تلعب المجالس الوطنية للتعليم حول العالم أدوارًا متعددة لإيجاد حلول مقبولة للمشكلات التي يعاني منها نظام التعليم، وتسهم بشكل أو بآخر في ضمان استدامة السياسات التعليمية وتحديثها لتحقيق أهداف النظام التعليمي في إطار الاستراتيجيات الوطنية الشاملة. ولم يكن المعنيون بالتعليم في مصر بمعزل عن تطبيق مثل هذه الفكرة، حيث تضمنت رؤية مصر 2030 الصادرة في 2016 هدفًا يتمثل في إعادة هيكلة وصياغة نظام التعليم قبل الجامعي، على أن يكون إنشاء المجلس الوطني للتعليم وتفعيله أحد المؤشرات الرئيسية لقياس مدى التقدم نحو ذلك الهدف. وعلى الرغم من تعدد محاولات إنشاء هذا المجلس خلال السنوات الست الماضية وإعادة طرح الفكرة على طاولة الحوار الوطني؛ إلا أن أدوار المجلس المقترحة تمثل تكرارًا لبعض أدوار المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي المنصوص عليه في قانون التعليم منذ 1981.
تعدد الأدوار والاستقلالية دليل على الفاعلية
وفقًا لتجربة وزارة التعليم في “بيرو”، يعرف المجلس الوطني للتعليم بأنه هيئة استشارية على المستوى الوطني تتألف من شخصيات بارزة تمثل الوسطين الأكاديمي والتربوي، وتتمتع بالاستقلالية عن وزارة التربية والتعليم؛ ويتمثل دورها الأساسي في تقديم العون في تنسيق ووضع وتقييم المشروع التربوي الوطني، أي إنها تسهم في تخطيط السياسات والخطط التربوية متوسطة وطويلة المدى. علاوةً على ذلك، فإن تلك الهيئة تعمل كوسيط ومتلقٍ للشواغل الاجتماعية وتخلق قنوات لتوصيلها إلى الإدارة العامة.
أما في الهند، فإن المسمى يختلف قليلًا ليصبح المجلس الوطني للبحوث التربوية والتدريب، وهو هيئة مستقلة تأسست لمساعدة وإسداء المشورة للحكومة المركزية وحكومات الولايات فيما يتعلق بالسياسات والبرامج الخاصة بالتحسين النوعي في التعليم المدرسي. وتتعدد أدواره لتشمل: إجراء البحوث في المجالات المتعلقة بالتعليم المدرسي، وإعداد ونشر الكتب المدرسية النموذجية والمواد التكميلية والرسائل الإخبارية والمجلات وتطوير المواد التعليمية والمواد الرقمية، وتنظيم تدريب المعلمين قبل الخدمة وأثناء الخدمة، وتطوير ونشر تقنيات وممارسات تعليمية مبتكرة، والتعاون والتواصل مع الإدارات التعليمية الحكومية والجامعات والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات التعليمية الأخرى، والعمل كمركز لتبادل الأفكار والمعلومات في الأمور المتعلقة بالتعليم المدرسي. علاوةً على ذلك، فإن المجلس الوطني للبحوث التربوية والتدريب يعد وكالة تنفيذية لبرامج التبادل الثقافي مع دول أخرى في مجال التعليم.
ولم تختلف أدوار المجلس الوطني للتعليم المستهدف إنشاؤه في مصر عن الأدوار سالفة الذكر، حيث تضمنت رؤية مصر 2030 أن تتم إعادة هيكلة وصياغة نظام التعليم قبل الجامعي بهدف تحقيق الأهداف المرجوة وضمان تكامل السياسات والقرارات والقوانين والتشريعات المنظمة للتعليم وجميع الجوانب المرتبطة به، وذلك من خلال إنشاء المجلس الوطني للتعليم وتفعيله ليتولى مسئولية وضع وتطوير سياسة التعليم في مصر بجميع جوانبه ومراحله في ضوء الرؤية الوطنية للتعليم والأهداف الاستراتيجية للدولة المصرية ومتابعة تنفيذها على أن تكون هيئة ضمان الجودة والاعتماد وأكاديمية المعلم تابعين له.
وبوجه عام، يمكن تحديد أدوار المجلس الوطني للتعليم بصفته هيئة مستقلة في بعض الدول فيما يلي:
1. تنظيم قطاع التعليم وضمان جودته، وذلك من خلال تحديد الإطار التنظيمي والمبادئ التوجيهية والمعايير التي تتحقق من خلالها جودة الخدمة المقدمة في المؤسسات التعليمية.
2. تحديد الاحتياجات المالية لقطاع التعليم، وتوزيع الموارد التي توفرها الدولة، ومراقبة الإنفاق على المستويين القطاعي والمؤسسي.
3. الرقابة على نظام ضمان الجودة على المستويين القطاعي والمؤسسي، وتتبع أداء المؤسسات التعليمية والإبلاغ عن المشكلات، وتطوير مؤشرات الأداء من خلال جمع وتحليل البيانات حول نظام التعليم.
4. تقديم المشورة والتوصيات المستندة للأدلة لصانعي السياسات إما بشكل استباقي أو تفاعلي استجابةً لظروف محددة، وإبداء الرأي في مسودات السياسات والتشريعات نيابةً عن الوزارة.
5. التخطيط الاستراتيجي لمؤسسات التعليم وإدارة العلاقات بين أصحاب المصلحة في ضوء الأهداف والقضايا الرئيسية، وضمان عدم ازدواجية الأدوار.
عدم وضوح الفكرة وتأخر التنفيذ
على الرغم من ورود فكرة إنشاء المجلس الوطني للتعليم في استراتيجية مصر للتنمية المستدامة التي أصدرت في 2016 وتم تحديثها في 2018، وطرح فكرة إنشاء مفوضية عليا للتعليم تتمتع بالاستقلالية في أحد المؤتمرات الوطنية في 2017، إلا أن الخطوات الفعلية لتنفيذها لم تبدأ إلا في أكتوبر 2019 حين تسلم رئيس الوزراء مشروع القانون المقدم من المنسق العام للمجلس الاستشاري لكبار علماء وخبراء مصر، ولكن مشروع القانون لم يخرج للنور إلا في نوفمبر 2021، حين تقدم عدد من نواب البرلمان بمشروع قانون “مفوضية التعليم ما قبل الجامعي والتعليم الفني والتدريب المهني”، على أن تتبع تلك المفوضية رئيس الجمهورية، وأن يكون دورها وضع سياسات وخطط الارتقاء بالتعليم قبل الجامعي، والإشراف والمتابعة والتقييم للجهات القائمة على تنفيذ تلك الخطط والسياسات، وأن تقوم بالتنسيق مع الهيئات المختصة بالتعليم العالي.
لا يتسم دور المفوضية المقترح إنشاؤها آنذاك بالشمولية التي تتمتع بها المجالس الوطنية للتعليم المذكورة سلفًا، حيث تضمن مشروع القانون قيام المفوضية بوضع مواصفات خريج التعليم ما قبل الجامعي، ووضع الرؤى والسياسات والخطط الاستراتيجية لدمج ذوي الإعاقة، ووضع المؤشرات القومية للتعليم ما قبل الجامعي، وغير ذلك من الأدوار التي تقتصر على التخطيط فقط دون التطرق إلى متابعة التنفيذ أو التقييم أو الموافقة على القرارات التنفيذية التي يصدرها الوزير ومن شأنها التأثير على مستوى فعالية السياسة التعليمية.
وعلى الرغم من مرور قرابة عام على عرض مشروع القانون أمام مجلس النواب، إلا أنه لم يصدر قرار بشأنه سواء بالموافقة أو الرفض، لتُطرح الفكرة مؤخرا من جديد للمناقشة على طاولة الحوار الوطني، ما يشير إلى أن الفكرة حول إنشاء مجلس وطني أو مفوضية عليا للتعليم ما تزال غير مكتملة المعالم؛ ويمكن التدليل على ذلك بتصريحات نائب وزير التربية والتعليم لشئون التعليم الفني في أغسطس 2022 التي أكدت تشكيل المجلس الوطني للتعليم برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية وزيري التربية والتعليم والتعليم العالي وتمثيل الأزهر في المجلس، على أن يكون التنسيق بين كل الجهات المعنية بالتعليم ضمن مهام المجلس لضمان استدامة الخطط والاستراتيجيات؛ وقد يكون الخلاف حول الهيكل التنظيمي سواء لما يسمى بالمجلس الوطني للتعليم أو المفوضية العليا للتعليم هو أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى تأخر التنفيذ.
تداخل الأدوار مع المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي
بالنظر في قانون التعليم 139 لسنة 1981 وقرار رئيس جمهورية رقم 523 لسنة 1981 بشأن إنشاء المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي ومشروع قانون إنشاء مفوضية التعليم، يمكن القول أن تأخر إصدار قانون إنشاء المفوضية أو المجلس الوطني للتعليم أمر طبيعي في ظل التداخل الواضح مع أدوار المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي، حيث ينص القرار رقم 523 لسنة 1981 على أن “ينشأ مجلس أعلى للتعليم قبل الجامعي برئاسة وزير التربية والتعليم والتعليم الفني يتولى التخطيط لهذا التعليم ورسم خططه وبرامجه، ويضم ممثلين لقطاعات التعليم والجامعات والأزهر والثقافة والتخطيط والمالية والإنتاج والخدمات والقوى العاملة وغيرهم من المهتمين بشئون التعليم ويصدر بتشكيل هذا المجلس وتحديد اختصاصاته قرارا من رئيس الجمهورية بناء على عرض من وزير التربية والتعليم والتعليم الفني”.
ولا يقتصر دور المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي على التخطيط ورسم السياسات فقط، وإنما يمتد ليشمل متابعة وتقييم تنفيذ السياسات العامة لتطوير وتحديث التعليم، والنظر في السياسة والإطار العام للبحوث التربوية والدراسات المتصلة بمختلف الموضوعات التعليمية وتقييمها. علاوةً على ذلك، فإن المجلس يشارك الوزير في صلاحياته من خلال الموافقة على:
– تحديد مدة الدراسة وتوزيع الدروس على الصفوف وإقرار المناهج وكثافات الفصول ونظم التقويم والامتحانات وفرص الرسوب والإعادة ومواعيد امتحانات الشهادات العامة.
– إضافة بعض المواد الدراسية بحسب مقتضيات تطوير التعليم أو وفقًا لاحتياجات البيئة المحلية.
– إنشاء مدارس تجريبية ووضع قواعد القبول ونظم الدراسة بها.
– تحديد الأقسام والشعب بالتعليم الثانوي العام ونظام الامتحان، وتحديد مواصفات المدارس الفنية وتخصصاتها وخطط الدراسة بها.
– وضع القواعد والنظم الخاصة بموازنات المدارس الخاصة.
– وضع المعايير التي تكفل توفير الإمكانات اللازمة للمدارس المجانية.
ورغم شمولية دور المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي، إلا أن مخرجات الاجتماع الأخير الذي انعقد في سبتمبر 2022 تشير إلى تقليص هذا الدور للموافقة على خطة العام الدراسي التي كان وزير التربية والتعليم قد أعلنها بالفعل في وقت سابق على انعقاد المجلس، كما أن انعقاد المجلس وفقًا لما هو معلن لا يتم بالشكل الدوري المنصوص عليه في القرار الجمهوري – 4 مرات على الأقل في العام – الأمر الذي يوضح واقع استفادة الوزارة من وجود المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي وفعاليته في أداء أدواره، شأنه في ذلك شأن بعض الهيئات المعنية بالعملية التعليمية مثل المركز القومي للبحوث التربوية والتنمية الذي أنشئ في الأساس لتزويد المسئولين والمشتغلين بالسياسة التعليمية وخطط التعليم بالمعلومات العملية والتربوية السليمة التي تحقق مساعدة الطلاب عبر مراحل الدراسة المختلفة، والهيئة القومية لضمان الجودة والاعتماد المسئولة عن نشر ثقافة الجودة في المؤسسات التعليمية والمجتمع وتنمية المعايير القومية لإعادة هيكلة المؤسسات التعليمية وتحسين جودة عملياتها ومخرجاتها.
مما سبق وفي ضوء بعض الخبرات الدولية، يمكن القول أن فكرة وجود مجلس وطني للتعليم يتمتع بالاستقلالية ويتحمل مسئولية رسم السياسة التعليمية ومتابعة تنفيذها بما يضمن استدامتها هي فكرة قابلة للتنفيذ، ولكن تنفيذها يتطلب إعادة النظر في أدوار الهيئات والجهات الأخرى المعنية بالعملية التعليمية القائمة بالفعل لتحقيق التكامل بين أدوار تلك الجهات وضمان عدم التداخل أو ازدواجية الأدوار.