يدخل العالم مرحلة جديدة من التغيرات المتسارعة، فمع بروز الموجة الرابعة من الثورة الصناعية تحولت المفاهيم وتبدلت المعطيات التي تنبأت بعصر جديد من التحولات الجذرية والمتلاحقة ويأتي في مقدمتها ما يُعرف بــــ” الذكاء الاصطناعي” ذلك المفهوم الذي يعمل على محاكاة الذكاء البشري من خلال القدرة على التعلم والاستنتاج واتخاذ القرار والقيام بردود أفعال مختلفة وذلك من خلال إنشاء برامج حاسوبية قادرة على التفكير بالطريقة التي يعمل بها العقل البشري.
اتجاهات متباينة
أثار الذكاء الاصطناعي جدلا واسعا حول التأثيرات المحتملة التي يمكن أن تنجم عن تطبيقه، خاصة تلك التي تتعلق بفرص العمل الأمر الذي يمكن إيضاحه وفقا لاتجاهين مختلفين:
الاتجاه الداعم، يفترض هذا الاتجاه أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي سيساهم في تيسير حياة البشر خاصة في التعامل مع الحالات المُعقدة والحرجة التي تتطلب تفكيرا إبداعيا، كما أنه سيعمل على القضاء على البيروقراطية والحيلولة دون تفاقم بعض المشكلات، بالإضافة إلى اكتشاف طرق علاجية للأمراض المستعصية، وتجنيب البشر التعامل مع الوظائف والمهام الخطرة، ناهيك عن توفير خدمات عالية الجودة وتخفيض تكلفة العمالة، كما أنه سيُعزز من قدرة الحكومات على تأمين سلامة المواطنين ومكافحة الجرائم بكافة أنوعها.
الاتجاه المُناهض، يرى أنصار هذا الاتجاه أن الدخول في عصر الذكاء الاصطناعي يُعني مزيد من البطالة كما يؤدي إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية للطبقات المتوسطة، بالإضافة إلى ما قد ينجم عنه من تهديدات ومخاطر تتعلق بارتفاع معدلات الجرائم الالكترونية والهجمات الإرهابية خاصة إذا ما تحكم الذكاء الاصطناعي في أسلحة الدمار الشامل.
فرص العمل في ظل انتشار الذكاء الاصطناعي
يشير تقرير صادر عن معهد ماكينزي العالمي إلى أنه بحلول عام 2030 يمكن للتقنيات الذكية والروبوتات إحلال محل ما يقرب من 30% من العمالة البشرية حول العالم، وهو ما يعني أن اللجوء إلى التشغيل الآلي سيُقلص من دور العمالة البشرية الأمر الذي قد يتسبب في الاستغناء عن خدمات ما يقرب من 400: 800 مليون عامل.
وحول الوظائف التي قد تتأثر بشكل مباشر جراء الدخول في عصر ما بعد سيطرة الذكاء الاصطناعي يمكننا الإشارة إلى أن الوظائف المتوسطة وكذا المكتبية بالإضافة الى الوظائف التقليدية التي تحتاج إلى مهارات يدوية وجهد بشري ستتأثر تأثرا كبيرا بفعل هذه التحولات التكنولوجية ومن بين هذه الوظائف تلك التي تتعلق بعمل خدمة العملاء، مراكز الاتصال، الوظائف الفندقية، وظائف دعم وتشغيل خطوط الإنتاج، الأنشطة المتعلقة بتدقيق وجمع المعلومات والبيانات وتخزينها وإدارة المستندات.
ورغم تراجع دور العامل البشري في هذه الاعمال إلا أن ذلك لا يعني استبدال الآلة محل العنصر البشري في كافة الأحوال، فهناك عدد من الأعمال التي يقل احتمالية تأثرها ومن بينها تلك التي تتعلق بإدارة وتطوير الموارد البشرية، وكذلك الوظائف المرتبطة بالبرمجيات والهندسة والعلوم والإعلانات والمواد الترويجية، ناهيك عن المهارات ذات الطبيعة الإشرافية القائمة على إدارة وتنسيق أنظمة الذكاء الاصطناعي لضمان سلامتها واستخدامها بشكل صحيح.
تحديات التوجه نحو الذكاء الاصطناعي
رغم المكاسب والمنافع التي يمكن أن تنجم عن التطورات التقنية والتكنولوجية وبرامج الذكاء الاصطناعي إلا أن هناك مجموعة من التحديات والتهديدات التي قد تنجم عنه، فعلى الصعيد الاجتماعي تمثل عملية انتشار البطالة المتوقعة وما قد تخلقه من تهميش وارتفاع معدلات الجريمة وانتشار الإحباط والادمان تحديا كبيرا للدول، كما أن تنامي دور الآلة قد ينجم عنه انفصال البشر عن محيطهم الاجتماعي وتوجهم نحو مزيد من العزلة ، على الصعيد الاقتصادي سوف تؤثر هذه الطفرة في حجم ونوعية الوظائف المتاحة الأمر الذي قد يؤدي إلى اتساع الفجوة بين من يعملون ومن لا يعملون مما قد يخلق حالة من عدم الرضا والشعور بغياب العدالة وعدم المساواة، وعلى الصعيد الأمني تمثل تقنية الطائرات بدون طيار والروبوتات المقاتلة تحديا كبيرا في حالة وقوع هذه التقنيات في أيدي الجماعات والتنظيمات المُسلحة الأمر الذي قد يهدد السلم والأمن الدوليين.
رؤية مستقبلية
خلاصة القول يجب التأكيد على ضرورة دعم وتعزيز التوجه نحو الذكاء الاصطناعي من خلال بناء الدور التكاملي بين العنصر البشري ومستجدات العصر وذلك من خلال نظام تعليمي يركز على المهارات المعرفية والتحولات الرقمية والعمل على تعزيز روح الابتكار والإبداع وتنمية المهارات القيادية ودعم ريادة الاعمال، كما يجب الاتفاق على وضع قواعد منضبطة وحاكمة لسلوك أنظمة الذكاء الاصطناعي، والعمل على تشجيع الأفراد على التكيف والتأقلم مع المشهد التكنولوجي الراهن من خلال تعظيم الفرص والمكاسب الناتجة عنه والعمل على تجنب ومقاومة المخاطر المحتملة.