تسود الخشونة والاتهامات والتحقير فى الحوار العام بدرجات متسارعة. يحدث هذا فى بلاد حديثة العهد بالحوار والديمقراطية، ويحدث أيضا فى بلاد عريقة فى الديمقراطية ورسوخ قيم التعددية والتسامح واحترام الآخر.
اللغة المستخدمة فى الحوار العام ليست مجرد ممارسات بلاغية وأساليب تعبير غير ذات صلة بجوهر التعايش والديمقراطية، لكنها مرآة تعكس الانقسامات فى المجتمع، وبقدر ما تتعمق الانقسامات الإيديولوجية بقدر ما تزيد صعوبة نشوء الديمقراطية وصعوبة الحفاظ عليها.
فى خطاب عام، تحدث جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكى السابق أوباما أخيرا، فوجه انتقاداته للرئيس ترامب، قائلا له: إن الحزب الجمهورى ليس «حزب أبوك». تحدثت هيلارى كلينتون عن الرئيس ترامب فوصفته بأنه خطر على المؤسسات الديمقراطية.
لم يعد الرئيس ترامب، وفقا لهذه التصريحات، رئيسا تم انتخابه ديمقراطيا وشرعيا، بل أصبح خطرا، والخطر يجب مقاومته والتصدى له. شيء من هذا نجده أيضا فى انجلترا.
تحدث وزير الداخلية البريطانى فى المؤتمر العام الأخير لحزب المحافظين واصفا رئيس حزب العمال المعارض جيرمى كوربن بأنه خطر على الأمن القومى لبريطانيا. التصريح شديد الحدة، فعندما يصل الأمر لتهديد الأمن القومى يصبح مقبولا فعل أى شيء لحماية أمن البلاد.
هذه مجرد عينة صغيرة لتصريحات صدرت خلال الشهر الأخير عن نجوم السياسة فى أعرق الديمقراطيات الغربية؛ لكن كل هذه التعبيرات الخشنة تبدو غاية فى الانضباط والتأدب لو قورنت بما ينشره الناس على منصات التواصل الاجتماعي، وبما ينطق به قادة أحزاب متشددة صاعدة، يمينية ويسارية.
تتيح الديمقراطية آليات لحل الصراعات السياسية سلميا؛ فعندما ينشب الصراع يتطلع الخصوم للانتخابات التالية لحسمها وفقا لقاعدة الأغلبية والأقلية.
تعمل الديمقراطية بكفاءة عندما يقبل الخاسرون نتيجة الانتخابات؛ وعندما لا تتحول المعارضة إلى تربص يستهدف إفشال الحزب الحاكم؛ وعندما لا يرتبط الخلاف السياسى بمشاعر الاحتقار والكراهية. توافر هذه الخصائص لم يعد من المسلمات فى الديمقراطيات الغربية، التى أصبح فيها الكثير من التربص والكراهية والاحتقار وسوء النية والتحايل فى تفسير قواعد النظام الديمقراطي، والعنف أيضا. نجحت الديمقراطية فى حل الكثير من الصراعات سلميا وفى إطار القانون.
إلا أن الديمقراطية لا تمتلك عصا سحرية تحل كل أنواع الصراعات. فكما تنشب الحرب بين الدول عندما تفشل الدبلوماسية فى إيجاد مخرج سلمى للأزمة، فإن الديمقراطية قد تعجز عن حل صراعات السياسة إذا وصل الانقسام الإيديولوجى بين أجنحة النخبة إلى مستوى معين من الحدة. فى الديمقراطيات العريقة تطور النظام الديمقراطى تدريجيا كأسلوب لإدارة الحكم والسلطة قبل أن تظهر الانقسامات الإيديولوجية والأحزاب السياسية.
فى انجلترا كان هناك صراع بين الملك وملاك الأرض الأثرياء بشأن مقدار الضرائب التى يتم تحصيلها، والطريقة التى يتم إنفاقها بها. لم يكن هناك خلاف أيديولوجى بين الملك والنبلاء، ولم يكن هناك طعن فى شرعية الملك والملكية، فقط خلاف على طريقة تمويل مؤسسات الحكم، وكيفية إنفاق هذه الأموال. فى مرحلة لاحقة ظهر حزب يمثل ملاك الأراضى وآخر يمثل الرأسمالية التجارية والصناعية الصاعدة؛ تطور الأول إلى حزب المحافظين، فيما تطور الآخر إلى حزب الأحرار، قبل أن يظهر فى النهاية حزب العمال ممثلا للطبقة العاملة.
تأخر ظهور الانقسامات الأيديولوجية فى انجلترا أتاح للنظام الديمقراطى الفرصة لتثبيت قواعده، فيما كان أصحاب الأيديولوجيات والأحزاب التى جاءت متأخرة معتدلين فى توجهاتهم، فسهلت مهمة استيعابهم وتعايشهم فى إطار ديمقراطي.
شيء مثل هذا حدث فى الولايات المتحدة، فقواعد النظام الديمقراطى هناك وضعته النخبة الموحدة التى انتزعت الاستقلال بعد صراع مسلح خاضته مجتمعة ضد الإمبراطورية البريطانية. ظهر الخلاف فى صفوف النخبة حول ما إذا كان من الأفضل بناء حكومة مركزية قوية، أم وضع القدر الأكبر من السلطة فى يد حكومات الولايات على المستوى المحلي.
هذا بالتأكيد خلاف سياسى مهم، لكنه أقل من أن يكون خلافا أيديولوجيا يعكس نظرات متعارضة للعالم والمجتمع والطبيعة البشرية، الأمر الذى أتاح للديمقراطية الأمريكية الفرصة لتثبيت قواعدها.
تعثرت الديمقراطية فى البلاد التى ظهرت فيها والانقسامات الأيديولوجية مبكرا. لم تعرف الديمقراطية طريقها إلى ألمانيا إلا بعد الهزيمة فى الحرب العالمية الأولى.
فى عام 1919 فى مدينة فايمار تأسس أول نظام ديمقراطى لعموم ألمانيا، وهو النظام الذى ولد فى ظل انقسام إيديولوجى عميق بين اليسار والقوميين النازيين، وانتهى عام 1933 عندما انفرد النازيون بالحكم، وقادوا البلاد والعالم إلى كارثة الحرب العالمية الثانية. مسار مشابه حدث فى إسبانيا.
ولدت الجمهورية الديمقراطية هناك فى عام 1931 وسط انقسامات عميقة بين المحافظين أنصار الملكية من ناحية، والشيوعيين والفوضويين من ناحية أخرى.
اختلف الفرقاء على كل شيء: النظام الملكى والكنيسة والدين والملكية الخاصة والحريات الفردية. لم تحتمل الديمقراطية الإسبانية الوليدة كل هذه الخلافات، فانفجرت الحرب الأهلية عام 1936، ووقعت إسبانيا تحت حكم ديكتاتورى استمر قائما حتى منتصف السبعينيات. الانقسام الإيديولوجى فى الغرب يزداد عمقا. تيارات يسار ويمين الوسط التى هيمنت على الحياة السياسة فى الغرب منذ الحرب العالمية الثانية تفقد أرضا واسعة لصالح تيارات متطرفة فى اليمين واليسار.
فى انتخابات إقليم بافاريا الألمانى قبل أيام خسر حزبا يمين ويسار الوسط أكثر من 20% من مؤيديهم لصالح أحزاب يمينية ويسارية متشددة. ما حدث فى بافاريا قبل أيام حدث قبل ذلك فى الانتخابات العامة الألمانية، وفى إيطاليا والنمسا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
الاستقطاب الأيديولوجى يتعمق فى الديمقراطيات الغربية، ومعه تزداد صدامات الشوارع بين متظاهرين من اليمين واليسار، ويزداد خطاب الكراهية والرفض المتبادل بين أنصار الفرق الأيديولوجية المتناحرة.مستقبل الديمقراطية متوقف على تخفيف حدة الانقسامات الإيديولوجية، وظهور تيارات وسطية جديدة تسحب البساط من المتطرفين فى اليمين واليسار.