أما وأن الجماعات الإرهابية تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة المواجهة الحاسمة التي تخوضها القوات المسلحة والشرطة المصرية، فإن الانتقال إلى ساحة المواجهة الفكرية لتجفيف البيئة التي تفرز الإرهابيين، وإعطائها الأولوية قد بات ضرورة ليس فقط لخطورة إبقاء تلك الساحة على ما هي عليه، ولكن لأن ذلك يبدو طبيعيا في ظل المرحلة الحالية التي تنتقل معها مصر إلى مرحلة عنوانها الرئيسي بناء الإنسان. وهي مرحلة تدخلها مصر بعد النجاحات التي تحققت في مجال البنية التحتية وتثبيت الدولة وتهيئتها للانطلاق. وبكل تأكيد أن عملية بناء الإنسان المرجوة تتضمن الكثير من المحاور وتحتمل إضافة محاور أخرى وقد يثور بشأن تحديدها بعض الاختلافات خاصة فيما يتعلق بالأولوية ودرجة الاهتمام، ولكن المؤكد أنه لا خلاف على أن عملية بناء الإنسان لا يمكن أن تتم بالشكل الأمثل بينما المتطرفون يسعون لنشر وتصدير ثقافة قادرة على إفراز التطرف والتمكين لها بشتى الوسائل ليس فقط في الجانب الديني ولكن في كثير من المجالات. التمكين لتلك الأفكار وانتشارها كفيل بشل حركة الدولة نحو التقدم ونحو المستقبل بصفة عامة. المتطرفون يديرون حربا لا هوادة فيها، ولم يتركوا مناسبة أو وسيلة تساعدهم في نشر أفكارهم والتمكين لها إلا واستخدموها. من بين الوسائل التي استخدموها بل وباتت المفضلة لديهم هي الانترنت.
ومما لا شك فيه، فإن مواجهة التطرف ليست عملية سهلة، بل إنها في غاية التعقيد ولم تكن يوما معقدة بالقدر الذي يحدث الأن في ظل ما تتيحه الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي من إمكانيات لنشر الأفكار المتطرفة واستقطاب العناصر التي لديها القابلية لاعتناقها خاصة من الشباب الذي تتزايد درجة اعتماده كل يوم على تلك الوسائل ولم يعد ممكنا حجبها أو منعه من استخدامه. استخدام العناصر والجماعات المتطرفة للفضاء الإليكتروني لتجنيد العناصر المتطرفة للقيام بأعمال إرهابية أصبح ظاهرة فرضت نفسها على كل الدول، وباتت أحد أهم المهددات الفعلية للدولة الوطنية في المنطقة. فقد استفادت تلك الجماعات من الفضاء الالكتروني باعتباره يشكل جمهورا واسعا للرسالة الإعلامية، وفرصا أكبر للاتصال الدائم بين العديد من ملايين الأفراد حول العالم. وقد أدى تصاعد دور الإعلام الالكتروني في المجتمع وسرعة انتشاره ورخص تكلفته وصعوبة مراقبته الى اتساع دائرة الاعتماد عليه من قبل قوى وتيارات عديدة من اجل بث رسائل مختلفة ونشر أفكار معينة. وكانت التيارات الدينية حاضرة بمختلف توجهاتها إلى الدرجة التي بات معها الخطاب الديني مشاعا في الفضاء الإليكتروني، فتعددت مصادر الفتوى الدينية وخرج ذلك الخطاب من رشد سيطرة المؤسسات الدينية. التيارات المتطرفة عملت بدأب لاستهداف الشباب وتسويق فكرة التطرف لديهم، من خلال العزف على كل ما من شأنه تغذية التطرف والكراهية وتكفير الآخر ومن سهولة استباحة دمه. فالتطرف مصدرا رئيسيا لتفريخ الإرهاب والعنف، وكل إرهابي هو بالضرورة متطرف بشكل أو بآخر. بعض الإحصائيات تشير إلى أن النسبة الغالبة من العناصر التي تم تجنيدها (حوالي 60%) تم عن طريق الفضاء الإليكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي.
وإلى جانب ضرورة مواجهة التطرف والإرهاب في كل الساحات التي ينتشر بها أو يتخذ منها ملجأ، فإن تلك المواجهة يجب أن تكون عملية شاملة تشارك فيها كل الجهات المعنية سواء كانت دينية أو ثقافية أو تعليمية أو أمنية. ومع ذلك فإن الحديث عن مواجهة التطرف يفترض بالضرورة أن تحتل المؤسسات الدينية والثقافية المقدمة باعتبارها “رأس الحربة” في تلك المواجهة، فتطرف الفكر الديني تعبير عن أزمة فكرية بالأساس، ومما لا شك فيه أن الجماعات المتطرفة تستغل حالة الانغلاق الثقافي من أجل الترويج لنفسها. وقد وجدت المؤسسة الدينية الرسمية ليس في مصر وحدها بل في كل الدول العربية والإسلامية نفسها أمام مواجهة جديدة ليس فيما يتعلق بالفكر المتطرف في حد ذاته، فتلك المواجهة لم تتوقف عبر التاريخ، ولكنها جديدة بسبب الوسيلة التي بات المتطرفون يستخدمونها باحتراف. وقد استجابت المؤسسات الدينية لتحدي الانترنت واستغلالها من قبل المتطرفين فتواجدت على شبكة الانترنت بمواقع أو منصات إليكترونية للتواصل مع الأجيال الجديدة ومخاطبتهم عبر الوسيلة المفضلة لهم، كما أنشأت منصات خاصة لمتابعة المتطرفين وما يبثونه من أفكار متطرفة على صفحاتهم وحساباتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وفي هذا السياق قام الأزهر الشريف بإطلاق موقع باسم المرصد الإليكتروني لتتبع نشاط العناصر المتطرفة، كما قامت دار الإفتاء المصرية بإطلاق موقع يعنى برصد الفتاوى التفكيرية والرد عليها حماية لجمهور ذلك الفضاء الإليكتروني من الانسياق وراء تلك الفتاوى الشاذة، كما أسست السعودية مركز “اعتدال”، وقامت دولة الإمارات بإطلاق موقع “صواب” وكذلك فعلت الكويت والأردن، بل إن دولة مثل إندونيسيا أسست ما أطلقت عليه وكالة الأمن الإليكتروني.
ولكن المشكلة التي ما زالت تواجه المؤسسات الدينية الرسمية عامة في ذلك الإطار تتمثل في أولا عدم جاذبية مواقع تلك المؤسسة على الانترنت مقارنة بنجاح التيارات المتطرفة في استقطاب عدد من الشباب المدرب والذي لديه خبرة في العمل على شبكات التواصل الاجتماعي وصياغة رسائله بطريقة مثيرة قادرة على جذب الشباب. وثانيا في أن الخطاب الوسطي الذي تتبناه المؤسسة الدينية والفتاوى التي تطلقها وتفنيدها للفتاوى التكفيرية لا يصل إلى الجمهور المستهدف على النحو المطلوب، ذلك أن الجمهور خاصة المؤهل أو المستعد أو الراغب للانضمام للتيارات المتطرفة لا يأبه بالمؤسسة الرسمية ولا يسعى في الغالب لسماع ما تقوله. وهو الأمر الذي يضع على عاتق المؤسسة الدينية في كل الدول الإسلامية وفي مقدمتها مصر بأزهرها الشريف ضرورة التفكير في كيفية الوصول إلى الجمهور المستهدف بدلا من الاكتفاء بتأسيس المواقع والمراصد والاجتهاد غير المسبوق في متابعة فتاوى وآراء المتطرفين والرد عليها. مفتاح النجاح في المواجهة هو الإيمان بأننا إزاء جهاد حقيقي لا يقل أهمية عن محاربة الإرهابيي،ن يستهدف تحقيق نتيجة وليس بذل عناية وتقديم ما يجب أو ما يتيسر وفقط. فالمهم أن تصل الرسالة لمن يعنينا ألا يكونوا في الغد قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في وجوهنا جميعا.