أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد عن إجراء استفتاء على الدستور الجديد في 25 يوليو الماضي، بعد أشهر قليلة من استشارة شعبية دعا إليها لمعرفة التوجهات والاقتراحات العامة للتونسيين حول مجموعة من الملفات والإصلاحات المتعلقة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد. وجاءت خطوة الاستفتاء عقب عدة إجراءات استثنائية أقرها النظام، أبرزها إقالة رئيس الحكومة، وتجميد أعمال البرلمان، بالإضافة إلى حلّ هيئات دستورية والمجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بمجلس مؤقت. وبحسب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فقد صوت 94,6 % من الناخبين بالموافقة، وبلغ عدد المشاركين في الاستفتاء 2,756,607 ناخبًا من أصل 9,3 ملايين يحق لهم التصويت بنسب مشاركة وصفت بالمتواضعة.
أبرز التعديلات
من أبرز ما تضمنته التعديلات، إضافة جملة للفصل الخامس، المتعلق بالهوية ليصبح الفصل: “تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل، في ظلّ نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض والمال والدين والحرية”، حيث تمت إضافة جملة “في ظل نظام ديمقراطي”.
وكذلك تمت الإشارة إلى انتخاب نواب الشعب “مباشرة”، في الفصل 60، وتم تعديل الأغلبية المطلوبة في البرلمان لتكون ثلث الأعضاء، للمصادقة على قانون المالية ومخططات التنمية في الفصل 84.
ومن أبرز التعديلات إدراج إمكانية ترشح التونسيات لمنصب رئيس الجمهورية، علاوة على تعديل شمل عدّة فصول، من بينها باب الحقوق والحريات، حيث أشار الفصل القديم إلى أنه “لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور، إلا بمقتضى قانون، ولضرورة يقتضيها الدفاع الوطني أو الأمن العام أو الصحة العمومية أو حماية حقوق الغير أو الآداب العامة.. إلخ”، لينص الفصل الجديد على أنه “لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي، وبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العمومية.. إلخ.
ردود فعل نسوية متباينة
تباينت ردود فعل التونسيات عقب الإعلان عن استفتاء جديد بالبلاد ما بين مؤيد ومعارض، فانحاز بعضهن إلى أن بنود الدستور الجديد متوازنة، ومبشرة ببناء وطن قوي، ومتماسكة الأركان، بعدما مرت به الدولة من وضع سياسي استثنائي عقب إعلان الرئيس بعض القرارات الاستثنائية في 25 يوليو 2021. وقد رأت بعض الناشطات أن المواد الجديدة ما هي إلا ضمانة إضافية لحقوق المرأة التونسية خاصة بعد إضافة تعديل يضمن حقها في الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وهو ما لم يكن موجودًا من قبل. وهناك من عبرن عن رضاهن بالدستور الجديد، حيث إنه يتضمن 141 فصلًا تُعنى بالحريات العامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي إلى تحسين وضع المواطن التونسي بصفة عامة.
وعلى النقيض، تخشى أخريات على مكاسب المرأة من الدستور الجديد، ويرى الكثيرات منهن أن هناك تهديدًا حقيقيًا يُنذر باندثار مكاسب عديدة أفنت أجيال طويلة جهودها من أجل تحقيقها على امتداد أكثر من ستّة عقود. كما انتقدت بعض الجمعيات المدافعة عن حقوق المرأة اللغة التي كُتب بها مشروع الدستور والتي لم تُشر في أكثر من موضع إلى النساء بصفتهن مواطنات وتم إطلاق وصف “الدستور غير المجندر” على الدستور الجديد. فوفقًا لتصريح رئيسة “جمعية النساء الديموقراطيات” نائلة الزغلامي إن تنصيص مشروع الدستور في فصله الخامس على أن الدولة تعمل “على تحقيق مقاصد الإسلام” ينزع طابع الحياد عنها، و”يجعل العامل الديني ليس فقط مكوّنًا ثقافيًا، بل عنصرًا من عناصر الحياة السياسية والقانونية للدولة”، مما قد يترتّب عليه انعكاسات تتعلّق بالتشريعات في المستقبل وبالضمانات الواجب حمايتها وبالحدود المفروضة، في إشارة واضحة إلى حق المرأة التساوي مع الرجل في الميراث الذي صادق مجلس الوزراء التونسي، بإشراف الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي عليه.
بينما عبّرت مجموعة من الجمعيات النسوية تحمل تسمية “الديناميكية النسوية” عن خوفها من انعكاسات عدم النص على مدنية الدولة في مشروع الدستور الجديد. وجاء في بيان اتحاد الجمعيات: “بعد قراءة أولى لنص الدستور الجديد نعبّر عن قلقنا الشديد من المخاطر التي تضمّنها نص الدستور والتي تهدّد الديمقراطية والحريات العامة والفردية وتحقيق المواطنة والمساواة الفعلية”. كما انتقدت تلك الجمعيات تعويض عبارة “المساواة الفعلية” بين الجنسين بالعدل، وفق تصوّر ديني يحيل على المعنى المقاصدي الذي تغيب فيه المساواة بحسب وصفهم. بالإضافة إلى ذلك، عبرت تلك الجمعيات عن استيائها من تنظيم استفتاء بهيئة انتخابات معينة استثنت تمثيل النساء في تركيبتها، معتبرين أنّ هذا الإجراء خطوة تمييزية أخرى تنسف مبدأي المساواة والتناصف اللّذين ضمنهما دستور 2014، بعد نضالات مستميتة خاضتها أجيال الحركة النسوية والحقوقية”.
مكاسب نوعية
منذ استقرار تونس عام 1956، وهي في محاولة مستمرة للتأكيد على ميراثها السياسي في تمكين المرأة، فكانت البداية بإنشاء تشريعات مجلة الأحوال الشخصية في أغسطس 1956، بمقتضى مرسوم من باي تونس، ودخلت حيز التنفيذ في يناير 1957م، وهدفت تلك التشريعات إلى تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في عدة مجالات، ونص القانون حينها على إلغاء تعدد الزوجات، ومنح المرأة حق التصويت، وحق طلب الطلاق، والحق في التعليم والعمل. فيما تم تمكين المرأة في عام 1973 من حق الإجهاض، وغيرها من الحقوق الأخرى التي عززت دورها في الحياة العامة، ودعمت مركزها في مواقع صنع القرار بالدولة.
وحتى يومنا الحاضر ما زالت المرأة التونسية تسجل العديد من المكاسب السياسية والاجتماعية، والتي تُعد بمثابة محطات رئيسية في تاريخ نضالها، مما جعلها قدوة لمثيلاتها في الوطن العربي، حيث تم إقرار القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 في 11 أغسطس 2017 والذي يتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة ما اعتبرته الجمعيات النسوية ثورة تشريعية. علاوة على مصادقة لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بمجلس نواب الشعب على تعديل ينص على إلغاء كل ما هو تمييز بخصوص استخراج جواز سفر القاصر أو سحب جواز السفر أو الترخيص في سفر القاصر إلى الخارج، عام 2015، وجاء ذلك تنقيحًا للقانون عدد 40 الصادر سنة 1975. وأصبح بذلك سفر القاصر خاضعًا إلى ترخيص أحد الوالدين أو الولي أو الأم الحاضنة بعد أن كان حصرًا على الأب.
ويُعد المكسب الأبرز للمرأة هو تحقيقها المساواة في الترشحات للهياكل النيابية، والنص على المساواة بين المواطنات والمواطنين في الحريات العامة والفردية، ومبدأ تكافؤ الفرص التي نص عليه الدستور.
فضلاً عن تعيين السيدة نجلاء بودن، أول رئيس حكومة في التاريخين العربي والتونسي، وتشكيلها لحكومة مكونة من 24 وزيرًا وكاتب دولة، منها تسع حقائب وزارية أُسندت للمرأة، شملت وزارات (الثقافة، المالية، البيئة، المرأة، التجهيز والإسكان، التجارة، العدل، الصناعة والطاقة، وكتابة الدولة لدى وزارة الخارجية)، وبذلك شكّلت حصَّة النساء تقريبًا 38% من الحكومة الجديدة.
وجدير بالذكر، تزامنت جميع تلك المساعي النسوية في التمكين مع التغير السريع في رأي الشارع التونسي حول أفضلية تقلد الرجال للمناصب القيادية السياسية بالذات قد أظهر استطلاع أجرته شبكة البارومتر العربي يفيد بأن تونس شهدت الانخفاض الأكبر في عدد الأشخاص الذين يقولون إن الرجال أفضل من النساء كقادة سياسيين من بين 9 دول عربية. فكان هناك انخفاض قدره 16 % – من 56 إلى 40 % – في نسبة هؤلاء الذين يتفقون مع ذلك الرأي، وذلك وفقًا لتقرير نشرته شبكة الباروميتر العربي في يوليو 2022.
سلبيات وإيجابيات
تخشى كثير من الآراء النسوية من فكرة استغلال بعض قادة الدول لفكرة تمكين المرأة في بعض المناصب القيادية البارزة لتحقيق أهداف ضمنية عديدة بعيدة عن تلك المعلنة مثل: استغلال حقها في التمكين كوسيلة لإضفاء الشرعية على النظام الحاكم واكتساب الرضا الدولي، خاصة لو كانت هناك قرارات استثنائية قد تثير الرأي الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، في ظل مراقبة الرأي الدولي للنظام وقراراته.
أيضًا استغلال إشراك المرأة في المناصب القيادية بصفة عامة فيما تحققه من نفع للدول في الارتقاء بمكانتها وتقدم وضعها في التصنيفات الدولية التي بالضرورة ينعكس بالإيجاب على درجة الرضى الدولي عن النظام الحاكم بأكمله. وأخيرًا قد يُسبب مستوى تمكين المرأة في دولة عربية كتونس مثلًا إحراجًا للدول العربية الأخرى خاصة في ظل تسابق المنصات العربية والأجنبية في إصدار التقارير والتصنيفات وعقد المقارنات حول وضع المرأة في الدول العربية بأجمعها.
ولكن يتبقى أبرز المكاسب المؤكدة من سباق تمكين المرأة عربيًا، هو مواجهة فكر تيار “الإسلام السياسي” الذي حكم عدة دول عربية خلف فيها أضرار جسيمة بوضع المرأة اجتماعيًا وسياسيًا لا تزال آثارها باقية حتى اليوم في ظل محاولات مستميتة من أنظمة تلك الدول في تدارك وعلاج آثارها.