مصطلح “نيران صديقة” المستعار من المجال العسكري يعبر عن النيران التي تخرج بالخطأ من أحد جنود وحدة أو جيش معين لتصيب أحد أفراد الوحدة أو الجيش. ولنا أن نتخيل حجم الأثر النفسي والإحباط الذي يصاب به الجنود حينما تؤدي النيران التي يطلقونها إلى إصابة أصدقائهم ومن ثم يتدرب هؤلاء الجنود على كيفية تفادي الوقوع في فخ النيران الصديقة وأيضا على كيفية تجاوز آثارها في حال حدوثها. ولعلنا جميعا قد لمسنا أثر النيران الصديقة في مجال كرة القدم على اللاعب أو المنتخب الذي يصاب بهدف نتيجة النيران الصديقة. مصر أمام روسيا نموذجا واضحا، بل إن لاعب المنتخب الكولومبي أندريس إسكوبار فقد حياته عقابا على إحرازه هدفا في مرمى فريقه في كأس العالم عام 1994.
وفي مجال الحرب “الخرساء” التي تتعرض لها مصر خلال السنوات الأخيرة تلعب الإشاعات ومنها المعلومات المغلوطة دورا رئيسيا في تلك الحرب. وخلال السنوات الخمس الماضية تمكنت مصر، دولة ومجتمعا، من التصدي وتجاوز داعيات الإشاعات التي يطلقها بشكل يومي كل من يستهدف مصر ويريد لها السقوط في بئر الفوضى مرة أخرى. الإشاعات طالت كل شئ وأي شخص، طالت كل المؤسسات، طالت الواقع ومعه أيضا الأمل والحلم، طالت العلاقة بين الدولة والمجتمع. الهدف الرئيسي إغراق المجتمع بسيل جارف من الإشاعات عسى أن يتمكنوا من التمكين لواحدة وتسويقها. وبصرف النظر عن آلياتهم التي يستخدمونها ومدى نجاحهم في تسويق تلك الإشاعات وبصرف النظر كذلك عن أثرها، يبقى الأهم مشاركة البعض من غير المحسوبين على فريق الإضرار بمصر في تسويق الإشاعات وخدمة مشروع ذلك الفريق بإطلاق بعض الإشاعات بقصد أو بدون قصد. وهنا نكون إزاء ما يمكن تسميته “إشاعات صديقة” دائما ما يكون حظها من الانتشار والتأثير أكبر بكثير من تلك الإشاعات التي يتبناها فقط أهل الشر في وسائل إعلامهم ومنصاتهم الإليكترونية وصفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. ذلك أن كثيرا من فئات المجتمع يكونون أقرب لتصديق الإشاعات أو على الأقل التجاوب معها حين يتبناها بعض ممن لا يعرف عنهم انتمائهم لجماعات الشر.
وفي الحقيقة، فإن نسبة كبيرة من الإشاعات التي تعرضت لها مصر والتي أكد الرئيس السيسي أنها وصلت إلى 21 ألف إشاعة خلال الثلاثة أشهر الماضية ما كان لها أن تحدث أثرها لولا تبنيها وتسويقها أو تصديقها من قبل بعضنا ومن قبل أصحاب الرأي وقادته عبر وسائل إعلامنا. وإذا كان من السهل التصدي للإشاعات التي يطلقها أهل الشر وتفنيدها فإنه يبقى من الصعب جدا فعل الشئ نفسه مع الإشاعات التي يطلقها بعضنا أو يتبناها ويروج لها. وفي الحالتين يصعب أيضا التصدي للإشاعات دون توافر معلومات حقيقية بشكل سريع وموثوق فيه. توافر المعلومات الصحيحة والحقيقية في وقتها هو وحده ما يخلق المصداقية، فالصدق يسبق المصداقية. فكلما كنت صادقا توافرت لك المصداقية الكفيلة وحدها بمواجهة كل الإشاعات وكشف زيف الأخرين أمام المجتمع. كما أنه من المهم أيضا إدراك أن الإشاعات التي يطلقها أهل الشر لا تنحصر فقط فيما ينتشر عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فهناك الآلاف من الإشاعات التي يروجها هؤلاء بالتواصل الشخصي في كافة ربوع الوطن مستغلين عدم وجود الوعي الكافي لدي المواطنين بهدف إحداث أكبر قدر ممكن من البلبلة والإحباط وتجهيز هؤلاء المواطنين للانسياق خلف الإشاعات الأخرى التي يتم بثها عبر وسائل الإعلام. وفي تقديري فإن تلك الإشاعات تظل أخطر بكثير على المدى الطويل من تلك الإشاعات التي يلقى الضوء عليها، وهي المسئول الأول عن توفير البيئة الخصبة لانتشار الإشاعات بالشكل الحادث حاليا.ومن ضمن آلاف الإشاعات التي ضربت مصر مؤخرا بعض الإشاعات الصديقة. منها أولا ما يرجع إلى الانسياق وراء سرعة نقل الخبر وتوهم أن ذلك يحقق سبقا يجذب المزيد من المتابعين في عالم الفيس بوك الباحث عن السرعة والأخبار المختلفة بصرف النظر عن حقيقتها. من بين تلك الإشاعات إشاعة وقوع انفجار بمطار القاهرة التي تم التعامل معها بسرعة فماتت. والإشاعة المتعلقة بالدافع وراء مقتل أطفال المريوطية الثلاثة، ففور اكتشاف الحادث سرت كالنار في الهشيم إشاعة أن سبب مقتلهم الحصول على أعضائهم. وكما هو الحال مع كل إشاعة فإنه لا يمكن معرفة مطلقها الأول ولكن المؤكد في تلك الإشاعة أن ترويجها وانتشارها يرجع إلى نشرها من قبل الكثيرين منهم وتناقل روايات من سموا أنفسهم “شهود العيان”، وأحدثت ما أحدثته من ذعر لدي المصريين قبل أن تكشف الشرطة عن السبب الحقيقي لمقتل هؤلاء الأطفال. وهناك ثانيا تلك الإشاعات الناتجة عن سوء الفهم وترديد المغالطات حتى صارت وكأنها حقيقة. خذ مثلا إشاعة أن البرلمان أقر تعديلا لقانون منح الجنسية المصرية لإعطاء الجنسية لطالبها مقابل 7 ملايين جنيه مصري! إذ بدأ البعض في ترويج إشاعة أن الحكومة المصرية تبيع جنسيتها لمن يدفع، مستخدمين في ذلك ترديد مقولة أن الجنسية لا تباع ولا تشترى، وهي مقولة حق ولطن يراد بها باطل. فالتعديل الذي أقر تعامل فقط مع الفترة التي يحق لطالب الجنسية بعدها أن يتقدم بطلبه، فأعطى من يودع 7 ملايين جنيه بالبنوك المصرية استثناء بأن يتقدم بطلب الحصول على الجنسية بعد خمس سنوات وليس بعد عشرة وتطبق عليه نفس الإجراءات والشروط المقرة في قانون الجنسية ولا يوجد ما يجبر الحكومة على منحه الجنسية فقط لأنه أودع 7 ملايين جنيه. المشكلة الحقيقية أنه رغم خطورة الإشاعات ورغم كونها الآلية المفضلة والمعتمدة من قبل أهل الشر في الحرب ضد مصر، فإننا ما زلنا نتعامل معها بمنطق رد الفعل وبشكل موسمي دونما تطوير دليل أو كتالوج لكيفية تعامل ليس فقط الدولة بل المواطن مع الإشاعات وكيفية مواجهتها. وهكذا نظل ندور في الحلقة المفرغة ننتظر إطلاق الإشاعات/النيران الصديقة القادمة.
رئيس وحدة الرأي العام/ رئيس تحرير الموقع الالكتروني