جاءت زيارة منسق الاتحاد الأوروبي لشئون المفاوضات النووية، إنريكي مورا، إلى العاصمة الإيرانية طهران خلال شهر مايو 2022 بمثابة طوق نجاة لهذه المحادثات المستمرة منذ أكثر من عام. فقد بدا التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والقوى الكبرى في العاصمة النمساوية فيينا قبل تلك الزيارة أمرًا غير مرجح في المدى المنظور، لكن المشهد النووي قد طاله تحولٌ ملموس بعد سفر مورا.
فقد بدأ الدبلوماسيون المعنيون الإدلاء بتصريحات أكثر تفاؤلًا بشأن العودة المستقبلية للمفاوضين النوويين، من إيران والدول المشاركة الأخرى، إلى فيينا. ولا تقتصر المساعي في هذا الصدد على إنريكي مورا، حيث تسعى بلدان أخرى لحلحلة الأزمة الراهنة ومن بينها قطر التي التقى حاكمها الأمير تميم بن حمد آل ثاني بالمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، والرئيس إبراهيم رئيسي يوم 12 مايو 2022، وتطرق معهما إلى المحادثات النووية في فيينا، ثم التقى بعدها في 20 من الشهر نفسه مع المسئولين الألمان في برلين، وتطرقوا إلى عدد من الملفات التي شملت القضية النووية.
إن أبرز ما يميز هذه الزيارة من جانب أبرز مسئول أوروبي مختص بالملف النووي الإيراني أنها على ما يبدو بدأت في إذابة الجليد بعد حالة الجمود التي اتسمت بها محادثات فيينا لأشهر بين إيران والقوى الكبرى؛ إثر طرح طهران مطلبَها الخاص برفع اسم الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية وما تلاه من رفض أمريكي واضح.
ومع أن هذه الانفراجة لا تزال غير عملية حتى الآن فيما يخص مسار المحادثات النووية، إلا أن زيارة مورا على وجه التحديد وتحركات الوسطاء الموازية من ناحية أخرى تقودنا في الواقع إلى استنتاج رؤية تتعلق بسيناريوهات مستقبل هذه المحادثات وما يمكن أن يتفق بشأنه خلال الأيام المقبلة مفاوضو فيينا النوويون بعد عودتهم المرتقبة، خاصة في ظل ما يشهده الداخل السياسي في الولايات المتحدة من تفاعلات وشد وجذب بشأن معادلات المفاوضات مع إيران وشكل الاتفاق النووي.
النواب الأمريكيون.. الطرف الأكثر تأثيرًا في مسار فيينا النووي
أوضحت تطورات الأحداث خلال الأشهر الماضية أن أعضاء الكونجرس الأمريكي كانوا الطرف الأكثر تأثيرًا بين المعنيين بالمفاوضات النووية والمشاركين بها عند الحديث عن توجهات الإدارة الأمريكية إزاء المحادثات النووية. فقد قادت الضغوط المتنوعة التي شكّلها النواب الجمهوريون، وبصحبتهم أقرانُهم من الديمقراطيين، إلى منع إزالة الحرس الثوري الإيراني حتى الآن من قائمة المنظمات الإرهابية التي تصنفها وزارة الخارجية الأمريكية.
حيث إنه ومن خلال مقترحات عدة متتالية، كان بعضها متزامنًا، عطّل نواب الكونجرس من الحزبين تحرك بايدن باتجاه رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، وهو ما أدى بالتالي إلى توقف المحادثات حتى الوقت الراهن. إن إقدام إدارة بايدن على حذف اسم الحرس الثوري من قائمة الإرهاب كان أمرًا ممكنًا في البداية، حيث أشارت إليه تقارير أمريكية عدة آنذاك. ولكن معارضة النواب في الكونجرس قد حالت دون ذلك.
وكان من بين مقترحات الكونجرس الأمريكي ما صوتت عليه غالبية أعضاء مجلس الشيوخ أوائل شهر مايو 2022 لصالح رفض عقد أية صفقة مع الإيرانيين لا تشتمل على تقييد صناعة الصواريخ في إيران، علاوة على تحركاتها في إقليم الشرق الأوسط. وقد قدّم هذا المقترح السيناتور الجمهوري جيمس لانكفورد، وكان في إطار نظر مجلس الشيوخ الأمريكي في قانون الولايات المتحدة للابتكار والمنافسة (USICA) الذي يهدف لمواجهة الصين بشكل رئيسي، بعدما وافق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي في يونيو 2021.
وفي الواقع، لا يرفض النواب الأمريكيون اتفاقًا مع إيران، ولكن لديهم شروطٌ محددة بشأن أمر من هذا النوع، يؤكدون خلالها على ضرورة أن تندرج الملفات الصاروخية والإقليمية لإيران تحت بنود مثل هذا الاتفاق. وعلى أي حال، أظهرت معارضة الشيوخ الأمريكي أنها أقوى من الأطراف الأخرى في التأثير على مسار الاتفاق النووي.
سيناريوهات الأيام المقبلة
بعد زيارة منسق الاتحاد الأوروبي، إنريكي مورا، إلى إيران خلال شهر مايو الجاري، أصبح مسار المفاوضات النووية الإيرانية المستقبلي أكثر وضوحًا عما كان عليه قبلها. فقد أعلنها مورا صراحة أن الغرض من زيارته إلى طهران المساهمة في حل بقية الخلافات العالقة في الاتفاق النووي.
وانطلاقًا من هذه الزيارة والوساطات الأخرى الجارية بشأن المحادثات النووية، والتي تُعد بدورها وساطة بين إيران والولايات المتحدة بعد عدم نجاح مساعي الحوار المباشر، إلى جانب استمرار رفض الولايات المتحدة لرفع الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية، يمكن استنتاج السيناريوهات التالية فيما يتعلق بمسار المفاوضات النووية خلال الأيام المقبلة:
- تأجيل رفع الحرس الثوري من القائمة الإرهابية إلى ما بعد الإعلان عن الاتفاق النووي:
قد تُضطر الأطراف المعنية بالاتفاق النووي إلى تسوية الخلافات الأخرى المتبقية التي تعيق التوصل النهائي للاتفاق النووي، مثل مسألة تبادل السجناء، وإبقاء الولايات المتحدة للحرس الثوري الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية حتى إشعار آخر. حيث يتم الاتفاق هنا على النظر في هذه القضية لاحقًا؛ من أجل عدم تأخير التوصل لاتفاق نووي وإهدار الوقت أو انهيار المحادثات النووية برمتها في ظل رفض الداخل الأمريكي لحذف اسم الحرس من القائمة.
وفي هذا الصدد، تجعل بعض المعطيات الداخلية الحالية في الولايات المتحدة وخارجها مسألة رفع الحرس الثوري من القائمة الإرهابية أمرًا بالغ الصعوبة في الوقت الراهن أو على وجه الدقة حتى نوفمبر 2024. فبالإضافة إلى رفض النواب الأمريكيين، ينظر الرئيس جو بايدن إلى هذه المسألة على أنها تهديد لإعادة ترشيحه مرة أخرى رئيسًا للولايات المتحدة بعد إجراء الانتخابات في التاريخ المذكور.
إذ إنه في هذه الحالة سيعطي فرصة ذهبية لمنتقديه من الجمهوريين، وحتى بعض الديمقراطيين، بأنه أبطل قرارًا اتخذته الإدارة الجمهورية السابقة يراه الداخل الأمريكي أنه في صالح بلادهم، أخذًا في الحسبان الهجمات التي قام بها الحرس الثوري أو موالون له ضد مصالح أمريكية في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية، مما يعني خسارة سياسية كبيرة لبايدن.
وقد يعقد من إمكانية شطب الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية إقدام إدارة الرئيس بايدن في 20 مايو 2022 على رفع اسم 5 منظمات أجنبية أخرى من القائمة الإرهابية، حيث أعقب هذا القرار الأخير جدل واسع. وقد نستنتج من هذا أن رفع الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية قد يحدث عام 2025 أو خلال السنوات التالية له، أي بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في واشنطن.
وجدير بالذكر أنه في ذلك العام المُشار إليه سيكون قد مضى خمس سنوات على تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية في أبريل 2019، مما يعني المراجعة الدورية لوضعها على قائمة الإرهاب لها من قِبل الإدارة الأمريكية، على غرار باقي المنظمات المماثلة. ولكن لا يُتوقع مع هذا أن يتم رفع الحرس من القائمة في ذلك التاريخ على وجه الخصوص الذي سوف يسبق إجراء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة بأشهر قليلة.
- الاكتفاء برفع العقوبات عن مؤسسات وأفراد تابعين للحرس الثوري:
يواجه العديد من أفراد وعناصر الحرس الثوري الإيراني قيودًا في التنقل أو التحرك خارج إيران بموجب تصنيف المنظمة التابعين لها على قائمة الإرهاب، أو تصنيفهم هم في أوقات سابقة. وإلى جانب ذلك، لا تستطيع بعض المؤسسات المالية التابعة للحرس ممارسة أنشطتها في الخارج طبقًا لهذا التصنيف، كما يواجه الحرس إذن عوائق كثيرة عند محاولته، أو محاولة من هم على صلة به، استيراد معداتٍ عسكرية أو حتى فنية من الخارج لاستخدامها في البرامج الصاروخية أو النووية.
وربطًا بهذا وعند الأخذ في الحسبان أن تصنيف الحرس لم يؤثر بشكل جوهري على نوعية أنشطته وتحركاته في الإقليم، فسنجد أن ما يهم إيران يتمحور حول رفع العقوبات المفروضة على قياداته وبعض المؤسسات التابعة له، سواء في الداخل الإيراني أو تلك ذات الصلة به في الخارج. لذا، فإن رفع العقوبات عن هؤلاء قد يعني بشكل جزئي على أرض الواقع عمليًا إزالة العقوبات عن الحرس الثوري، وهو ما لا يُعتقد أن إيران قد ترفضه خلال الأيام المقبلة في ظل ما تراه من رفض شديد لإزالة الحرس من القائمة.
ج- رفع اسم الحرس الثوري من القائمة مع إبقاء “فيلق القدس”:
قد يُصبح هذا أحد الحلول التي ترضي الطرفين الأمريكي والإيراني عند الحديث عن رفع الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية. ففي هذه الحالة، قد تُقدم الولايات المتحدة على رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب مع إبقاء وحدة “فيلق القدس” على القائمة نفسها؛ إذ إن الأخير يشكل الوحدة القتالية الخارجية لهذه المنظمة الإيرانية وهو المستهدف الأبرز من العقوبات.
لذا، فإن إبقاءه على القائمة قد يحقق جزءًا لا بأس به من الهدف الرئيسي لتصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، كما أن إدراجه هكذا لن يعني الكثير بالنسبة لإيران؛ لأن العديد من أفراد هذه الوحدة مدرجون على لوائح العقوبات الدولية، كما أن عملياتها العسكرية في الخارج تلقى مواجهة إما عسكرية أو استخباراتية من جانب العديد من الدول والأطراف المعنية سواء في الإقليم أو خارجه، مما يعني أن إدراجه على قائمة الإرهاب لن يؤثر بشكل جوهري على أنشطته.
ختامًا، تُعد زيارة “إنريكي مورا” ذات أهمية كبرى؛ لأنه قد تكشف بعدها أن التطورات الخاصة بالمحادثات النووية الإيرانية مع القوى الكبرى في فيينا تسير باتجاه التسوية النهائية، على الرغم من أن ذلك قد يأخذ وقتًا غير قليل. وبالتزامن مع جهود الأوروبيين وبعض الوسطاء الآخرين لحلحلة الأزمة، فإن مسار المفاوضات النووية يُرجح أن ينتهي بأحد هذه السيناريوهات الثلاثة المُشار إليها آنفًا.