عقدت القمة العربية في دولة الجزائر خلال يومي الحادي والثاني من نوفمبر 2022، وهي الدورة الواحدة والثلاثين لمجلس جامعة الدول العربية-، تحت شعار “لم الشمل” تزامناً -مع ذكري الثورة الجزائرية عام 1954- بهدف خلق مساحات من التفاهم بين القادة العرب، والتوافق حول أولويات العمل العربي المشترك، وفي محاولة لوضع أطر ومحددات الأمن القومي العربي الفترة القادمة، خاصة في ظل حالة الاستقطاب الدولي وما ظهر من بوادر إعادة تشكيل موازين القوى، وما يحمله هذا الوضع من مخاطر على الأمن القومي. ضمن هذا الإطار تناقش هذه الورقة مفهوم الأمن العربي وإشكالياته، ومحدداته في ضوء مخرجات القمة العربية.
مفهوم الأمن القومي العربي وإشكالياته
قدمت الأمانة العامة في القمة العربية لبغداد في 1990 ورقة بعنوان “الأمن القومي العربي عرض للتهديدات والتحديات” في محاولة لصياغة مفهوم الأمن القومي العربي، بما يعنى “استخدام مقومات وعناصر القوة الشاملة للمجتمع، (عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو علمية أو تكنولوجية) لحماية المصالح الأساسية للدولة ومواجهة الأخطار والتهديدات التي تتعرض أو يمكن أن تتعرض لها، كما يعني أيضًا إيجاد الحياة الكريمة والمؤسسات المستقرة التي تكفل ارتباط المواطنين بالدولة، وتمكن الحكومة من تعبئة المواطنين وتوظيف طاقاتهم في مختلف الحالات ، وذلك في مواجهة الأخطار الخارجية والداخلية القائمة والمحتملة”.
لكن مع بروز متغيرات جديدة على مدار السنوات الماضية، شهدنا تحولاً في المنظور العربي للأمن باختلاف مصالح الدول وأولوياتها، إذ واجهت الدول العربية إشكالية في تبنى مفهوم موحد للأمن، حيث أن كل دولة لها اعتبارات مختلفة للأمن، فأحياناً ما تنادى بعض الدول بأهمية الشرق أوسطية عندما لا يكون ميزان القوى في غير صالحها داخل المنظومة العربية، فتبدأ في الدفع بروابط المذهب والدين كما البعض مع إيران وتركيا.
أو تدفع بروابط التجارة والأمن والمال والتقارب مع قوى دولية أو إقليمية غير عربية مثل علاقات التطبيع مع إسرائيل أو بروابط الجوار المشترك كما مع إثيوبيا، وهو ما أطلقت عليه الأدبيات العربية صراع ما بين القومية العربية والجيواستراجية الشرق أوسطية.
مهد هذا الاختلاف إلى بروز تحديات جسيمة أمام هذه الدول خاصة أن الأمن له أبعاد عديدة، بالإضافة إلى تفاقم الأزمات الدولية سواء جائحة كورونا أو الأزمة الأوكرانية أو التغير المناخي. فلم يعد الأمن يقتصر على البعد التقليدي والعسكري، وإنما يرتكز على أبعاد أخرى غير تقليدية مثل الأمن البيئي والأمن المائي وأمن الطاقة والأمن الغذائي، وأمن المناخ كذلك.
فرض سياق الحرب الأوكرانية والجائحة تحديات أمام الدول العربية، مما أدى إلى ضرورة إعادة النظر العربي في تأمين الاحتياجات الغذائية، حيث تصدر أوكرانيا 95% من حبوبها عبر البحر الأسود، وبلغت تقديرات صادراتها من القمح لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2020 أكثر من 50%، إذ أبرزت القيود الأخيرة على الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود مخاوف الدول العربية بشأن ضرورة توفير الحبوب، ومحاولة التوافق حول البدائل، لأن نقص إمدادات الحبوب إلى المنطقة وارتفاع أسعارها سيؤدي إلى ضغط على الاقتصادات العربية المتضررة جراء تداعيات جائحة كورونا، إضافة إلى ارتفاع أسعار القمح بحوالي 45% تقريبًا خلال 2021.
يضاف إلى ما سبق؛ اختلاف الدول العربية حول مفهوم الإرهاب وهو ما يضع البعض في موقف حرج خاصة في التفاعلات السياسية والأمنية بالمنطقة؛ إذ أن بعض الدول تستخدم المرتزقة والتنظيمات الإرهابية لخدمة أهدافها ومصالحها بما يهدد أمن الآخرين واستقرارهم، والبعض الآخر يتدخل في الشؤون الداخلية للدول من خلال تأجيج الفصائل التي تحمل أفكار متطرفة في بعض المجتمعات، وبما يجعلها تطالب بالانخراط في السلطة والحكم. لكن دائما ما تتبنى الدولة المصرية بدورها القيادي مقاربة شاملة للأمن سبق وتم طرحها في قمة الرياض في 2017، من خلال المواجهة الفكرية وتجديد الخطاب الديني وتجفيف منابع تمويل الإرهاب، والتصدي الأمني والقانوني من خلال سن التشريعات الخاصة بمكافحة الإرهاب بكافة أشكاله.
محددات الأمن القومي العربي
وفقاً لما تمخض عن القمة العربية بالجزائر من مخرجات، يمكن استخلاص بعض محددات الأمن العربي والتي تشمل تعزيز العمل العربي المشترك في كافة المجالات، ورفض التدخلات الأجنبية والتسوية السياسية للأزمات العربية وإحياء دور الجامعة العربية، وصياغة موقف عربي موحد في الأزمات الدولية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
•القضية الفلسطينية: تعد أولى محددات الأمن وكقضية مركزية للعرب يتم تقديم الدعم المطلق لحقوق الفلسطينيين في قيام دولة على حدود الرابع من يونيو 1967 عاصمتها القدس الشرقية، إضافة إلى حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948. كذلك محدد آخر بالنسبة لحل القضية يتمثل في التمسك بمبادرة السلام العربية لعام 2002 والتي تضمنت “الأرض مقابل السلام”، والالتزام بالسلام العادل والشامل لإنهاء العدوان الإسرائيلي على كافة الأراضي بما يشمل الجولان السوري ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا اللبنانية.
بالإضافة إلى دعم دولة فلسطين كونها عضواً في الأمم المتحدة والاعتراف الدولي بها من قبل الدول التي لم تقم بذلك، والنص على توحيد الصف الفلسطيني، والترحيب بإعلان الجزائر المنبثق عن مؤتمر لم الشمل الذي تم عقده في الجزائر في 11-13 أكتوبر2022 من أجل تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، والسير في خطوات الاستقرار السياسي من خلال إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون عام ليسفر عن مجلس تشريعي يعمل بمثابة برلمان فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية.
•تعزيز الأمن العربي: من خلال العمل المشترك بما يساعد في حل وإنهاء الأزمات العربية، وبما يحفظ وحدة الدول الأعضاء وسلامة أراضيها، وبما يلبى تطلعات الشعوب العربية، والعمل على بلورة مفهوم جديد للأمن يرفض التدخلات الخارجية بجميع أشكالها في الشؤون الداخلية للدول العربية، وحل القضايا والأزمات العربية من خلال النهوض بدور الجامعة العربية. وتفعيل دورها في الوقاية من النزاعات وحلها وتكريس البعد الشعبي وتعزيز مكانة الشباب والابتكار في العمل العربي المشترك، بإطلاق حركية تفاعلية بين المؤسسات العربية الرسمية والمجتمع المدني من خلال خلق فضاءات لتبادل الأفكار والنقاش المثمر والحوار البناء.
بالإضافة إلى العمل على تجسيد مشروع التكامل الاقتصادي العربي، وفق رؤية شاملة تكفل الاستغلال الأمثل لمقومات الاقتصادات العربية وللفرص الثمينة التي تتيحها، بهدف التفعيل الكامل لمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى تمهيداً لإقامة الاتحاد الجمركي العربي. إضافة إلى تعزيز التعاون العربي- العربي من خلال التنسيق المشترك وهذا لمسناه في اللقاءات العربية المصغرة التي عقدت بين مصر والأردن والعراق منذ مارس 2019 والتطلعات لمشروع الربط الكهربائي، وأخرى في العقبة تجمع الدول الثلاث مع حضور الإمارات في مارس 2022، ثم لقاء آخر جمع قادة مصر والأردن والبحرين في يونيو 2022 بمدينة شرم الشيخ وما تمخض عن ذلك من إطلاق مبادرة “الشراكة الصناعية التكاملية لتنمية اقتصادية مستدامة” في مايو 2022 بهدف تعزيز دور القطاع الصناعي وتعميق الشراكة الصناعية الشاملة بين الدول الأربعة ضمن مجموعة من القطاعات الحيوية ذات الاهتمام المشترك والمتمثلة في قطاعات الزراعة، والأغذية، والأسمدة، والأدوية، والمنسوجات، والمعادن، والبتروكيماويات.
• الأمن غير التقليدي: محاولة مواجهة الأبعاد غير العسكرية مثل الأمن الغذائي والبيئي والمائي وأمن الطاقة؛ إذ حددت القمة موقف الدول العربية من السياسات الأخيرة التي انتهجها تحالف أوبك بلس لضمان استقرار الأسواق العالمية للطاقة واستدامة الاستثمارات في هذا القطاع بما يضمن مصالح الدول المنتجة والمستهلكة معاً، إذ تمثل أزمة الطاقة فرصة للدول العربية التي تسعى إلى لعب دور حيوي في سوق الطاقة العالمي من خلال زيادة استخدام صادرات الطاقة في ظل حاجة الدول الأوروبية.
يضاف لذلك مواجهة الدول العربية لأزمات التغيرات المناخية من خلال استضافة الدولة المصرية للدورة السابعة والعشرين لمؤتمر المناخ، ثم استضافة الإمارات في العام التالي للدورة الثامنة والعشرين، فضلا عن إطلاق مبادرة الشرق الأوسط الأخضر من قبل السعودية.
وفيما يتعلق بالأمن الغذائي؛ تم طرح استراتيجية عربية للأمن الغذائي استجابة لظروف الحرب الأوكرانية، من خلال اتباع سياسات تعزز الأمن الغذائي وتحمى الاقتصادات العربية والبحث عن مصادر بديلة وزيادة الاستثمارات العربية في البحث العلمي الزراعي خاصة بعد أزمة الحبوب التي نشهدها بسبب الحرب؛ فالتضخم العالمي المرتفع وارتفاع تكلفة الشحن والقيود المُحتملة على الصادرات ، بالإضافة إلى التغيرات المناخية التي بات لها تأثير كبير على الإنتاج الزراعي بسبب انتشار الجفاف، وقلة الأمطار، وتزايد التصحر تجعل الأمر معقداً.
•الأمن بمفهومه التقليدي: تبنت الدول العربية ضرورة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط وفقا للمرجعيات المتفق عليها، ودعوة جميع الأطراف المعنية إلى الانضمام وتنفيذ معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية التي تظل حجر الأساس للنظام الدولي لمنع انتشار هذه الأسلحة. بالإضافة إلى النص على توحيد الجهود لمكافحة الإرهاب والتطرف بجميع أشكاله وتجفيف منابع تمويله فهو لا يزال خطرًا تعاني منه الدول العربية، ويفرض نفسه على متغيرات معادلة الأمن والسلم العربي في ظل ما تقوم به التنظيمات الإرهابية من إعادة الإنتاج بأشكال جديدة. لذلك دائما ما تحدثت الدولة المصرية في كل المنابر الدولية على ضرورة تبنى مقاربة شاملة لمواجهة الإرهاب بحيث تشمل مقاربة متعددة الأبعاد سياسيا وقانونيا واجتماعيا ودينيا، والنص على ضرورة التعاون الإقليمي في هذا الصدد من خلال عدم السماح باستخدام أراضي بعض الدول كملاذ لدعم أعمال إرهابية ضد دول أخرى.
يضاف إلى ذلك محدد آخر من خلال العمل على الحد من الإسلاموفوبيا، وترقية قيم التسامح واحترام الآخر والحوار بين الأديان والثقافات، والترحيب في هذا السياق بالزيارة التاريخية لقداسة بابا الفاتيكان إلى مملكة البحرين، ومشاركة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف في “ملتقى البحرين.. حوار الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني”.
• الحفاظ على وحدة وسيادة الدول العربية: تأتى القضية في ليبيا ضمن محددات الأمن العربي بدعم الجهود لإنهاء الأزمة من خلال حل ليبي- ليبي يضمن وحدة وسيادة الدولة، عبر تنظيم الانتخابات لتحقيق الاستقرار السياسي. أما بالنسبة لليمن؛ تتمثل الرؤية العربية في دعم الحكومة الشرعية اليمينة، ومباركة تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، ودعم الجهود للتوصل إلى حل سياسي ورفض التدخل الخارجي في شؤونه، كذلك بالنسبة لسوريا من خلال التسوية السياسية للأزمة ومعالجة تبعاتها بما يحقق وحدة الدولة وسيادتها، ويعيد الاستقرار والسلام لها. إضافة إلى مساندة الاستقرار الحكومي في العراق، وتنشيط الحياة الدستورية وتحقيق التنمية الاقتصادية بها، أما بالنسبة للبنان دعم استقرارها وأمنها وخطواتها في بسط سيادتها على أقاليمها البرية والبحرية، وفي انتخاب رئيس جديد، ومن ثم تشكيل حكومة للقيام بالإصلاحات الحقيقية.
وفيما يخص الصومال؛ تجديد الدعم لها من أجل توطيد دعائم الأمن والاستقرار عبر مساهمة الدول العربية في تعزيز القدرات الوطنية الصومالية في مجال مكافحة الإرهاب ودعمها في مواجهة أزماتها الداخلية جراء أزمة الجفاف الحادة. بالإضافة إلى تسوية الخلافات العربية-العربية من خلال دعم الجهود المتواصلة لتحقيق حل سياسي بين جيبوتي وإريتريا فيما يتعلق بالخلاف الحدودي وموضوع الأسرى الجيبوتيين.
• الأزمات الدولية: يتمثل موقف الدول العربية في اعتماد مبادئ عدم الانحياز ويقوم الموقف العربي المشترك تجاه الحرب في أوكرانيا على نبذ استعمال القوة، والسعي لتفعيل خيار السلام عبر الانخراط الفعلي لمجموعة الاتصال الوزارية العربية (التي تضم الجزائر، مصر، الأردن، الإمارات العربية المتحدة، العراق والسودان والأمين العام لجامعة الدول العربية) في الجهود الدولية الرامية لبلورة حل سياسي للأزمة يتوافق مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ويراعي الشواغل الأمنية للأطراف المعنية، مع رفض تسييس المنظمات الدولية. والتنويه في هذا السياق بالمساعي التي قامت بها الدول العربية الأخرى مثل المملكة العربية السعودية.
ختاما؛ تظل القمة العربية إحدى آليات العمل العربي المشترك التي توفر فرصة لتلاقى أولويات هذه الدول بما يحقق أمنها بمختلف أبعاده و يضع محدداته، ولعل الحديث عن استراتيجية للأمن الغذائي العربي استجابة للمتغيرات التي فرضتها الأزمات الدولية، ومشروع الربط الكهربائي بين الأردن ومصر والعراق مؤشرات جديدة تعكس العمل على بلورة مفهوم حديث للأمن العربي، كذلك المبادرة الصناعية العربية، إضافة إلى الحضور العربي كفاعل مؤثر وهام وهو ما ظهرت بوادره في تنظيم الدول العربية للمؤتمرات الدولية كإحدى منصات التفاعل في العلاقات الدولية حيث استضافة مصر الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول تغير المناخ، ثم استضافة الإمارات للدورة الثامنة والعشرين في العام القادم ، بالإضافة إلى استضافة قطر لمونديال 2022، والمغرب للمنتدى العالمي التاسع لتحالف الأمم المتحدة للحضارات، فضلا عن تأييد ترشيح السعودية لاستضافة معرض إكسبو 2030.