لم يعد بمقدورنا فصل تأثيرات “ثورة المعلومات” و”الثورة الرقمية” على علاقة الفرد بالمجتمع، والتي زاد عليها خلق مفاهيم جديدة تحكم هذه العلاقة، مثل “المواطنة الرقمية”. ولفهم هذا النوع من المواطنة تجب الإشارة إلى أن “المعلومة” ليست سوى انعكاس لاستعمال أفرادها، أي أن الفرد هو ما يحدد استخدامها سواء بالشكل الإيجابي أو السلبي. وهو ما ينتقل بالضرورة إلى استخدام الإنترنت كذلك، خاصة بعد أن أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أكثر الأدوات تجسيدا للتفاعل الإنساني بين الأفراد وبعضهم البعض، التي تأخذ مراحلا ثلاثة، أن “تكون” متصلا بالإنترنت، أن “تفكر” على الإنترنت، أن “تتصرف” على الإنترنت.
فنتوصل إلى أن المواطنة الرقمية تعني تفاعل الأفراد فيما بينهم من خلال وسائل تكنولوجية شبكية وهي الانترنت على سبيل المثال. وبشيء من التفصيل يمكن القول إن المواطنة تعني اكتساب الفرد لمجموعة من الحقوق والواجبات، وبعد إسقاط المواطنة على الرقمنة، أصبحت تعني أن الفرد يمتلك حق حرية التعبير عن الذات في حدود المشروع، وحرية التفاعل بينه وبين أفراد مجموعته على الانترنت.
ولكن ما يعيب هذا التفاعل وهذا النوع الجديد من التكنولوجيا هو شح الضوابط والقوانين (الحدود) التي تحكم الاستخدام الأمثل له (أي الواجبات المفروضة على الفرد)؛ فكان لزاما البحث عن “حوكمة” لهذا المجال الاتصالية الذي يجمع 3.3 مليار مستخدم نشط على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، حسب تقرير صدر في يوليو 2018.
ونقصد هنا بالحوكمة، أي اتباع قواعد أخلاقية محددة في ممارسة التفاعل الإنساني الرقمي، مثل المحافظة على خصوصية الذات والأفراد، والالتزام بالأمانة الفكرية، والبعد عن التسلط، وعدم نشر الأفكار الفاسدة أو الإشاعات، وأخيرا احترام الغير.
يفهم من هذا السياق، مدى ارتباط المواطنة الرقمية السليمة بمجال التعليم، والنظم الاجتماعية الداعمة مثل الأسرة، والمدرسة، فالمواطنة الرقمية هي أكثر من مجرد أداة تعليمية، بل هي وسيلة لإعداد الفرد للانخراط الكامل في المجتمع والمشاركة الفاعلة في خدمة مصالح الوطن عموما وفي المجال الرقمي خصوصا. ولا شك أن نشر ثقافة المواطنة الرقمية في البيت بين أفراد الأسرة وفي المدرسة بين صفوف الطلاب أصبح ضرورة ملحة، وقضية وطنية كبرى.
لم تكتف ثورة المعلومات بهذا التأثير الكمي في المواطنة فحسب، بل استبدلت بعض القيم السياسية “الرأسية” إلى أخرى “أفقية”، التي تمردت على أشكال التمثيل السياسي-النيابي لها. بمعنى أن المواطن الرقمي بات يتطلع إلى اتصال مباشر مع النخب السياسية الحاكمة دون وساطات حزبية أو برلمانية، وهو ما ينعكس فعلا على أدوار الأحزاب والبرلمانات في الوقت الحالي. وبات الانترنت مجالا مفتوحا غير رسميا للأفراد للتكلم في السياسة والتطلع إلى المشاركة في صناعة السياسات في أنماط لا تعترف بالمؤسسية، وبات السؤال الحاضر دائما، “ما هي المعايير؟”، “وأين الشفافية؟”.
الأمر الذي خلق ما يعرف بـ “نظرات المواطن الرقمي” والتي تهدف إلى تعزيز بث وتبادل الأخبار السياسية المتعلقة بالصفقات وإبرام العقود واختلالات الوزارات؛ بغية “مواجهة المسؤولين” مباشرة، حتى أمسى الانترنت منصة للتقصي والتحقيق، بل ويزيد عليه أحيانا “منصة للهجوم”.
وعودة إلى ضوابط ممارسات المواطن الرقمي، واجهت الدولة تحديات كبيرة بشأن سلوك الفرد على الانترنت خاصة فيما يتعلق بالاتصال السياسي، وهو دقة وصحة الأخبار السياسية المتداولة بين الأفراد على شبكة الإنترنت، الأمر الذي دفع القيادة السياسية في جمهورية مصر بالقول: “إن أكبر خطر يواجه الدول هو نشر الشائعات”.
إذن نخلص إلى أن هناك مجموعة من المبادئ تجمع المواطنة الرقمية، الهدف منها هو الوصول بالفرد إلى استخدام التكنولوجيا الرقمية بشكل آمن، وصالح، التي تقيس قدرة الفرد على التفاعل الإيجابي مع بقية أعضاء مجموعته الرقمية. ازدهار التكنولوجيات الرقمية وسع من مجال تصرف الأفراد، ودعا إلى عدم تجاهل الحدود والأخطار المحتملة، لذا لا بد من وضع استراتيجيات نوعية أمام المواطن للتعرف على المواطنة الرقمية؛ لإعداد نشء رقمي صالح، يدرك حماية ذاته الرقمية واحترام الخصوصية والذاتية، واحترام الآخرين، والتحري وراء الحقيقة.