مع تزايد الصعوبات الاقتصادية العالمية، انتهجت دول عدة خططًا للترشيد بهدف تقليل حجم الأضرار على فئات الشعب المختلفة، وهو ما قررت مصر أن تقوم به من خلال عدة إجراءات منهجية لترشيد استهلاك الطاقة والمياه. إذ كشف رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، في 9 أغسطس من العام الجاري 2022، عن خطة الحكومة لخفض وترشيد استهلاك الطاقة والمياه على الصعيد الوطني وسط أزمة الطاقة العالمية، حيث أكد رئيس الوزراء مدبولي أن الحكومة تعمل على ترشيد الطاقة لتوفير الغاز الطبيعي لإعادة توجيهه للتصدير وزيادة مصادر النقد الأجنبي في مصر خلال الأزمة غير المسبوقة للطاقة خاصة بعد استمرار الحرب الروسية الأوكرانية. وأوضح أن هدف الدولة من توفير الكميات الكبيرة المستهدفة من الغاز يكمن في أهمية الحصول على العملات الأجنبية لاستخدامها في تقليل الخسائر المترتبة من تفاقم الوضع الاقتصادي في مصر والعالم.
خطة عاجلة للترشيد
كشف وزير الإسكان عاصم الجزار في وقت سابق عن توجيهات لوزارته بدراسة خطة لترشيد استهلاك الطاقة والمياه. وبعدها تم نشر هذه الخطة المتعلقة باستهلاك الطاقة والكهرباء، والتي بدأ تفعيلها اعتبارًا من يوم 11 أغسطس 2022، ونصت الخطة على عدة أوجه، منها تطبيق إعدادات التوقيت الصيفي في المولات التي تتضمن الغلق الساعة 11 مساءً. كما تضمنت عدم إضاءة واجهات المباني الحكومية ليلًا، وعدم إنارة المباني الحكومية بعد الدوام الرسمي باستثناء القطاعات الخدمية، كما نصت على تقليل إنارة الشوارع والساحات. كذلك عدم تثبيت المكيفات المركزية على درجات حرارة أقل من 25 درجة في المباني والمجمعات التجارية. وفعلت الخطة إجراءات خاصة للحد من إنارة النوادي والملاعب والمؤسسات الرياضية عن طريق توحيد استخدام مصابيح من نوع LED الأمامية الموفر للطاقة في إضاءة جميع الملاعب ونوادي الشباب الرياضية.
تحديات استمرار الأزمة
تشير جميع التحليلات الاقتصادية إلى عدم وضوح مدة استمرار الأزمة، وهو ما دفع رئيس الوزراء المصري إلى التصريح بأن للمواطنين والحكومة دورًا في ترشيد استخدام الطاقة. كانت مصر قد غيرت من طريقة تعاملها مع موارد الطاقة والكهرباء بعد معاناة المواطن لسنوات من انقطاع التيار الكهربائي بالساعات. إلا أن الوضع حاليًا أفضل بعد التطوير الضخم في القطاع. ففي بيان رسمي على لسان المتحدث لوزارة الكهرباء المصرية في يونيو 2022، أكدت الوزارة أن فائض الكهرباء في مصر يزيد على 25 في المائة. وبينما يتم توليد معظم الطاقة في مصر من الغاز، تخطط الدولة لزيادة إمدادات الكهرباء المولدة من مصادر متجددة إلى 42٪ بحلول عام 2035.
إلا أن هدف الترشيد يأتي من تأثير الأزمة على مصادر الدخل وارتفاع الأسعار العالمية. فأصبحت الحاجة إلى تقليل استخدام البترول أكثر إلحاحًا وسط ارتفاع أسعار الطاقة في جميع أنحاء العالم في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية، التي أجبرت مصر في شهر يوليو على رفع أسعار منتجات الوقود بما يصل إلى جنيه واحد للتر في المراجعة ربع السنوية. وهو الارتفاع الأكبر في أسعار الوقود منذ أكتوبر 2019. وكان من المتوقع أن تكون هناك زيادة أخرى في أسعار الكهرباء هي الأخرى، إلا أن الحكومة المصرية أعلنت تأجيل تلك الزيادة الدورية المقررة، على أن تبدأ العام المقبل في يناير 2023 بدلًا من يوليو 2022 لتخفيف معاناة المواطنين وسط ارتفاع التكلفة المعيشية.
رحلة السياسات استباقية لترشيد الطاقة
لم تكن تلك الإجراءات الترشيدية عشوائية، بل تم وضعها طبقًا لسياسات الحكومة القائمة الخاصة بالتنمية المستدامة وإدارة الموارد بصورة بيئية واقتصادية. فعلى سبيل المثال تنتهج الحكومة المصرية خطة العمل الوطنية المصرية لكفاءة الطاقة (NEEAP)، والتي تم تطويرها وفقًا لمتطلبات الإطار العربي لكفاءة الطاقة (AEEF). وتأخذ تلك الخطة في الاعتبار التحديات التي تظهر وقت التنفيذ. وهو ما كان يعتبر نقطة ضعف في الخطط الشبيهة السابقة، التي كانت تبدو نظريًا جيدة، إلا أنها كانت تواجه معوقات مختلفة وقت التنفيذ.
كما تتوافق خطة العمل الوطنية مع استراتيجية الطاقة المستدامة المتكاملة في مصر (ISES) حتى عام 2035 التي اعتمدها المجلس الأعلى للطاقة (SEC) في أكتوبر 2016. علاوة على ذلك، تأخذ الخطة في الاعتبار التدابير قصيرة الأجل المطلوبة المنصوص عليها للعمل ما بين أعوام 2015 و2020، بما في ذلك أحكام قوانين الكهرباء المختلفة ولوائحها الهادفة لتحسين كفاءة الطاقة.
الغاز المستخدم في محطات الكهرباء
وبناءً على كل هذه الخطوات، تتضح رؤية الحكومة المصرية في اتجاهها لترشيد استهلاك الغاز في محطات الكهرباء لتحقيق عوائد مالية من تصدير الغاز الطبيعي إلى الخارج، خاصة مع كل تلك الخطوات السابقة خلال الأعوام الأخيرة صوب زيادة الاستكشافات وتحويل مصر إلى بؤرة لتجميع الغاز وتسييله ونقله بالمنطقة، بالإضافة إلى التحديات اللي يواجهها العديد من الدول مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية. ومع استهلاك مصر لأكثر من 60٪ من إنتاجها من الغاز الطبيعي في إنتاج الكهرباء، كان من الواجب إعادة النظر في السياسة الاستهلاكية بهدف الاستفادة من النسبة التي من الممكن توفيرها.
صرح رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، بأن الخطة لترشيد استهلاك الغاز بدأت منذ أكتوبر 2021، حيث اتفقت وزارتي الكهرباء والبترول على استبدال الغاز بالديزل في محطات الكهرباء، وذلك بالتزامن مع الإجراءات الاقتصادية الاصلاحية ما بعد أزمة وباء كوفيد 19. إلا أن الوضع زاد سوءًا مع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي بشكل كبير عالميًا في 2022. علاوة على ذلك، أدى تراجع احتياطيات العملات الأجنبية إلى زيادة الضغط على الدولة.
تقوم الدولة المصرية بتسعير الغاز الطبيعي للاستخدام المحلي بسعر 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية (MMBtu)، لكنها قد تصل إلى 30 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية إذا تم تصديرها. وهو ما يعني أن أسعار الكهرباء الحالية مدعومة بشكل غير مسبوق يصل إلى عُشر قيمتها الفعلية في السوق العالمي، والسعر الحقيقي أعلى من السعر المطبق على الجمهور بخمسة أضعاف الأسعار الحالية على الأقل.
إذ إن التكلفة الفعلية لإنتاج كيلووات ساعة واحدة كانت 1.09 جنيه قبل ارتفاع سعر الصرف، وشرائح الاستهلاك الأربعة الأولى لذوي الدخل المنخفض هي 0.48 جنيه، 0.58، 0.77، 0.95 جنيه. ولكن بعد ارتفاع سعر الصرف، ارتفعت التكلفة الفعلية لإنتاج كيلووات ساعة واحدة من 1.09 جنيه إلى 1.19 جنيه مع احتمال ارتفاعها مجددًا.
ومع هذه التكاليف الإضافية التي تتحملها الدولة، تقرر الاتجاه لترشيد استهلاك الغاز الطبيعي في محطات الكهرباء، بهدف زيادة صادراته وبالتالي وزيادة احتياطيات النقد الأجنبي، عوضًا عن فرض المزيد من الزيادات الأخرى على المواطن.
صرحت كذلك الشركة القابضة للكهرباء بأن خطة الترشيد للغاز الطبيعي تشمل الاعتماد المتزايد على الديزل لتشغيل محطات الطاقة البخارية بدلًا من الغاز الطبيعي. وتهدف الخطة إلى توفير ما بين 22 و25 مليون متر مكعب من الغاز. كما تشمل إيقاف وحدات إنتاج الطاقة المستنفذة للوقود واستبدالها بمحطات أكثر كفاءة في الاستهلاك. بالإضافة إلى ذلك، يتم تشغيل حوالي 75٪ من محطات الكهرباء التي تنفذها شركة سيمنس، وعلى الرغم من أنها تعمل بالغاز الطبيعي، إلا أنها فعالة في الاستهلاك وتتجاوز كفاءتها 60٪، وهو ما يعتبر كفاءة جيدة نسبيًا.
خطط أخرى لترشيد الغذاء والمياه
لم تتوقف خطط الدولة المصرية على ترشيد الكهرباء وموارد الطاقة فقط، بل امتدت لتشمل موارد أخرى. فمنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، دعت الحكومة المصريين إلى ترشيد استهلاك السلع الاستراتيجية لتخفيف عبء العملة الأجنبية على الدولة، لكنها أكدت توافر السلع الأساسية حتى نهاية العام.
وفي يونيو 2022، دعا رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي المواطنين إلى ترشيد استهلاكهم وسط استمرار أزمة الغذاء العالمية، مشيرًا إلى أن ذلك سيمكن الدولة من توفير جميع الاحتياجات والحفاظ على احتياطيات السلع الأساسية غير متأثرة. كما وضعت مصر، التي تعد واحدة من أكثر دول العالم التي تعاني من ندرة المياه، خطة لترشيد استهلاك المياه وتحسين جودة المياه من خلال استراتيجية تستمر حتى عام 2050 بتكلفة تصل إلى 900 مليار جنيه.
يبدو أنه مع استمرار الأزمة العالمية الراهنة، لا يوجد مفر من المزيد من الإجراءات التقشفية من قبل الحكومة التي ستساهم في تقليل حجم المخاطر على المستوى المعيشي إلى المواطن ولو بصورة نسبية.