أضحى الحديث عن قضايا التنمية المستدامة، وتداعيات تغير المناخ، محط اهتمام دولي على كافة الأصعدة. ومع التوافق العالمي حول رؤية 2030 لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، أصبحت جُل التخصصات العلمية والصناعية تسعى لتصبح خضراء، ولا سيما التعليم. ولعل الزخم الذي يصاحب استضافة مصر لمؤتمر تغير المناخ COP 27 في نوفمبر القادم يقودنا نحو التساؤل عن علاقة تطوير مناهج التعليم بقضايا الاستدامة، وهل حقًا المناهج الجديدة “خضراء”؟ وهل تلبي مناهج مشروع إصلاح التعليم المطورة متطلبات التنمية المستدامة؟، وكيف ستؤثر نتائجها مستقبلًا على الطلاب؟
بِنْيَة المناهج الجديدة وعلاقتها بالتنمية المستدامة
يقصد بتنظيم “بِنْيَة” المناهج تحديد أطر الاهتمام التي تدور حولها الخبرات، والأنشطة في المناهج الدراسية بما يؤثر على نواتج التعلم. أما مناهج نظام التعليم الجديد (2.0)، فقد تم بناؤها في ضوء الاستراتيجية القومية لتطوير التعليم قبل الجامعي 2014 لتترجم رؤية مصر 2030 وفق الأطر العامة لمناهج التعليم قبل الجامعي 2011، ومعايير ومؤشرات التعليم العالمية بهدف تحديد إطار عام لمواصفات خريج التعليم العام والفني، لتحقيق التربية من أجل تنمية المهارات الحياتية والعلمية، وتنمية القيم التي تدعم تنشئة مواطن صالح يسعى إلى التعلم الذاتي المستدام، ويكون قادرًا على توظيف التكنولوجيا لتحقيق تكامل وترابط المعرفة، واختبار صدقها ومعالجتها.
وتسعى فلسفة الإطار العام للمناهج الجديدة إلى تحقيق عدة أهداف هي: تعزيز المهارات الحياتية، تنمية مهارات ريادة الأعمال، تعزيز القيم الإيجابية، والنمو الشامل للمتعلم، توظيف مهارات التفكير الناقد وتقييم المعارف، وإتقان مهارات التعلم الذاتي والمستمر من خلال إدماج التكنولوجيا في التعليم.
وتعتمد بنية المناهج الجديدة على إلغاء فصل المعرفة بين المواد الدراسية، من خلال تعلم أربعة مجالات رئيسية هي:
- اللغات: وتضم اللغة العربية كلغة أم، واللغة الإنجليزية كلغة أجنبية أولى، بالإضافة إلى لغة أجنبية ثانية.
- التربية الشخصية والاجتماعية والبدنية: وتضم التربية البدنية والصحية، والتربية الدينية، والتربية المهنية.
- العلوم والتكنولوجيا: وتضم الدراسات الاجتماعية، والعلوم، والرياضيات.
- وأخيرًا مجال الفنون: ويضم التربية الفنية والموسيقية والمسرحية، والمكتبات والإعلام التربوي.
تتكامل هذه المجالات لتحقيق تنمية معرفية ومهارية وقيمية، حيث يتضمن المنهج الجديد مقررات دراسية مُدمجة في كتاب يضم مجالات متعددة التخصصات لمرحلة رياض الأطفال، والمرحلة الابتدائية، وفق تنظيم بنائي “حلزوني” يحقق نمو المعرفة والقيم والمهارات عبر المراحل الدراسية، ويُسقط الحد الفاصل بين ما يتعلمه الطفل في المدرسة، وما يمارسه خارجها، فيتحول التعليم من دراسة موضوعات تقليدية منفصلة عن الحياة إلى خريطة معرفية تتشابك للتكامل موضوعاتها وفق مسار معرفي يحدده المتعلم طبقًا لتقييمه المعرفي.
وتوظف المناهج الجديدة تعلم ومناقشة (7) قضايا وتحديات محلية وعالمية، ومن هذه القضايا والموضوعات التنمية، والبيئة. وبشكل عام، يتم تناول القضايا من خلال محاور ثابتة عبر المراحل الدراسية هي: من أكون، العالم من حولي، كيف يعمل العالم، التعبير عن ذاتي، وذلك لتحقيق أربعة أهداف رئيسية هي: تعلم لتكون، تعلم لتعرف، تعلم لتعمل، تعلم لتعيش، .
تتحقق هذه الأهداف من خلال تطبيق أنشطة ومشروعات مختلفة، داخل وخارج الفصل، تشملها جميع المواد الدراسية، ويدلل وجود قضيتي التنمية والبيئة في الإطار العام لبناء المناهج الجديدة على دمج أهداف التنمية والاستدامة في نظام التعليم بشكل جيد، وهو ما أكده تقرير “التربية البيئية في البلدان العربية” الصادر عن “المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)” عام 2019، حيث كانت مصر ضمن الدول الثلاث التي حققت تقدمًا واعدًا في دمج موضوعات التربية من أجل التنمية المستدامة في المناهج الدراسية. في ذات السياق، يعكس بناء موضوعات وقضايا المناهج الجديدة وفق محوري “العالم من حولي” وكيف يعمل العالم” توعية الطلاب بأدوارهم نحو البيئة.
تحليل المناهج الجديدة من منظور “أخضر”
تضمنت إجراءات إصلاح التعليم المصري التي انطلقت عام 2018 تطبيق مناهج جديدة على بعض المراحل التعليمية، وتحديدًا من مرحلة رياض الأطفال (المستوى الأول والثاني) إلى الصف الرابع الابتدائي بالمرحلة الابتدائية حتى العام الدراسي الماضي، على أن يتم استحداث مناهج للصف الخامس الابتدائي وما يليه من مراحل تباعًا عامًا تلو آخر.
يمكننا أن نحلل المناهج الجديدة من بمنظور أخضر بحسب نسب توافر موضوعات وأنشطة التربية البيئية والتنمية المستدامة في كل من: المناهج العلمية المتخصصة ذات العلاقة المباشرة بالبيئة مثل: منهج تعدد التخصصات، ومنهج العلوم، ومنهج الدراسات الاجتماعية، والمناهج المهارية مثل: منهج المهارات المهنية، ومنهج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتي تم تطبيقها لأول مره في المرحلة الابتدائية العام الماضي 2021.
على صعيد المناهج المتخصصة، يضم منهج “اكتشف” بمرحلة رياض الأطفال (المستوى الأول) سبعة موضوعات تناقش قضايا بيئية بشكل مباشر من إجمالي اثني عشر موضوعًا، أي أكثر من 58% من المنهج، وتنخفض هذه النسبة إلى 36% في منهج “اكتشف” بمرحلة رياض الأطفال (المستوى الثاني)، حيث يضم المنهج بهذه المرحلة 4 موضوعات فقط عن البيئة والتنمية المستدامة هي: قدمان وأربعة مخالب، علمُنا الطبيعي، عالم من صنع الإنسان، ومرحبًا بكم في مجتمعنا. من جهة أخرى زخر المنهج بالعديد من الأنشطة التي تنمي مهارات الاستدامة ومنها إعادة التدوير، وتبلغ نسبة الأنشطة البيئية نحو أكثر من 72% من إجمالي أنشطة منهج اكتشف بمرحلة رياض الأطفال.
أما عن المرحلة الابتدائية، فحتى الصف الثالث الإبتدائي سجلت معدلات موضوعات البيئة والتنمية المستدامة بمنهج “اكتشف” نسب قدرها 43% بالصف الأول بواقع (6) موضوعات من إجمالي (14) موضوعًا، و50% بالصف الثاني والثالث كل على حده، حيث ناقشت معظم الموضوعات بهذه الصفوف قضايا المياه، وآثار التغيرات البيئية، والنيل في مصر، وبوجه عام تضمن المنهج في المراحل الثلاث أنشطة تخطت نسبتها ثلثي المنهج.
تشعب منهج اكتشف في الصف الرابع الابتدائي، وانقسم إلى ثلاثة مناهج هي: العلوم، والرياضيات، والدراسات الاجتماعية، كمواد دراسية منفصلة، واستحوذ منهج العلوم على النصيب الأكبر من الموضوعات التي ناقشت قضايا البيئة والتنمية المستدامة، حيث بلغت نسبة الموضوعات البيئية نحو 64% بواقع (7) موضوعات من إجمالي (11) موضوعًا. ومن الجدير بالذكر أن منهج العلوم بالصف الرابع الابتدائي اشتمل على تنفيذ مشروعات علمية تسمى (مهام أدائية) بلغت نسبة المشروعات البيئية منها 75%، وتضمنت تصميم نماذج بيئية لتعايش بعض الحيوانات.
من ناحية أخرى، احتوى منهج الدراسات الاجتماعية الجديد للصف الرابع الابتدائي على (9) موضوعات فقط عن التنمية المستدامة والتربية البيئية من إجمالي 31 موضوعًا، منها موضوع عن الحياة المستدامة، وموضوع عن المشكلات البيئية في بلدنا، وموضوع عن النقل الذكي وتوفير الطاقة، وآخر عن مهن ومهارات المستقبل. أما على صعيد المناهج المهارية، فقد سجل منهج المهارات المهنية معدلات أعلى من منهج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بواقع 18 موضوعًا في الأول، وموضوعان فقط في الثاني، بنسب 66%، و13% على التوالي.
في الختام، تبرهن المعدلات المرتفعة لموضوعات التربية البيئية والتنمية المستدامة على أن المناهج الجديدة استطاعت أن تقلل الفجوة بين ما يقدمه التعليم وما يحتاجه العالم من أجل التنمية والاستدامة، خاصة مع توافر أنشطة ومشروعات علمية تكسب الطلاب مفاهيم، ومهارات التنمية المستدامة بالممارسة المباشرة، لكن الاستفادة القصوى من المناهج الجديدة تظل مقرونة بتأهيل وتدريب المعلمين لإمكانية تطبيقها على الوجه الأمثل، وكذلك اقتصار تطبيق المناهج الجديدة على المراحل الأولى من التعليم يستدعي بحث وضع المراحل الأعلى التي لم تلحق بركب التطور وما زالت تتعلم وفق المناهج القديمة.