تكشف مسارات التطورات والترتيبات الأمنية والسياسية الجارية علي الساحة السورية خلال الأشهر الأخيرة أن النفوذ الإيراني في سوريا لا يتوقف علي المساعي الإيرانية التي عملت علي التكريس لوجود دائم في إطار مشروعها الإقليمي، أو رغبة النظام السوري في تسديد فواتير الدعم الإيراني لإسناده عسكريا في مواجهة الثورة عليه، وإنما رهن حسابات أطراف أخري أبرزها الحسابات الروسية، حيث تشرف موسكو باعتبارها مركز إدارة الصراع علي ترتيبات المشهد القادم في سوريا، والعلاقات الأمريكية- الإيرانية في ظل إدارة ترامب، إلي جانب حسابات أطراف إقليمية كإسرائيل والتي تعتبر الوجود الإيراني في سوريا يشكل خطراً أمنيا عليها، فضلا عن الأوضاع الداخلية في إيران وتداعياتها علي التمدد الخارجي، ومن ثم فإن مصير التواجد الإيراني في سوريا يظل رهن المخرج النهائي لتلك الترتيبات والتطورات علي الأصعدة الدولية والإقليمية والوطنية.
حسابات التواجد الإيراني في سوريا
يقوم المشروع الإيراني في سوريا علي اعتبارها أحد مرتكزات التمدد الإيراني في الإقليم ضمن ما يعرف بالحزام الشيعي، الذي ينطلق من إيران ويخترق العراق مرورا بسوريا وصولا إلي لبنان، ولتحقيق هذه الاستراتيجية انخرطت إيران تكتيكيا وأمنيا وسياسيا في الصراعات في العراق وسوريا ولبنان، والانتقال من الوجود غير المباشر في تلك الدول إلي الوجود المباشر الذي يتيح لها فرصة انجاز هذا المشروع، وشكلت الدعاية الإيرانية للمشاركة في الحرب علي الإرهاب ومواجهة التنظيمات الإرهابية المتطرفة كداعش والقاعدة في تلك البلدان مدخلا ملائما لهذا الانخراط ومن ثم التواجد الدائم معتمدة علي آليتي الدعم العسكري والاستقطاب المذهبي.
ومن المتصور أن لدي إيران عدة أهداف رئيسية في هذا السياق، ومنها على سبيل المثال:
1-تعزيز وضعها كقوة إقليمية: من خلال استعراض قواتها العسكرية، وأنها تمثل قوة يجب أن تؤخذ في الاعتبار إقليميا ودولياً في مواجهة القوي المناوئة لها كإسرائيل وبعض دول الخليج، وهو ما يتم عبر استكمال مسار النفوذ في العراق وسوريا ولبنان، واليمن، بل وإمكانية تقديم نفسها كبديل للقوي التقليدية الإقليمية التي كانت وثيقة الصلة بالغرب كتركيا في ضوء تحولات العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة، وباعتبارها الطرف الذي يكافح الإرهاب في المنطقة المتمثل في “القاعدة” و”داعش” في العراق وسوريا، واستغلت تكتيكياً نتائج الاتفاق النووي الإيراني في الانفتاح علي الغرب بهذه الطريقة.
وبحسب الدكتور كيهان برزكر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة آزاد الإيرانية فإن إيران استطاعت أن تقوم بثلاثة انجازات تتعلق بمصلحة أمنها القومي على المستوي الدبلوماسي: الأول أن تجعل من موضوع الإرهاب الإقليمي وعلاقته بالأزمتين السورية والعراقية مواجهة إقليمية ودولية وهو ما أعطي إيران مشروعية في سياساتها الإقليمية بشكل مستقل. والثاني زيادة التعاون مع معظم دول المنطقة، حيث أوجدت إجماعا سياسياً بين اللاعبين السياسيين حول خطر تنظيم داعش والحاجة إلى تعاون إقليمي لمواجهتها بدأ بالفعل في التباحث بين إيران والسعودية وتركيا. والثالث، التدخل العسكري الدولي لمواجهة مشكلة داعش وعودة دخول إيران إلى العراق لمساعدة الحكومة وهو ما يصب في مصلحة الأمن القومي الإيراني.
2-تغيير قواعد الاشتباك الإقليمي: من خلال رسم خريطة موازين قوي جديدة في المنطقة تستند إلي القدرات والإمكانيات الإيرانية التي يتم استعراضها علي مسرح العمليات في الإقليم، فإلي جانب قدراتها علي نقل قواتها إلي تلك الساحات فإنها قامت بنقل أضعاف ذلك مليشيات من خارج إيران، لتغير قواعد الاشتباك في اتجاهين، الاتجاه الأول وهو الخليجي، حيث اهتمت إيران قبل الوصول إلي سوريا بتعزيز هيمنتها علي العراق من خلال تكثيف انتشارها العسكري وإحكام الاصطفاف المذهبي والاستقطاب السياسي، وخلق بؤر تهديد جديدة جنوباً تمتد إلي اليمن والعمق الآسيوي العربي في القرن الإفريقي، والاتجاه الثاني هو تغير قواعد الاشتباك من خلال الانتقال إلي ساحة جوار تشكل تكتيكيا إما ساحة لامتصاص الضربات الإسرائيلية التي كانت توجه من قبل إلي الداخل الإيراني ومن ثم استكشاف تلك القدرات أو ساحة لاستنزاف إسرائيل في مواجهة تعيد تشكيل خارطة المنطقة.
وفي حين كانت إسرائيل تعمل علي استهداف التحركات الإيرانية ومليشيا حزب الله في العمق السوري بشكل غير مباشر، فثمة إحصاء أورده تقرير لمعهد واشنطن يشير إلي أن إسرائيل شنت 120 ضربة في العمق السوري ضد تحركات لحزب الله وإيران لنقل السلاح داخل سوريا، لكن بدأ الالتفات إسرائيليا إلي متغيرات ميدانية، حيث قامت إيران بإطلاق صواريخ بالستية علي مدينة دير الزور انطلاقًا من محافظتي كرمنشاه وكردستان في يوليو 2017، لتشهد الساحة تحولا استراتيجيا في الصعيد العسكري الإسرائيلي – الإيراني الذي جري في 9 مايو 2018 ، حيث قامت إيران بقصف إسرائيل بنحو 20 صاروخاً وفق ما أعلنه الجيش الإسرائيلي آنذاك.
3-المصالح الاقتصادية (جني أرباح الانخراط في الصراع): والتي تتشكل في إطار ثلاث حزم، على النحو التالي:
أ- الحزمة الأولي (الاستثمار في الصراع): وتتعلق بالاستثمار الإيراني في الصراع ذاته، حيث تحولت دمشق لسوق تصريفية للمنتجات الإيرانية لتصبح الشريك التجاري الأول لسوريا خلال سنوات اندلاع الثورة بعد أن كانت في المرتبة 61 في الأعوام السابقة عليها، كما حصلت إيران على استثمارات سيادية وسريعة الربح مثل رخصة الخط الثالث للمحمول، إضافة إلى استثمارات استراتيجية في مناجم الفوسفات بخنيفيس، وعقود النفط. ومستقبلا تتضمن هذه الحزمة المشاركة في مشروعات الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، وقد ساهمت الشركات الإيرانية بشكل كبير في المعارض المقامة في دمشق لأغراض إعادة الإعمار ووقعت عقوداً مهمة في هذا المسار، إذ بلغت القيمة المالية للعقود الموقعة بين شركة “مبنا غروب” الإيرانية في 2016 مع وزارة الكهرباء السورية حوالي تريليون ليرة سورية. كما دعمت طهران النظام السوري مالياً عبر فتح خطوط ائتمانية بلغ إجمالي ما قدمته أكثر من 5.6 مليار دولار لدعم العجز المالي في الموازنة المالية لسورية وتجنب توقف المؤسسات عن العمل.
ب-الحزمة الثانية (الاستثمار في الطاقة): انطلاقاً من الأهمية الإستراتيجية لسوريا كممر للطاقة وشريان الغاز إلي الأسواق الأوروبية، فقد عززت إيران إمدادات الغاز للدول المحيطة بها كالعراق وسوريا عبر الاستمرار بما بدأت به في يوليو 2010 من مفاوضات أولية مع كلا البلدين لمناقشة مشروع مد “الأنبوب الإسلامي”، وفي يوليو 2011 تم عقد اتفاقية لمد الأنبوب وتم التوصل إلي اتفاق نهائي بين الدول الثلاثة في مارس 2013 بحيث يمتد من إيران ليعبر العراق وسورية ويصل إلي البحر المتوسط بتكلفة تصل إلي 10 مليارات دولار، وسيضخ الأنبوب نحو 110 مليون متر مكعب من الغاز يومياً تحصل سوريا والعراق علي احتياجاتهما من الغاز الإيراني البالغة نحو 30.25 مليون متر مكعب يومياً فيما سيحصل لبنان علي احتياجاته من الغاز والبالغة 7.5 ملايين متر مكعب يومياً كما سيتم تزويد الأردن بالغاز الإيراني أيضاً عبر خط الغاز العربي، وتخطط إيران مستقبلا لشحن الغاز إلي أوروبا عبر ميناء في اللاذقية وقعت مذكرة تفاهم بشأنه مع النظام مطلع 2017، كما ضمنت إيران أيضاً حصتها من سوق الطاقة السوري عبر مذكرات التفاهم الموقعة مع النظام للاستثمار في الغاز والنفط في مناطق عدة بسوريا. فبموجب مذكرة تفاهم تم توقيعها في بداية العام 2017 أثناء زيارة لوفد الحكومة السورية إلى طهران، سيتم بموجبها إنشاء مصفاة نفط كبري قرب مدينة حمص تبلغ طاقتها التكريرية 140 ألف برميل نفط يومياً وستقوم إيران بموجب الاتفاق بإعادة بناء وتجهيز مصفاتي حمص وبانياس بعد تضررهما بسبب الحرب، علمًا أن إنتاج كلا المصفاتين يكفي حاجات سورية الاستهلاكية.
جـ-الحزمة الإقليمية: والتي تتمثل في استغلال طريق طهران – بيروت البري لوجستيا في لعب دور محوري في زيادة صادراتها من السلع غير النفطية إلى العراق وسوريا ولبنان والأردن والمنطقة العربية عموماً ويقدم لمنتجاتها ميزة تنافسية عن المنتجات الأخرى بفضل خفض كلف النقل وسهولة الطريق.
د- تمكين المشروع العقائدي “الحزام الشيعي”: المعروف بتصدير الثورة الإيرانية، حيث يشكل الانخراط الإيراني في الصراعات الإقليمية عموما فرزا مذهبيا، وشكلت تلك الصراعات فرصة مناسبة لها لتنشيط واستنفار المشروعات الإقليمية المذهبية مثل المشروع الحوثي في اليمن، وزيادة حضور المشروعات الأخرى كمليشيا حزب الله اللبناني، وذلك في إطار الهيمنة الإقليمية في ظل مشروع تصدير الثورة والتأكيد على تقاسمها زعامة العالم الإسلامي كزعيمة للعالم الشيعي في المنطقة وكقوة إسلامية منافسة للسعودية وتركيا. وقد عززت إيران هذا المشروع من خلال نشر المليشيات الشيعية في سوريا والتي حملت العديد من أسماء الرموز الدينية الشيعية، كقوة عسكرية تعمل تحت مظلة فيلق القدس الإيراني بقيادة الجنرال قاسم سليماني.
ومن اللافت للانتباه في هذا السياق قوة الحضور الشيعي العراقي تحت الإدارة الإيرانية، فقد ساهم حزب الله العراقي الذي أسسه أبومهدي المهندس مع عصائب أهل الحق العراقية في تأسيس لواء أبو الفضل العباس، الذي يتخذ من السيدة زينب مقراً له. حيث تكونت قاعدة هذا المكون من الشيعة العراقيين الموجودين في سوريا قبل الحرب، خصوصاً أن البلاد ضمت أكثر من مليون لاجئ عراقي تمركزوا في مدن السيدة زينب وجرمانا والتل بريف دمشق.
الوجود العسكري الإيراني في سوريا
يمكن تصور الوجود العسكري الإيراني في سوريا في ثلاث أطر، أولها؛ الانتشار العسكري الإيراني الذي يتكون من خليط من قوات عسكرية إيرانية وخريطة القوي المليشياتية الشيعية الرديفة لها، وثانيها البنية التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا والتي سعت إلي التأسيس لها، وثالثها نقل قدرات فوق تقليديه إلي سوريا، وفي حين تتطور خريطة الانتشار الأمني بتطور الأوضاع الأمنية مرحليا، فإن البنية التحتية الإيرانية تعرضت خلال الأشهر الأخيرة إلي متغيرات شاملة حيث شهدت عملية تدمير متوالية في إطار التصعيد العسكري الإسرائيلي – الإيراني.
أ-الانتشار العسكري الإيراني في سوريا: تتفاوت تقديرات الإيراني في سوريا وفقا للتقارير الحديثة بين 20 – 70 ألف، فحسب تقديرات البنتاجون (مايو 2018) فإن إيران نقلت نحو 70 ألف عنصر إلي داخل سوريا، منذ 2015، تم توزيعهم علي 10 مجموعات تابعة بشكل مباشر لطهران، ويتبع من 7 آلاف إلي 10 آلاف من هؤلاء العناصر لميليشيا “حزب الله” اللبناني، ونحو 5 آلاف لفيلق القدس والباسيج (قوات التعبئة)، فيما ينتمي الباقون إلي ميليشيا “لواء الفاطميون” الأفغاني وميليشيا “حركة حزب الله النجباء” العراقية إضافة إلي مرتزقة إيرانيين وعراقيين. لكن تقديرا تفصيلا حمل عنوان “أبعاد الوجود الإيراني في سوريا” أعده الموساد الإسرائيلي نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية مقتطفات منه في أغسطس 2017، يكشف عن أن العدد أقل من ذلك، وحسب تقييمات الموساد، تم تقل 21 ألف راكب و5 آلاف طن من مواد التموين على متن الرحلات من طهران وعبدان إلى دمشق. من اللافت أن الطائرات تقلع ليلا لكي تتجنب رصدها من قبل الأقمار الاصطناعية.
وتناول التقرير وجود وحدات من قوات النخبة الإيرانية “الباسيج” في سوريا تضم نحو 1500 فرد، إضافة إلى ميليشيات منفردة وقوات منظمة أخري مدعومة من قبل إيران. وذكر التقرير أن الفصائل الفلسطينية، التي تدخل في قوام الدفاع الوطني، تتعاون أيضا مع فيلق القدس. كما يوجد في سوريا قرابة 18 ألف مقاتل في صفوف مختلف الميليشيات المتحالفة مع إيران، بمن فيهم عناصر حزب الله والعسكريون الإيرانيون. لكن التقرير رجح أن هذا العدد زاد خلال الأشهر السابقة على إعداده، نظرا لتكثيف عمليات النقل الجوي. وساهمت هذه القوة الإيرانية في لعب العديد من الأدوار في الصراع بخلاف دورها الأساسي في العمليات القتالية في مواجهة معارضي نظام الأسد، تمتد إلى ما يتعلق بالانتشار الأمني وفقا للتنسيق العسكري مع روسيا، وكقوة تنفيذية للمهام التكتيكية الميدانية مثل عمليات التغير الديمغرافي وتأمين المصالح والمراكز الإيرانية في سوريا.
ب- البنية التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا: رسخت إيران وجودها العسكري عبر انتشار معقد في سوريا، كما سعت أيضا إلى تعزيز ذلك بتأسيس بنية تحتية عسكرية قوية وواسعة تعكس رغبتها في الوجود الدائم في سوريا، ففي نوفمبر 2017 نشرت تقارير عديدة صورًا فضائية التقطت، على ثلاث مراحل زمنية مختلفة أظهرت عملية إنشاء قاعدة إيرانية في منطقة الكسوة جنوبي سوريا، وتتباين التقديرات العسكرية حول حجم الوجود العسكري الإيراني في سوريا بين 5 قواعد وفقًا لتقديرات دولية و13 قاعدة طبقًا لتقارير إسرائيلية غير رسمية. ورغم هذا التفاوت في التقديرات والذي فرضه اختلاف حسابات الانتشار في نقاط مختلفة بين قواعد مركزية ومواقع انتشار مؤقتة وفقًا لطبيعة العمليات العسكرية والجيوسياسية مرحليًا، إلا أنه يلاحظ أن القاسم المشترك في أغلب تلك التقديرات يشير إلى وجود تمركزات عسكرية على الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة، التي تشمل القاعدة المركزية والجبهة الجنوبية والجبهة الشرقية والجبهة الشمالية. فضلاً عن ذلك، أشارت تقارير روسية إلى أن إيران تسعي إلى تأسيس قاعدة بحرية تابعة لها في اللاذقية بالقرب من مطار حميميم، الذي يعتبر المركز الرئيسي للقوات الجوية الروسية.
فيما تضمن تقرير الموساد المشار إليه أن إيران شيدت بنية تحتية لصناعات عسكرية تابعة لها في سوريا ولبنان، بما في ذلك مصانع لإنتاج صواريخ بعيدة المدى، إضافة إلى إنشاء ورش للتجميع وتفريغ الشحنات العسكرية القادمة من إيران. كما سرعت عملية بناء مجمعات عسكرية إيرانية على الساحل شمال غربي سوريا. وركز التقرير على الجهود الإيرانية المكثفة للسيطرة على معبر ” التنف” على الحدود السورية العراقية بغية الربط بين القواعد الإيرانية والقواعد التابعة للقوات العراقية المتحالفة مع إيران، والاعتماد عليها لبسط السيطرة علي الحدود السورية العراقية في منطقة دير الزور.
جـ-نقل قدرات غير تقليدية: على غرار القدرات الصاروخية إلى خارج حدودها، وفقا لما تضمنه تقرير البنتاجون المشار إليه. فقد قامت بنقل طائرات من دون طيار من طراز “شاهد 129” إلى مطار السين العسكري علي الطريق الدولي دمشق- بغداد في عمق البادية السورية داخل منطقة متاخمة لمعبر “الوليد” في التنف على الحدود السورية– العراقية، والتي توجد على مسافة قريبة من القاعدة الأمريكية في “التنف”. وقد أسقطت قوات التحالف الدولي ضد “داعش” إحدى تلك الطائرات في 20 يونيو 2017. وبالإضافة إلى ذلك، بدأت إيران، حسب اتجاهات عديدة، في نقل قدرات غير تقليدية إلي داخل سوريا، حيث تتجه إلى بناء مصانع صواريخ ومنشأة عسكرية بالقرب من طرطوس التي تشهد بناء ميناء إيراني آخر، ربما يتم استخدامه في إنتاج صواريخ باليستية بإشراف إيراني.
في السياق ذاته أشار تقرير آخر إلى أن فيلق القدس يستخدم الهلال الأحمر الإيراني في نقل شحنات مساعدات عسكرية جوا وبحرا، وأن طهران تمكنت خلال السنوات الماضية من نقل كميات كبيرة من الأجهزة العسكرية المطورة بحرا تحت غطاء توريدات تجارية، كما يتم إرسال تلك المواد أحيانا عبر شركات مرتبطة بالمؤسسة الوطنية الإيرانية للنقل البحري “IRISL”، كما أطلقت إيران خط نقل جوي إلي داخل الأراضي السورية انطلاقا من مطارات طهران ومن القواعد الإيرانية المحاذية للحدود العراقية. ويتم تسيير تلك الرحلات كمدنية تحت غطاء شركتي “Iran Air” و”Mahan Air” ، إضافة إلي استخدام طائرات نقل عسكري تابعة لشركة “Qasem Fares Air” وطائرات نقل روسية الصنع من طراز “إيل” تابعة للخطوط الجوية السورية.
تحولات الميزان العسكري الإيراني في سوريا
حتى مايو 2018 كانت إيران تري أن قدراتها العسكرية من شانها أن تؤمن لها وجوداً عسكريا وقدرات نوعية لحماية مشروعها في سوريا، وحتى ذلك الوقت كانت إيران تتصور أن الميزان العسكري يميل لصالحها في سوريا، لكن لاحقا تغير هذا الوضع في إطار جملة من المتغيرات منها على سبيل المثال، الموقف الإسرائيلي من الوجود العسكري الإيراني وإلى أي مدي اعتبرته إسرائيل يشكل تهديدا على أمنها القومي.
وتتقاطع هذه المتغيرات في إطار المقاربة الخاصة بالتوازنات العسكرية (الدفاعية والهجومية) الإسرائيلية – الإيرانية في الساحة السورية، خاصة في ظل تحرك إيران باتجاه تغير قواعد الاشتباك مع إسرائيل في ضوء متغيرات العلاقات الإيرانية -الأمريكية وموقف واشنطن القاضي بالانسحاب من الاتفاق النووي والعود لسياسات العقوبات الأمريكية ضد إيران.
أ-متغير التصعيد العسكري الإسرائيلي- الإيراني: من المتصور أن إسرائيل وضعت خطة إستراتيجية للمواجهة مع إيران في سوريا، اعتمدت أوليا على رصد وتقييم الوجود العسكري الإيراني في سوريا، وهو ما استغرق فترة مراقبة لمدة عام 2017، بحسب ما كشف عنه المحلل في شئون الاستخبارات في يديعوت أحرونت رونين سالومون – أغسطس 2017- حيث أبلغ مدير الموساد يوسي كوهين الحكومة الإسرائيلية بأن النفوذ الإيراني في سوريا بشكل خاص وفي المنطقة بشكل عام ينمو يوما بعد يوم. وأشار إلى الكشف عن منشآت عسكرية إيرانية لتصنيع الأسلحة في نوفمبر من العام ذاته. وتلي ذلك اتجاه إسرائيل إلى التصعيد دبلوماسيا ضد الملف النووي الإيراني، بعد أن كشفت إسرائيل عن أنها حصلت على أسرار بشأن تجاوز طهران للاتفاق النووي سرا وامتلاكها الدليل علي ذلك، بالتوازي مع تبادل القصف الصاروخي عشية التاسع من مايو 2018، هو الأول من نوعه والأعنف في تاريخ المواجهات الهجومية على الجانبين والتي شهدت جولات متقطعة بين شهري سبتمبر وفبراير 2017، توازت مع تحرك دبلوماسية لتريب أمن الحدود فيما عرف بمباحثات سوتشي.
ب-تراجع القدرات الإيرانية: شكلت تداعيات القصف الإسرائيلي لمواقع إيرانية في سوريا عملية شلل كامل للقدرات الإيرانية في سوريا، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي أنه رد على القصف الإيراني عشية 9 مايو 2018 بقصف هجومي بـ 50 صاروخاً استهدفت خمس قواعد إيرانية تشمل 8 أهداف عن مراكز أنظمة ومواقع استخبارات ومقرات قيادة عسكرية لوجستية وموقع استطلاع تابعة لفيلق القدس منها مجمع عسكري ومجمع لوجيستي في الكسوة ومعسكر شمال دمشق ومخازن أسلحة قرب مطار دمشق الدولي وتدمير المنصة التي أطلقت منها الصواريخ باتجاه إسرائيل. وتظل الضربة الإسرائيلية في سياق الضربات الاستباقية، رغم التحول النوعي في إطار قواعد الاشتباك بين إسرائيل وإيران الجارين اللدودين حالياً، فوفقا لإستراتيجية إسرائيل المعلنة من المستويين السياسي والعسكري، فقد تم التوافق على أن توجيه ضربة لإيران في سوريا حاليا أفضل من الانتظار حتي تتفاقم في مؤشر علي أن المواجهة بينهما كانت حتمية، وهو ما ورد علي لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في آخر اجتماع حكومي له قبل الهجمات، حيث قال: “إننا مصممون علي صد العدوان الإيراني ضدنا وهو في مهده حتي لو كان هذا ينطوي علي صراع وعاجلا أفضل من آجلا” مبررا ذلك بأن إيران تحشد للمعركة: “الحرس الثوري الإيراني ينقل إلي سوريا علي مدار الأشهر القليلة الأخيرة أسلحة متقدمة من أجل ضربنا في الجبهتين الأمامية والداخلية علي حد سواء”.
وبحسب محصلة نتائج تلك الضربات يمكن تصور أن إسرائيل تبالغ في نتائج الضربة إلي حد ما، حيث أعلن وزير الدفاع افيجدور ليبرمان أن الضربة قضت علي كل الوجود العسكري الإيراني في سوريا، في حين أن تقديرات الجيش التي أعلنت عقب الضربة تتحدث عن ” أن القدرات الإيرانية عادت إلى الوراء لشهور”، وهو ما يؤكد بيان الضربات والتي شملت تقريبا من خلال بعض التقارير علي الجانبين “مركز عسكري رئيسي للاستطلاع وعمليات التشويش السلكية واللاسلكية، ومرصد لوحدة أسلحة دقيقة ومهبط طائرات هيل ومقر اللواء 810 واللواء 38 علي طريق درعا” جنوباً ومقر قطاع كتائب عسكرية في حرمون ومطار المزة والشعير ومخزن في الكسوة ومواقع متفرقة أخري في السويداء والبعث والتل الكبير”، وبتحليل هذه المنظومة يتضح أن الهدف الإسرائيلي هو عرقلة إدارة عمليات إيرانية سورية في مواجهة إسرائيل تستهدف البنية الصاروخية المتمثلة في الصواريخ التي شحنتها كل من إيران وحزب الله وعدم تحويل الجولان إلي منطقة ملتهبة ومنصة قصف صاروخي علي النحو الذي كان يشكله الجنوب اللبناني في السابق ومحاولة إعادة إنتاجه بالأدوات ذاتها، وهو ما يفسر القصف الكثيف علي منطقة خان أرنبة ضمن الضربات.
جـ-إعادة هيكلة الانتشار الإيراني في سوريا: أسفرت جولة المباحثات الروسية – الإسرائيلية منتصف مايو 2018 عن التوصل إلى صيغة التفاهم بشأن ترتيبات الانتشار في الجولان والجنوب السوري، انتهت إلى الاتفاق على أن يكون الانتشار العسكري من الجانب السوري قصرا وحصرا علي الجيش السوري. وجري التفاهم بين الطرفين على إبعاد التنظيمات الموالية لإيران إلى ما وراء محور دمشق – السويداء مقابل عودة قوات الجيش إلي ثلاث نقاط هي تل الحارة في ريف درعا، وهي أعلي هضبة ذات بعد عسكري، وفي مرحلة لاحقة بعد انتشار قوات الجيش ومن بينها الفرقة الرابعة في الحرس الجمهوري في الجولان يمكن إحياء اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لعام 1974 الذي يتضمن منطقة محايدة ومنطقة منزوعة السلاح وأخرى محدودة السلاح تحت مراقبة قوات أممية قوامها 1200 عنصر لفك الاشتباك. وأشارت العديد من التقارير الصحيفة الإسرائيلية في هذا الصدد إلى تراجع القوات الموالية لإيران إلي خلف خط التماس والمواجهة مع الجانب الإسرائيلي وإن لم يصل ذلك إلى حدود الاتفاق التي تقضي بمساحة 20 كلم لقوات الجيش السوري، حيث تحركت عناصر الحرس الثوري من درعا المدينة إلي أزرع لكنها بقيت على جبهات القتال الشمالية، بالإضافة إلى انتقال لواء القدس الفلسطيني من مخيم اليرموك إلى درعا. وعلى المنوال ذاته بالنسبة لحزب الله الذي تحركت عناصره من مواقعها في معسكر البعث وهضبة تل أيوب بحدود 4 – 5 كيلومترات إلى بلدتي حمريت ونبع الفوار.
وتشير هذه التحركات من جهة أخري إلي أن إيران هي الأخرى لا تريد أن توصم بالهزيمة في مواجهة إسرائيل، وأنها في الأخير لم تتمكن من الرد علي الضربات الإسرائيلية التي استنزفت قدراتها العسكرية في سوريا، وتحويل المسار نحو الوجود الأمريكي في الجنوب، وعدم الصدام مع الجانب الروسي، وهو ما ظهر بوضوح في خطاب أمين مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني الذي أشار إلي دعم طهران بقوة للجهود الروسية لإخراج الإرهابيين من المناطق السورية المتاخمة للأردن، كما اعتبر ذلك خطوة إيجابية تصب في صالح استعادة الحكومة السورية المزيد من المناطق التي كانت تحت سيطرة الإرهابيين علي حد قوله. وفي مقابل احتواء إيران للسياسية الروسية فإن ترتيبات موسكو لا تحمل “استحقاق مغادرة” للقوات الإيرانية من الساحة السورية وإنما “الانتقال من الحدود الجنوبية إلى العمق السوري” على النحو الذي أورده بيان حميميم.
الموقف الروسي من الوجود العسكري الإيراني
تحول الموقف الرسمي الروسي إزاء الوجود العسكري لإيران في سوريا من الإصرار علي مغادرة قواتها والمليشيات الموالية لها ضمن انسحاب شامل لكافة القوات الأجنبية في سوريا إلي الاعتراف بدورها في مكافحة الإرهاب علي الأراضي السورية، ويفسر التناقض بين الموقفين المقاربة الإسرائيلية المتعلقة بترتيبات أمن الحدود والتي كانت محور الأحداث خلال شهري مايو ويونيو والتي شهدت تصعيدا عسكريا إسرائيليا- إيرانيا في الميدان السوري من جهة ومباحثات روسية- إسرائيلية من جهة أخرى، ومن المتصور من مراجعة الحسابات الروسية أنها تتجه لترتيب موازين القوي في سوريا بتحديد مقادير نفوذ القوي والسيطرة وطبيعة تواجد القوي الإقليمية وحدود أدوارها وشكل انتشارها علي الساحة السورية.
ففي مقابلة مع نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي بوجدانوف مع القناة العاشرة الإسرائيلية صرح بأن الوجود الإيراني في سوريا لمكافحة الإرهاب يصب في مصلحة إسرائيل، وذلك على عكس الموقف الروسي المعلن لدي زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلي سوتشي، حيث أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه على جميع القوات الأجنبية أن تغادر سوريا، وهو ما فسره المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشئون التسوية السورية آنذاك ألكسندر لافريننييف، بأن التصريح حول سحب القوات الأجنبية من سوريا يخص جميع الجهات باستثناء روسيا. ويطرح هذا الموقف الروسي علامات استفهام حول هذا التحول، فما الذي تغير لكي تعيد روسيا وجهة نظرها تجاه الوجود الإيراني؟
من المرجح أن روسيا في اتفاقها مع إسرائيل بشأن ترتيبات أمن الحدود السورية مع إسرائيل أصرت على أن تكون الطرف القائد في عملية إدارة الأزمة السورية بمساراتها المتعددة السياسية والأمنية، اعتبار أنه بإمكانها تجاوز أي ملاحظات أو انتقادات من جانب أي طرف حتى ولو كان حلفائها كإيران. وأيضا لا يتصور أن روسيا بصدد إنهاء الوجود الإيراني، لكنها على الأرجح مع تخفيض مستوي حضورها العسكري إلي درجة كبيرة، بحيث تمثل عسكريا بما يتوازي مع مصالحها في سوريا، وهو ما يرجح معه أن إيران استوعبت هذا المضمون من خلال الإشارة إلى أنها فازت بنصف تعاقدات إعادة الإعمار في سوريا وفق ما ورد على لسان حسن شيخ الإسلام مستشار وزير الخارجية الإيراني.
وتتسق هذه الرؤية مع تقديرات أمنية إسرائيلية تري أن روسيا توازن في علاقاتها في إدارة الصراع، وأن إيران تبقي حليفاً لروسيا في المعسكر المعادي للغرب في الساحة العالمية. في الوقت نفسه، ليس لدي روسيا أي مصلحة في الدخول في صراع مع إسرائيل. لكن أحد تقديرات معهد الأمن القومي الإسرائيلي اعتبر هذا الدور الروسي بمثابة مناورة، وطرح تساؤلا مفاده: متي ستنجح روسيا في المناورة بين إيران وإسرائيل والسيطرة على الأحداث في بطريقة تجعلهم يبتعدون عن السيطرة؟ وأجاب بأنه طالما استمرت الحرب الأهلية والحرب بالوكالة في سوريا، فسوف تتمتع روسيا على ما يبدو بمستوي عالٍ من الحرية والمرونة في مناورتها بين الجانبين.
في النهاية، من المتصور أن مسارات الوجود الإيراني في سوريا ليست محكومة بقدراتها العسكرية، بما يعني أنها لن تجني ثمار هذا التواجد مستقبلا علي النحو الذي توقعته، إذ أن الأمر يعود إلي محددات أخري من بينها التوازنات الإقليمية والأدوار الدولية خاصة مع بدء مسار التسوية، ويعني ذلك بالتبعية أن إيران لن تخرج من سوريا، لكن وفق ترتيبات متفق عليها مع روسيا التي تقود تحالف محور النظام، في ظل التوافق على أن العلاقات الإيرانية – الروسية لا تتوقف علي ملف الوجود الإيراني في سوريا وإنما تتسع ليشمل مصالح أكثر أهمية من ذلك، وهي مصالح تظل قائمة علي المدي الطويل، أما فيما يتعلق بالشق الإسرائيلي، فإن روسيا تثبت أنها لديها القدرة علي ضبط إيقاع إيران في الساحة السورية، كما تضمن لها التدخل لاستهدفها حال الخروج عن هذا المسار.
المصادر:
1- “مفهوم جديد للدبلوماسية في إيران ” مختارات إيرانية، 170، نوفمبر –ديسمبر 2014
2- – التموضع الاقتصادي الإيراني في سورية، مركز عمران للدراسات مايو 2018.
3- صراع نفوذ: تداعيات تصاعد الوجود العسكري الإيراني في سوريا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 29 نوفمبر, 2017.
4- لمن يوجه بوتين تصريحه حول انسحاب القوات الأجنبية من سوريا؟ موقع روسيا اليوم، 18.05.2018
5- Russia as Restraining Factor in the Iranian-Israeli Confrontation in Syria،INSS Insight No. 1062، May 29، 2018