“يحب أن يكون الإعلام منبرا لقيادة الرأي العام والتخلي عن “وهم” أن العاملين به زعماء يقودون الرأي العام، وهل الإعلام بكل التحديات والمشكلات التي يعانيها الأن قادر بالفعل على أن يقود الرأي العام! وإلى أن يقوده إذا كان باستطاعته أن يفعل! وهل يفعل ذلك باعتباره منبرا حكرا لأصحابه أم باعتباره منصة لقادة الرأي العام الفعليين على كثرتهم!”. ذلك جزء من إجابتي على أحد الأسئلة المحورية التي طرحها ملتقى الإعلام العربي على عديد من الإعلاميين العرب في المؤتمر الذي نظمه الأسبوع الماضي بالتعاون مع نادي الشارقة للصحافة بدولة الإمارات العربية المتحدة. المؤتمر لم يكن مناسبة لعرض أوراق أكاديمية أو محاضرات نظرية، إذ عمد الزميل ماضي الخميس الأمين العام للملتقى أن يكون المؤتمر عصفا ذهنيا بين الإعلاميين من واقع خبرتهم لمناقشة الحالة الراهنة الإعلام مستهدفا البحث عن رؤى تنقل الإعلام العربي إلى وضع أفضل مما هو فيه، على اعتبار أن إعلاما قويا ومهنيا وقادر على أداء كل مهامه ليس قضية العاملين به فقط، ولكنه قضية المجتمع والحكومات في كل الدول العربية. حيث يسود إجماعا على أن الإعلام أحد أهم وسائل مجابهة ما تتعرض له الدولة من ضغوط بل وحروب، وعلى أن المجتمعات العربية مستهدفة عن طريق الإعلام فيما يعرف بحروب المعلومات وخلخلة الوعي ونشر الشائعات تمهيدا لإسقاط الدول من داخلها وليس عن طريق الحروب التقليدية.
اللافت للنظر والمشجع في نفس الوقت أن الإعلاميين المجتمعين في الشارقة لم يتوقفوا كثيرا عند المشكلات المالية التي يعاني منها الإعلام بكافة روافده، وإن كانوا قد تمنوا على الحكومات العربية أن تمد يد العون للإعلام باعتباره سلاحا مهما كما أن الانسحاب من تلك الساحة يعني فراغا كبيرا هناك كثيرون ليس فقط مستعدون لشغله بل إن يسعون إلى خلقه وتوسيع نطاقه. المجتمعون توقفوا كثيرا وتوافقوا على أن المشكلة الأهم التي تواجه الإعلام هي تراجع المهنية وغياب التدريب وتواضع القدرة على تقديم ما من شأنه جذب المشاهد والقارئ العربي بعيدا عن الإعلام الذي يستهدف إما تغييب الرأي العام أو جره إلى حيث لا نريد جميعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا. أي أن الإعلاميين لا تعوزهم شجاعة النقد الذاتي والاعتراف بأن المشكلة الأساسية نابعة من داخلهم. المجتمعون أيضا لم يبدوا انزعاجا كبيرا من وسائل الإعلام الجديدة المعتمدة على شبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، على عكس ما يروج كثيرون متصورين أن ثمة “حربا” بين وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، وأن وجود إحداهما ينفي الأخرى بالضرورة. وكان ذلك مفهوما ما دام الحديث يدور عن المهنة وليس الوسيلة، بل إن المشكلات التي تتسبب فيها وسائل الإعلام الجديدة أكبر بكثير جدا من تلك التي تتسبب فيها وسائل الإعلام التقليدية، الأمر الذي يعني أن وسائل الإعلام الجديدة لا يمكن لها أن تستمر بتلك الطريقة طويلا وأن منحنى انصراف الرأي العام عنها سيبدأ في التصاعد إن عاجلا أو آجلا، وأن المهمة الأساسية الأن هي حماية المهنة من تداعيات ما يحدث من تلك الوسائل الجديدة ومحاولة “ترويضها” لتفيد العمل الإعلامي. إذ لا يمكن إنكار أن الوسائل الجديدة تلك تفتح الكثير من الآفاق وتقدم فرصا حقيقية للارتقاء بالعمل الإعلامي. والأمر كله مرهون بأمانة الكلمة كما أكد الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة الذي يحذر دوما من خطورة الإعلام غير المهني ويعمل دوما على المساعدة في الارتقاء بمهنية الإعلاميين وتدريبهم (تبنيه إنشاء وتجهيز مركز لتدريب الصحفيين هو الأكبر في الشرق الأوسط بنقابة الصحفيين المصرية نموذجا)
وفي الواقع، فإن الإعلام يقوم بدورين أساسيين لا غنى لأي مجتمع عنهما إذ يقوم بإعلام المجتمع بما يجري متحريا الدقة والصدق في نقل تلك الأخبار، ويقوم ثانيا بوظيفة تنويرية مفادها طرح كافة البدائل المتاحة للتعامل مع القضايا المختلفة ونقل كافة وجهات النظر المطروحة بشأنها. وهو في قيامه بدوريه هذين لابد أن يعتمد على المهنية والموضوعية التي لا يثور بشأنهما أي جدل بين المهتمين والعاملين في مجال الإعلام وإلا فقد الرأي العام الثقة فيما يقدمه وبالتالي ينصرف عنه. وتظل المشكلة الرئيسية أن الإعلام تمادى في لعب الدور الذي فرضته مقتضيات الواقع عليه خلال سنوات ما بعد الثورة، حيث استمر في أن يكون طرفا أساسيا في العملية السياسية وليس مراقبا للمشهد ينقل ما يحدث ويطرح وجهات النظر المختلفة بشأنه. وفي الحقيقة فإن أسوأ صور طغيان الدور السياسي للإعلام على دوره المهني في مرحلة ما بعد 30 يونيو تتمثل في تغليب اعتبارات المصلحة الشخصية الضيقة سواء لبعض الإعلاميين أو ملاك القنوات والصحف أو القوى السياسية المختلفة على الصالح العام. ومن ثم تفرغت العديد من وسائل الإعلام لإدارة المعارك الشخصية والهامشية ومحاولة “شيطنة” المختلف وإثارة العديد من القضايا التي لا طائل منها مقابل إهمال القضايا التي تهم وتشغل المجتمع أو على أقل تقدير سوء التعامل مع تلك القضايا. وقد أدى طغيان الدور السياسي للإعلام إلى تسهيل مهمة الهجوم عليه والنيل منه وتحميله مسئولية ما يحدث من سلبيات في المجتمع، وتصويره على أنه أحد أهم العوامل التي تهدد بتفتيت اللحمة والنسيج الاجتماعي وتحويل المجتمع إلى جزر منعزلة يهدد بعضها بعضا.خلاصة القول، فإن مشكلة الإعلام التي تحول دون أن يكون قيادة حقيقية للرأي العام لا تنحصر حاليا في تراجع مهنيته فقط، بل فيما أدى إليه ذلك التراجع. فأولا تراجعت قدرته على التعبير عن حالة التغيير والإصلاح في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وخلق البيئة المناسبة لتسهيل مهمة الإصلاح تلك، وثانيا تورطه في المشاركة بشكل أو بآخر في تسويق القيم والمفاهيم السلبية ونشر الشائعات التي تهدد المجتمع والدولة معا. ومن ثم بدا للجميع أن الإعلام “عاجز” عن الانتقال إلى مرحلة من “الرشد” يكون فيها منبرا بمعنى منصة حقيقية هدفها تنوير الرأي العام وليس فقط إخباره بما عرف من أحداث لحظة وقوعها، مستهدفا جعل الرأي العام أكثر رشدا لمقاربة كل قضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس التلاعب به.
رئيس وحدة الرأي العام/ رئيس تحرير الموقع الالكتروني