادمة في كافة المجالات، وذلك في إطار مصلحة البلدين والشعبين الشقيقين، وفي ظل النوايا الصادقة المتبادلة بين البلدين. ومن جانبه، أعرب الشيخ تميم عن سعادته بزيارة جمهورية مصر العربية ولقائه الرئيس المصري في القاهرة، وبحثهما سبل توطيد التعاون الثنائي بين البلدين في مختلف المجالات، علاوة على تبادلهما وجهات النظر بشأن تعزيز وتفعيل العمل العربي المشترك بما يحقق تطلعات الشعبين المصري والقطري في التنمية والاستقرار ويدعم أمن المنطقة والعالم.
تطور العلاقات المصرية القطرية منذ قمة العُلا
لم تكن الزيارة هي اللقاء الأول الذي جمع بين الرئيس المصري ونظيره القطري، ففي أغسطس 2021، جمعتهما قمة “جوار العراق” الدولية، أعقب ذلك لقاءهما في نوفمبر 2021 على هامش قمة “تغير المناخ” في جلاسكو، فيما تم آخر لقاء لهما على هامش حضورهما افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين فبراير 2022.
ولقد مثّلت قمة العُلا اللحظة المحورية في عودة العلاقات المصرية القطرية، وتحديدًا يوم 20 يناير 2021، حيث اتفاق الطرفين على استئناف علاقاتهما الدبلوماسية. فبحسب حديث سابق لوزير الخارجية المصري “سامح شكري”، فقد تم إنشاء لجان متابعة مشتركة، تعمل على إزالة كافة الشوائب التي لحقت بالعلاقات الثنائية المصرية القطرية على مدى سنوات المقاطعة، وقد أسفرت اللقاءات والمباحثات الثنائية الدبلوماسية عن إعادة تعيين السفراء، حيث قدم سفير مصر في الدوحة “عمرو الشربيني” أوراق اعتماده إلى الشيخ تميم في نوفمبر 2021، وسبق ذلك، تسلُّم الرئيس المصري أوراق اعتماد السفير القطري في القاهرة “سالم مبارك آل شافي” في سبتمبر2021.
بالتوازي مع الجانب الدبلوماسي، فقد شهد التعاون الاقتصادي بين الجانبين تطورًا ملحوظًا، وهو ما يمكن تلمسه في حجم اللقاءات والزيارات التي خلصت في كثير من الأحيان إلى توقيع الجانبين لاتفاقيات تعاون ومذكرات تفاهم، ففي مارس 2022، أجرى وزير الخارجية القطري الشيخ “محمد بن عبد الرحمن آل ثاني” زيارة إلى مصر، بصحبة عدد من المسئولين القطريين، تكللت بإعلان الجانبين عن اتفاقهما على مجموعة من الاستثمارات والشراكات في مصر، بإجمالي 5 مليارات دولار.
وعلى هامش مشاركته في منتدى قطر الاقتصادي في يونيو 2022، وقع وزير المالية المصري الدكتور “محمد معيط” ونظيره القطري “على بن أحمد الكواري”، مذكرة تفاهم، بهدف تعميق التعاون بين الجانبين؛ من أجل استدامة التشاور حول السياسات المالية، وآليات التوصل لاتفاق لمنع الازدواج الضريبي بالبلدين؛ وتشجيعًا للاستثمار المشترك.
وفي ذات السياق، التقت وزيرة التجارة والصناعة المصرية “نيفين جامع”، مع وزير الدولة القطري للمناطق الحرة “أحمد بن محمد السيد” في الدوحة، حيث بحثا مقومات وإمكانات المناطق الحرة بالبلدين والفرص الاستثمارية والمزايا الاستثنائية المتاحة بها، وسبل تعزيز التعاون المشترك بين الجانبين، وقد تم الاتفاق على “إعادة تشكيل مجلس الأعمال المصري القطري المشترك بجانبيه”، والاستعانة بكوادر متميزة بما يسهم في تعزيز التعاون والتكامل الاقتصادي وتشجيع القطاع الخاص في البلدين على زيادة معدلات الاستثمارات المشتركة ورفع حجم تجارتهما البينية خلال المرحلة المقبلة.
فيما تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري إلى ارتفاع قيمة التبادل التجاري ما بين البلدين إلى 44.8 مليون دولار خلال عام 2021، مقابل 25.4 مليون دولار خلال عام 2020 بزيادة قدرها 76.4%، وقُدِّرت قيمة الاستثمارات القطرية في مصر بنحو 121.8 مليون دولار خلال الربع الأول من العام المالي 2021 – 2022، لتمثل بذلك ارتفاعًا بنحو 4.2% عن قيمة الاستثمارات المسجلة في العام المالي 2020-2021، والتي بلغت نحو 116.9 مليون دولار.
ويعد مجال الطاقة من أبرز مجالات الاهتمام التي تجمع بين الجانبين، حيث تتلاقى اهتمامات قطر باعتبارها أكبر مصدر للغاز المسال في العالم مع الجهود المصرية لترسيخ مكانتها كمركز إقليمي لتداول الطاقة في المنطقة. وعليه، تنامى الاهتمام القطري بالاستثمار في قطاع الطاقة بمصر، وهو ما يمكن الاستدلال عليه عبر توقيع شركة قطر للطاقة اتفاقية مع شركة “شل”، حصلت الأولى بموجبها على حصة 17% في كل من الامتيازين (بلوك 3 وبلوك 4) المدارين من جانب شركة شل في منطقة البحر الأحمر، وفي مارس 2022، حصلت الشركة أيضًا على حصة 40% في منطقة استكشاف تتم إدارتها من قبل شركة “إكسون موبيل” بالبحر المتوسط.
وخلال التصعيد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية في مايو 2021، برز وجه آخر للتعاون والتنسيق المصري القطري، والذي خرج من مجال العلاقات البينية إلى تعاون إقليمي يستهدف إحلال الاستقرار بالمنطقة، فعقب اندلاع الحرب في قطاع غزة، جرى التنسيق المصري القطري الهادف إلى إيجاد حل للأزمة والوصول إلى تهدئة، وبحسب وزير الخارجية القطري، فقد أنتج التعاون المصري القطري عن نتائج فعّالة فيما يتعلق بالملف الفلسطيني، ولقد كان تكامل الأدوار هو المعبر عن شكل مشاركة الطرفين بالازمة، فمن ناحية، كانت الوساطة المصرية فاعلة وحاسمة في وقف إطلاق النار، وانخرطت القاهرة في عملية إعادة إعمار قطاع غزة، وعلى التوازي من ذلك، عمل الجانب القطري على إرساء نوع من الوساطة ما بين إسرائيل وحركة حماس تجنبًا لاستمرار التصعيد، وفي أغسطس 2021، تم التوصل إلى آلية جديدة لنقل أموال المنحة القطرية إلى غزة، وخلال زيارته الأخيرة إلى مصر، “أشاد الأمير القطري بالجهود المصرية القائمة لإعادة إعمار قطاع غزة، كما توافقت الرؤى بشأن أهمية العمل على إحياء عملية السلام للتوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، بما يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق وفق مرجعيات الشرعية الدولية”.
انعكاسات السياق الإقليمي والدولي
تشير التقديرات إلى أن الزيارة ترتبط بشكل كبير بالمتغيرات الجارية على الصعيدين الإقليمي والدولي، حيث جاءت الزيارة مدفوعة بالعديد من التحديات الخارجية، والتي تستدعي في المقابل تقييم السياسات وتنسيق المواقف في سبيل مواجهتها، حيث برزت الحرب الروسية على أوكرانيا باعتبارها المحرك الرئيسي للأزمات الدولية الراهنة، وأدت الحرب إلى تزايد الإدراك بشأن ضرورة التنسيق والتعاون، لاسيما في ظل التكلفة التي تتحملها المنطقة بالفعل جراء الحرب، والمتعلقة بتهديدات الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد والأزمة الاقتصادية العالمية التي زادت من الثقل الذي وقع على كاهل الدول جراء انتشار جائحة كوفيد -19.
وفي هذا السياق، تطرقت القمة المصرية القطرية إلى سبل التعامل مع التداعيات السلبية للأزمة الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي، وكذا ضرورة تكاتف وتضافر جهود الدول العربية، وتعزيز التنسيق المشترك بين البلدين للتعامل مع مختلف الأزمات التي تمر بها دول المنطقة.
والجدير بالذكر أن الأمر لا يقتصر على التكلفة الاقتصادية فحسب، وإنما نتج عن الحرب محاولات القوى الكبرى (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب، وروسيا على الجانب الآخر) استقطاب دول المنطقة إلى جانبها، وعلى الرغم مما بدا خلال الفترة السابقة للحرب من تحول أمريكي عن المنطقة في سبيل إعادة التموضع شرقًا لمواجهة الصين في منطقة المحيطين الهندي الهادئ، فقد كشف طول أمد الحرب عن إعادة تقييم غربية لأهمية منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل ما تمتلكه المنطقة من إمكانات نفطية وغاز طبيعي يمكنها من الإسهام في معالجة أزمة الطاقة العالمية، وخطط تنويع مصادر الطاقة الأوروبية.
فضلاً عن تغير المقاربة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، في إطار تنافسها مع الصين، تقوم على بذل جهود أكبر لتقويض النفوذ الصيني (وكذا الروسي) الذي حاول ملء الفراغ الذي أحدثه التراجع الأمريكي في المنطقة، عبر محاولة استعادة المصداقية في موثوقية التزاماتها تجاه الحلفاء والشركاء القدامى، ومن هنا يمكن فهم زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى المنطقة منتصف يوليو المقبل على أنها إعلان أمريكي عن عودة الاهتمام بالمنطقة.
وقد استدعى ذلك تكثيف التحركات العربية، في خطوة يبدو الهدف منها تبادل وجهات النظر وصياغة موقف عربي مشترك قبيل انعقاد القمة التي ستشهدها الزيارة، ويمكن رؤية هذا عبر تتابع لقاءات القادة في مصر، وجولة ولي العهد السعودي الإقليمية، ففي العشرين من يونيو الجاري، عقدت قمة ثلاثية في شرم الشيخ بمشاركة الرئيس المصري والعاهل الأردني الملك “عبدالله الثاني” والعاهل البحريني الملك “حمد بن عيسى آل خليفة”، أعقبها قمة مصرية سعودية يوم الحادي والعشرين من يونيو الجاري، ثم إجراء الأمير “محمد بن سلمان” زيارات إلى الأردن وتركيا، وأخيرًا كانت زيارة أمير دولة قطر إلى مصر، وتشير هذه التحركات والتفاعلات – والتي يتوقع أن تشهد تناميًا خلال الفترة القادمة – إلى وجود توجه لدي الدول العربية نحو تطوير شراكات استراتيجية تستهدف تطوير العمل العربى، بشكل يمكّنه من التعامل مع المشكلات الدولية الراهنة، والحقيقة أن نجاح هذا التوجه سوف يفضي بالضرورة إلى تعزيز فرص تطوير العلاقات المصرية القطرية.
ختامًا، تعكس التحركات الراهنة للجانبين رغبة حقيقية في استمرار العمل على بناء تفاهمات من شأنها تجاوز الخلافات، ومسببات التوتر الماضية. فضلًا عن إحداث المزيد من التراكم في التعاون والتنسيق على مستوى العلاقات الاقتصادية والسياسية فيما بينهما، وعلى مستوى القضايا المأزومة بالمنطقة. ومن المرجح أن تشهد الفترة المقبلة جهودًا من كلا الطرفين لإحداث هذا التراكم، في ضوء مسار المصالحة الذي تبنته الدوحة تجاه علاقتها مع الدول التي شابها توتر من نوع ما معها، ومن ضمنها مصر، خاصةً بعد اتفاق العُلا ومخرجاته الإيجابية، وكذلك في ظل الإدارة المحترفة والواقعية للسياسة الخارجية المصرية.