بعد أشهر من الانتقادات لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ لافتقارها إلى مقاربة فيدرالية متماسكة للأمن السيبراني، كشف البيت الأبيض عن “الاستراتيجية السيبرانية القومية” في العشرين من سبتمبر الماضي، بعد أن أخفقت سياسات الإدارات الأمريكية السابقة للأمن السيبراني في منع تعرض المؤسسات الأمريكية المدنية والعسكرية – على حد سواء – لتهديدات من خصومها ومنافسيها، لا سيما بعد التدخل الروسي، حسب كثير من التقارير الاستخباراتية، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في الثامن من نوفمبر 2016، وتوقعاتها بأن يكون هناك تدخل آخر في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقرر لها في نوفمبر من هذا العام.
يؤدي ضعف المؤسسات والوكالات الأمريكية لصون الأمن السيبراني للولايات المتحدة إلى تعرّضها للمزيد من الحوادث الأمنية، والهجمات السيبرانية التي قد تمكّن المنافسين والخصوم من الوصول إلى معلومات أمريكية حساسة، أو الإفصاح عنها، أو تعديلها، أو إتلافها، الأمر الذي يهدد الأمن القومي للولايات المتحدة، ورفاهيتها الاقتصادية، والصحة والسلامة العامة للأمريكيين.
حماية الفضاء السيبراني:
تعد الاستراتيجية السيبرانية الجديدة، وفقاً لبيان مجلس الأمن القومي عنها، أول استراتيجية مفصلة للولايات المتحدة منذ عام 2003 عندما أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش استراتيجيتها القومية لحماية الفضاء السيبراني. وتحدد استراتيجية إدارة ترامب الأولويات الحاسمة لصون المصالح الأمريكية في الفضاء السيبراني، انطلاقاً من قناعة بأن الولايات المتحدة هي التي أنشأت الإنترنت، وأن عليها أن تحافظ على دورها المهيمن في تحديد الفضاء السيبراني، وتشكيله، وحمايته.
ومع انخراط منافسي وخصوم الولايات المتحدة (الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران) في التجسس الاقتصادي، وأنشطة سيبرانية خبيثة، والنظر إلى الفضاء السيبراني على أنه ساحة يمكن فيها تحييد القوة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية الأمريكية الساحقة، وتقويض الديمقراطية الأمريكية، تجيز الاستراتيجية العمليات السيبرانية الهجومية ضدهم، تماشياً مع سياسة أمريكية جديدة تخفف من قواعد استخدام الأسلحة السيبرانية لحماية البلاد من هجمات سيبرانية لا تهدد فقط الديمقراطية الأمريكية، ولكن المؤسسات الاقتصادية والأمنية الأمريكية، والتي ستؤثر في التحليل الأخير على قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي الذي أسسته في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي تنفرد بالهيمنة عليه في أعقاب نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق مع نهاية ثمانينات القرن المنصرم.
وتعمل الاستراتيجية السيبرانية لإدارة ترامب على الحد من القيود التي وضعتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما المقيّدة للقيام بهجمات سيبرانية على خصوم ومنافسي الولايات المتحدة. وفي المؤتمر الصحفي للكشف عن الاستراتيجية قال مستشار الأمن القومي جون بولتون، إن “أيدينا ليست مكتوفة كما كانت في عهد إدارة أوباما”. وأضاف أن الاستراتيجية تتضمن توجيهاً رئاسياً جديداً حل محل التوجيه الصادر في عهد الإدارة السابقة يسمح بأن تقوم المؤسسة العسكرية الأمريكية والوكالات الأخرى بعمليات سيبرانية، تهدف لحماية أنظمة وشبكات الولايات المتحدة الحرجة التي يؤثر استهدافها في القوة والمكانة الأمريكية الدولية.
وتتفق تصريحات بولتون مع توجه الإدارة الأمريكية لتبني سياسة ردع سيبرانية أكثر هجومية مقارنة بمواقف الإدارات الأمريكية السابقة، وسعيها لإنشاء هياكل الردع التي ستثبت للخصوم والمنافسين أن تكلفة استهدافهم وتحديهم لمصادر القوة والنفوذ الأمريكي يكون مكلفاً أكثر مما يتحملونه.
وتأتي الاستراتيجية السيبرانية الجديدة للولايات المتحدة في إطار مساعي الرئيس الأمريكي لإنشاء فرع سادس للجيش الأمريكي يركز على الفضاء، ويُحقق هيمنة أمريكية عليه، بعد أن حقق أعداؤها والقوى المنافسة لها تفوقاً عليها في الفضاء الخارجي، ما يمثل تهديداً للتفوق العسكري الأمريكي. كما أنها صدرت بعد يومين من إعلان وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في الثامن عشر من سبتمبر الماضي عن استراتيجيتها السيبرانية التي تكشف عن دور قوي للوزارة في حماية الانتخابات، والدفاع عن البنية التحتية الأمريكية من هجمات سيبرانية، وتنسيق وتبادل المعلومات حول التهديدات السيبرانية مع القطاع الخاص الأمريكي.
وقد أصدرت وزارة الدفاع والبيت الأبيض استراتيجيتهما لتعزيز الأمن السيبراني بعد تقرير صادم لمكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي في سبتمبر من العام الجاري عن حالة الأمن السيبراني داخل الولايات المتحدة، وانتقد غياب استراتيجية أمريكية شاملة للأمن السيبراني، ما قد يجعل الوكالات الفيدرالية، والبنية التحتية الحيوية للولايات المتحدة، بما في ذلك الطاقة، وأنظمة النقل والاتصالات، والخدمات المالية، معرضة للخطر. وتزداد مخاطر الأمن السيبراني هذه مع تنامي التهديدات الأمنية وتعقّدها.
أربعة ركائز
وتقوم استراتيجية الإدارة الجديدة لتعزيز الأمن السيبراني الأمريكية على أربع ركائز رئيسية، هي على النحو الآتي:
أولا- تعزيز الأمن القومي الأمريكي، من خلال تبادل المعلومات عبر الوكالات الفيدرالية؛ لحماية شبكات الكمبيوتر الاتحادية، وتأمين البنية التحتية الحيوية للبلاد، وذلك من خلال إعطاء وزارة الأمن الوطني مزيداً من الصلاحيات لرقابة جهود الأمن السيبراني المدنية، ومكافحة الجرائم السيبرانية من خلال التعاون مع الدول الأخرى لتعقب منفذيها.
ثانياً- تعزيز الاقتصاد الأمريكي الرقمي، بتشجيع الابتكار في قطاع التكنولوجيا، وذلك من خلال العمل مع شركات التكنولوجيا لتعزيز اختبارات الأمن السيبراني في المنتجات الجديدة. بالإضافة إلى بناء قوة عاملة حكومية في مجال الأمن السيبراني من خلال توظيف المتخصصين من ذوي الكفاءات في مجال الأمن السيبراني في المؤسسات والوكالات الأمريكية.
ثالثاً- مكافحة التهديدات السيبرانية، من خلال استخدام كافة أدوات القوة الأمريكية لردع أي هجمات سيبرانية، وتعزيز المعايير الدولية في الفضاء السيبراني.
رابعاً- الدعوة إلى حرية الإنترنت في جميع أنحاء العالم، وتزويد حلفاء الولايات المتحدة بقدرات سيبرانية؛ للتعامل مع التهديدات السيبرانية التي تستهدف المصالح المشتركة.
وعلى الرغم من أن الاستراتيجية التي جاءت في أربعين صفحة لم تحتو إلا على القليل من المقترحات الجديدة، حيث إن معظمها مستمد من سياسات الإدارات السابقة، فإنها لقيت ترحيباً من بعض السياسيين، والمشرعين، وخبراء الأمن السيبراني؛ لأنها تسمح للولايات المتحدة باتباع نهج أكثر هجومية ضد الهجمات السيبرانية التي تتعرض لها، وبالتصدي العاجل والوقائي لأي هجوم وشيك. كما أنها تحقق التوازن الجيد بين الإجراءات الدفاعية وفرض عواقب مكلفة على منفذي الهجمات السيبرانية.
وعلى الجانب الآخر تعرضت الاستراتيجية لبعض الانتقادات؛ لأن البيت الأبيض لم يقدم إلا القليل من التفاصيل حول كيفية تطبيقها بالفعل على أرض الواقع.خلاصة القول، إن استراتيجية الرئيس الأمريكي للأمن السيبراني، بعد عقد ونصف من آخر استراتيجية لحماية الفضاء السيبراني، تهدف إلى وضع معايير عالمية لكيفية استخدام الدول والفاعلين ما دون الدولة للفضاء السيبراني، واستمرار الهيمنة الأمريكية سيبرانياً، وحماية مصالح الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية داخلياً وخارجياً، وكذلك معاقبة «الجهات الفاعلة الخبيثة» مثل روسيا والصين التي تخطط لشن هجمات سيبرانية تقوّض مصادر القوة والنفوذ الأمريكي عالمياً.