لن يخلو الحديث والنقاش الدائر حول الحرب الروسية الأوكرانية ومعطياتها من تحيز لطرف والدفاع المستميت عن موقفه، وتبرير تحركات هذا الطرف والبحث عن دوافع منطقية وعقلانية له، هو تحيز ينم في العديد من الأحيان عن موقف عاطفي مصبوغ بصيغة من العقلانية الظاهرية، وقد عم هذا الانحياز نقاشات العامة، وامتد ليطال المتخصصين والنخب والباحثين في المجال، فقلما تجد موقف تحليلي لمسار الحرب الروسية الأوكرانية لا يدافع عن طرف من الأطراف ويهاجم الآخر، إلا إن اللافت للانتباه في المجال العام العربي هو شيوع حالة من الدفاع الضمني والصريح أحيانا عن الموقف الروسي، واتخاذ اتجاه إدانة للموقف الأوكراني والأوروبي، والأهم الهجوم على الولايات المتحدة، التي أضحى الموقف منها محددا هاما للموقف من أوكرانيا في النقاشات العامة.
فعلى سبيل المثال في استطلاع أصداء بي سي دبليو السنوي لرأي الشباب العربي 2022″ والذي تضمن 17 بلداً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأُجري في الفترة بين 13 مايو و16 يونيو من عام 2022، وتضمن 3,400 مقابلة شخصية مع شباب عرب من قبل محاورين متمرسين، أظهرت نتائج الاستطلاع أن:
- ما يقرب من ثلث الشباب العرب قد حملوا الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو المسؤولية الأكبر عن الحرب في أوكرانيا من روسيا.
- 18 في المائة فقط قاموا بإلقاء باللوم على روسيا وقال 15 في المائة إن أوكرانيا كانت على خطأ، وقال جزء كبير (37 في المائة) إنهم لا يعرفون.
- وكان الشعور أقوى في سوريا ، حيث ألقى 41 في المائة من المشاركين باللوم على الولايات المتحدة وحلف الناتو.
هذا الانحياز الذي أصبح واضحا وتداولته العديد من التقارير الإخبارية الغربية، يثير تساؤلات هامة وعلامات تعجب كثيرة، خاصة وأن وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية لها الإمكانية الأكبر للوصول لعموم الجماهير في الوطن العربي، ويبدو أنها تبذل جهودا مضنية ومحكمة لحشد تعاطف ورأي عام عالمي شعبي يدين التدخل الروسي في أوكرانيا، وعلى الرغم من هذا الجهد الكبير إلا إن المزاج العام العربي لازال يبحث عن تبريرات ويضفي إطارا من المعقولية لتحركات روسيا أو بمعنى أدق تحركات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هي ظاهرة تحطم العديد من المسلمات الخاصة بآليات حشد وشحن الرأي العام حيال قضية ما، وتطرح تساؤل أهم لماذا تتعاطف شريحة واسعة مع بوتين؟ على الرغم مما تبثه وسائل الإعلام من أوضاع إنسانية متدهورة ودمار ومآسي تقع على الأراضي الأوكرانية.
أسباب التعاطف
١. الكاريزما الشخصية: تثير الكاريزما الشخصية التي يتمتع بها الرئيس الروسي إعجاب العامة بشكل عام، خاصة وأن ما يطلقه من تصريحات وما يقوم به من تحركات تجعل البعض يصوره في صورة البطل الذي يتحدى الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب بشكل عام، دون تنميق ودون تسييس، وبلغة أقرب إلى لغة العامة، وهو ما يرسل عددا من الرسائل الضمنية لعموم المتابعين تصوره بوصفه “بطلا” قادرا على هزيمة قوى الغرب، وإخضاع الولايات المتحدة، ساعد بوتين في هذا الوضع افتقاد الرئيس الأمريكي جو بايدن لهذه الكاريزما، وارتباك قادة أوروبا في مواجهة التدخل الروسي، عززه أيضا الصورة الذهنية للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي والتي افتقرت هي أيضا للكاريزمية، نتيجه لإفراط الرئيس الأوكراني في استجداء المساعدة والدعم من الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى، ذلك الظهور، ومحتوى الخطب السياسية التي ألقاها الرئيس الأوكراني لم ترق للكثير من العرب الذين يميلون في الغالب للإعجاب بشخصية القائد السياسي القوي المفرط في التصريحات الهجومية ومحاولات استعراض القوة.
٢. عدو عدوي صديقي: منذ غزو العراق وتتمثل الولايات المتحدة في الذهنية العربية في صورة الدولة العدو، بالإضافة إلى دعمها غير المشروط لإسرائيل، وتاريخها المليء بالتدخلات والتعديات التي ترسخت في ذهن المواطن العربي، وتعززت على مدار سنوات لم تكف فيها الولايات المتحدة عن التدخل في شؤون المنطقة، دعما لمصالحها أو لمصالح إسرائيل، وعلى الرغم من هذه الصورة إلا إن الولايات المتحدة لا يتم التعامل معها على المستوى الرسمي بوصفها دولة عدو، ولم يتم الدخول معها في مواجهات مباشرة تحقق اشباعا نفسيا للرفض والتمرد السائد لدى العامة حيالها، وبالنظر للحرب الروسية الأوكرانية يتبدى بوضوح ما تتضمنه من استعراض للنفوذ والقوة بين الولايات المتحدة وروسيا، وهو ما يدفع نحو التعاطف مع الموقف الروسي في مواجهة الولايات المتحدة، وما يطلقه الروس من تصريحات هجومية وتحركات تتحدى فيها روسية القوة الأمريكية، لتحقق للمواطن العربي نوعا من الرضا والتمني ليس هزيمة أوكرانيا وإنما هزيمة الولايات المتحدة على يد روسيا في أوكرانيا.
٣. ازدواجية المعايير: في الوقت الذي تحظى فيه السردية الأمريكية والأوروبية لما يدور داخل الأراضي الأوكرانية من شيوع وانتشار، ومحاولات التصوير الدقيق للمعاناة التي يعانيها الشعب الأوكراني جراء الاعتداءات الروسية، يبدو بوضوح ما تعانيه الدول الغربية والولايات المتحدة من تحيز حيال معاناة العرب بشكل عام، والذين تعرضوا خلال السنوات الماضية للعديد من الاعتداءات التي تمت برعاية غربية، ولم يحدث أن قامت الولايات المتحدة بمثل هذه الحملة وهذا الدعم حيال معاناة الشعب الفلسطيني، والشعب السوري، وما تكبده ولا زال يتكبده الشعب العراقي جراء التدخلات الأمريكية التي كلفت العديد من الدول العربية استقراراها وتماسكها، ولعل المتابع للتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي سيلحظ بوضوح المقارنة التي يعقها البعض بين ما يحدث في أوكرانيا وما حدث للعراق قبل عشرين عاما، ووقفت الذهنية العربية عند محطات عانت فيها شعوب عربية أضعاف ما يعانيه الشعب الأوكراني بينما لم يرى من الولايات المتحدة والدول الأوروبية مثل هذه الانتفاضة ومثل هذ الزعم والتعاطف فبرزت بوضوح ازدواجية المعايير الأمريكية، وذرعت العديد من الشكوك حول نوايا الولايات المتحدة بشكل عام وادعاءات انحيازها للشعوب وحقها في تقرير مصيرها واحترام حدودها، رفض المعطيات الأمريكية والأوروبية هو الذي ترتب عليه رفض لدى لبعض للدفاع عن الجانب الأوكراني لتأييد الحجة الأمريكية ودعم دوافعها وأهدافها، وهي الحجة التي تبدو بصورة متكررة في التعليقات على الأخبار التي تتضمن تصريحات أو تحركات أمريكية داعمة للشعب الأوكراني اقتصاديا وعسكريا وسياسيا.
٤. تحطيم القطبية الواحدة: لا شك في أن هناك رغبة في عالم متعدد القوى والأقطاب في الذهنية العربية التي عانت من تبعات القطب الواحد، وتمني الحرب بإمكانية إعادة ترتيب أوراق القوى في العالم ليتحول إلى عالم متعدد الأقطاب لا يعاني من تبعات الهيمنة الأمريكية التي دفع تكلفتها المواطن العربي في المقام الأول، وسواء صدق هذا التوقع أو هذا التمني لدى العامة أم لم يصدق، فإنه ساهم بصورة رئيسية في تمني آخر يتضمن انتصار روسيا في حربها على الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وما قد يترتب من هذه الحرب من تآكل النفوذ والهيمنة الغربية على العالم بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص.
٥. الآلة الدعائية الروسية: لاشك في أن روسيا تعد واحدة من أكثر الدول تقدما في مجال الحروب النفسية، وبرز هذا التقدم بوضوح في التغطية الإعلامية التي قامت روسيا برعايتها والتي ساهمت بلاشك في خلق حالة من الإرتباك لدى البعض وحالة من التضامن مع الجانب الروسي لدى البعض الآخر، فعلى الرغم من التضييق الشديد الذي فرض علي الصفحات الموالية لروسيا على وسائل التواصل الاجتماعي إلا إن عدد الصفحات التي يتم بثها بعدد كبير من اللغات ومنها اللغة العربية يعاد انشائها باستمرار، وفي المنطقة العربية يبدو نشاط منصتي روسيا اليوم وسبوتنيك في طرح سردية روسية لما يدور تستند بصورة رئيسية إلى التأكيد على ما اتسمت به السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية من ازدواجية في المعايير، فلم تخلو خطب وتصريحات المسؤولين الروس وعلى رأسهم الرئيس الروسي فلاديمير بتوين من مقارنات بين موقف الولايات المتحدة وأوروبا من الحرب في أوكرانيا وموقفها مما شهدته عدد من الدول العربية من دمار تم برعاية أمريكية من وجهة نظرهم، وبالتالي حتى وإن كانت السردية الروسية تتسم بالمغالطة في الكثير من الأحيان إلا إنها تستند لوقائع وحقائق تتسق وتتواءم مع المزاج العربي، من جانب آخر يأتي تصاعد نشاط المنصات الإعلامية الروسية في الوقت الذي تتراجع فيه ثقة المواطن العربي فيما تقدمه المنصات الغربية، والتي تأتي كما سبق القول نتيجة للخبرات السابقة التي مر بها المواطن العربي مع هذه المنصات.
خلاصة القول، إن الانحياز للطرف الروسي في ذهنية شريحة واسعة من مواطني الدول العربية له ما يبرره استنادا للعوامل السابق ذكرها، واستنادا أيضا إلى حالة الاستقطاب التي يشهدها العالم حيال العديد من القضايا الهامة والمحورية، إلا إن هذا الانحياز أبرز بوضوح حدود تأثير وسائل الإعلام الغربية، والتي لم توفق في حشد الدعم الشعبي الكافي للموقف الأوكراني، وهو ما لا يعود بصورة رئيسية إلى قوة الأداة الإعلامية والحشد الروسي فقط وإنما إلى أسباب تتعلق باتساق السردية الروسية مع الصورة الذهنية التي تشكلت للولايات المتحدة والقوى الدولية الغربية خلال السنوات الماضية.