تشير ردود الفعل الإيجابية من مختلف القوى والتيارات السياسية على الكلمة التي افتتح بها الرئيس عبد الفتاح السيسي ولايته الثانية إلى الفارق الكبير بين رؤية وإستراتيجية الرئيس ورؤية هؤلاء الذين طالما انتقدوا المنهج الذي اتبعه الرئيس منذ اليوم الأول في سدة الحكم. هذا الفارق هو المسافة بين من ينطلق من رؤية طويلة الأمد تقوم على تحديد الأولويات والمراكمة على تم بنائه والمعرفة الدقيقة لحدود القدرات والإمكانيات المتاحة وبين أصحاب النظرة قصيرة الأمد وعدم تقدير معطيات الظروف الراهنة وكأن المسئول يعمل في فراغ بمعزل عن التحديات التي تفرضها البيئتين الداخلية والخارجية. فالخلاف على المنهج الذي اتبعه الرئيس والذي استهدف في المقام الأول ضرورة تثبيت أركان الدولة والحفاظ عليها ومواجهة محاولات إفشالها قادته تيارات قللت من عمق إدراك الدولة لمتطلبات تنمية مستدامة حقيقية في مختلف المجالات، وشككت في وجود رغبة حقيقية لدى الدولة في الاستفادة من كل الأفكار التي تتبناها أطراف أخرى خارج دائرة السلطة، بل وادعت أن الدولة تقصي كل هؤلاء!
كلمة الرئيس الافتتاحية للولاية الثانية يجب أن يتم التعامل معها على أساس أنها منهاج عمل أعاد ترتيب الأولويات بشكل يتفق إلى حد بعيد ما كان يطرحه الذين تصوروا أن الدولة أقصتهم وأنها لم تأبه بما يقولون، دون أن يعني ذلك بطبيعة الحال اعترافا بأن ثمة خطأ قد وقع في الولاية الأولى. فالحقيقة أن إعادة ترتيب الأولويات يؤكد نجاح التعامل مع التحديات التي حازت الأهمية في الولاية الأولى بما يبرر الانتقال إلى الأولويات التالية أو رفعها إلى مقدمة الأولويات. والحقيقة أيضا أنه ما كان ممكنا الانتقال إلى الأولويات الجديدة دون النجاح الذي تحقق في التعامل مع أولويات الولاية الأولى. فالموضوع أشبه بالمدير الفني لفرق كرة القدم الذي يدرك جيدا إمكانيات لاعبيه والأهم أنه يدرك أن المباراة من شوطين مدة كل منهما خمسة وأربعون دقيقة، ويبني خطته على ذلك الأساس مهما طالبه الجماهير بضرورة الهجوم منذ اللحظة الأولى ومهما اقترح عليه خبراء الكرة ومحللو الفضائيات دون أن يعني ذلك أنهم على خطأ. فالمسألة في النهاية اختيارات مبينة على معلومات لا تتوافر لأحد بأكثر مما تتوافر للمدير الفني أو لمن يتولى موقع المسئولية. وفي هذا السياق جاءت إحدى الجمل المفتاحية في خطاب الرئيس بقوله “والآن وقد تحققت نجاحات المرحلة الأولى من خطتنا فإنني أؤكد لكم بأننا سنضع بناء الإنسان المصرى على رأس أولويات الدولة خلال المرحلة القادمة يقينا منى بأن كنـز أمتنا الحقيقي هو الإنسان والذي يجب أن يتم بناؤه على أساس شامل ومتكامل بدنيا وعقليا وثقافيا بحيث يعاد تعريف الهوية المصرية من جديد بعـد محاولات العبث بهـا”.
إذن بناء الإنسان المصري أو الاستثمار في البشر كما يفضل البعض هو العنوان العريض في الولاية الثانية للرئيس بكل ما يتفرع عنه أو يجب أن يتفرع عنه من اهتمامات وأولويات حددها الرئيس بقوله “وستكون ملفات وقضايا التعليم والصحة والثقافة فى مقدمة اهتماماتي وسيكون ذلك من خلال إطلاق حزمة من المشروعات والبرامج الكبرى على المستوى القومي”. مشكلة المجالات الثلاثة التي حددها الرئيس أنها مجالات خدمية أي لا تدر أرباحا بل إن تحقيق نتائج ملموسة فيها يقتضي وضع استثمارات كبيرة للغاية، والأهم أن اثنين منها على الأقل هما التعليم والثقافة لا تتوقف نتائجهما على رغبة وقدرة الدولة فقط ويستغرق الوصول إلى مرحلة جني الثمار فيهما وقتا طويلا. ومن ثم فإنه بدون مشاركة مجتمعية حقيقية في مجالي التعليم والثقافة ستظل النتائج الممكن تحقيقها دون المأمول. وبكل تأكيد فإن اقتحام مجالي التعليم والثقافة دونما إستراتيجية واضحة متوافق عليها سيعني دورانا في الحلقة الجهنمية التي دارت الدولة فيها عبر العقود الماضية. وهو الأمر الذي يقتضي حتما طرح إستراتيجية التعامل معهما لحوار مجتمعي حقيقي يستهدف تأمين أكبر قدر ممكن من التوافق على ملامح تلك الإستراتيجية. كما أنه لابد من الاجتهاد في وضع صياغة محددة لدور المؤسسات المختلفة في الدولة ومنظمات المجتمع المدني لانجاز تلك الإستراتيجية انطلاقا من أنها تمثل مشروعا قوميا فعليا للمصريين. بل لعله المشروع الأكبر الذي يحوز توافق المصريين بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم. وفي هذا السياق فإن الدعوة لمؤتمر قومي حقيقي للتعليم والثقافة ومعهما الصحة يجمع كل المهتمين والمتخصصين في تلك المجالات لبلورة سياسة تعليمية وثقافية متكاملة تبدو الطريق الآمن للتعامل مع تلك الملقات. وليكن ذلك هو العنوان الثاني في كتاب الولاية الثانية.
وإذا كان الرئيس السيسي قد أشار عرضا إلى موضوع العقد الاجتماعي فإنه في الحقيقة يمثل أيضا عنوانا عريضا ومهما في الولاية الثانية. فالعقد الاجتماعي يحدد العلاقة بين الحكومة والمواطنين، وتوقعات المواطنين من الحكومة، وكيف تتعامل الدولة بصفة عامة مع مواطنيها. ولسنوات طويلة ساد عقد اجتماعي يقوم على سلبية تامة من المواطنين مقابل تدبير الحكومة لكل شئونهم، فالحكومة تتولى أمر التعليم والترفيه والاقتصاد وفرص العمل وتحدد أساليب الحراك الاجتماعي. بمعنى آخر قام العقد الاجتماعي في مصر على أن تكون الحكومة مسئولة عن كل ما يخص المواطنين من لحظة ميلادهم وحتى وفاتهم. هذا العقد تغير إلى حد بعيد خلال السنوات الأربعة الماضية وأصبح قائما على كما قال الرئيس على المصارحة والشفافية وعدم تخدير الشعب واقتحام المشكلات ومواجهة التحديات من خلال مشاركة الشعب وقدرته على تحمل تكلفة الإصلاح، وهو عقد ثبت بالدليل القاطع أن الشعب مرحب وملتزم به وقادر على حمايته. وهو الأمر الذي يمثل الرافعة أو الضمانة الأساسية لنجاح أي نظام سياسي. وفي إطار ذلك العقد الاجتماعي وضمانا لنجاح المشروع القومي الجديد المستهدف الإنسان المصري تعليما وصحة وثقافة فإن من المهم التكفير في آلية مختلفة لتمويل وتنفيذ ذلك المشروع من قبيل إنشاء هيئة مستقلة للإشراف عليه تدعمها ميزانية الدولة من خلال بند يمكن أن يطلق عليه “السلام الاجتماعي” يشمل كل أوجه الدعم في الموازنة العامة للدولة.
رئيس وحدة الرأي العام/ رئيس تحرير الموقع الالكتروني