احتج رهبان “دير السلطان”بمدينة القدس، التابع للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والشمامسة والخدم، بقيادة الأنبا أنطونيوس مطران القدس، في الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠١٨،على منح سلطات الاحتلال الإسرائيلي إذنًا للرهبان الأحباش بترميم الدير بطرق غير قانونية، وعلى اقتحام لجنة هندسية إسرائيلية الدير، وإدخال أدوات الترميم بحجة ترميمه بالرغم من عدم موافقة مطرانية القدس.وقد واجهت شرطة الاحتلال الوقفة السلمية التي نظمها رهبان ديرالسلطان بسبب تحيز السلطات الإسرائيلية للرهبان الأحباش المحتلين للدير، وإخطارهم بالدخول عنوة لعمل ترميمات دون الرجوع لأصحابه الأصليين، وهي الوقفة التي جاءت لرفض الاعتداء على التاريخ، وتشويه الأثر المتمثل في الدير، بإجراءات قمعية.
وقد تم الاعتداء بقوة على رهبان الدير السلميين،كما نال الراهب مكاريوس الأورشليمي نصيب الأسد من الاعتداءات، حيث سحلته الشرطة الإسرائيلية أمام كنيسة الملاك ميخائيل بالدير، مما أسفر عن إصابته بالوجه واليدين، ثم اعتقلته. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل اقتحمت الشرطة الدير مدعومة بوحدات من الجيش الإسرائيلي.
أسباب الأزمة:
أزمة دير السلطان ليست وليدة اليوم، ولكن لها جذور تاريخية، حيث يشير المطران أنطونيوس إلى أن الدير ملك للأقباط الأرثوذكس منذ القرن السابع الميلادي، وأنه تم تأكيد تلك الملكية في القرن الثاني عشر. وأضاف أن هناك 23 وثيقة ملكية تثبت أحقية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في ملكية الدير.
ورغم أحقية الكنيسة في الملكية فقد قامت السلطات الإسرائيلية في 1970، وفقًا لمطران القدس والكرسي الأورشليمي،بكسر أبواب الدير، وتسليم مفاتيحه إلى رهبان الحبشة بسبب الأوضاع السياسية في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي دفع الكنيسة الأرثوذكسية إلى رفع قضية حكم فيهاخمسة قضاة بأحقية الكنيسة في ملكية الدير، ولكنّ القرار لم ينفذ حتى الآن.
ويضيف الأنبا أنطونيوس أنه تم التعاقد مع شركة لترميم كنيسة الملاك التابعة لدير السلطان، والتي تم انتزاع حجر أساسي منها أثناء قيام الكنيسة المارونية بترميم إحدى كنائسها التي تقع أعلى الدير. لكن السلطات الإسرائيلية رفضت دخول الشركة التي تم التعاقد معها، وأبدت الحكومة الإسرائيلية رغبتها في القيام بأعمال الترميم، وهو الأمر الذي ترفضه الكنيسة.
وفي هذا السياق قال الأنبا أنطونيوس:”قمنا بوقفة احتجاجية لرفضنا انفراد الحكومة الإسرائيلية بعملية الترميم دون تدخل الكنيسة”. وأضاف: “إن الاحتجاج سلمي للمطالبة بحقوقنا كمُلّاك للدير، وسيتم اللجوء إلى القضاء، إلى جانب التواصل مع وزارة الخارجية المصرية لمحاولة حل الأمر بطريقة دبلوماسية”، لافتًا إلى أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لن تترك الدير أبدًا لكونه ملكية أصيلة لمصر وللمصريين. وأشار إلى اعتداء القوات الإسرائيلية على الآباء الرهبان من أبناء الدير، وعدم احترامهم الوقفة السلمية وكونهم رجال دين.
وينفي الأنبا أنطونيوس-مطران القدس والشرق الأدنى- صحة قيام السلطة الإسرائيلية بتسليم دير السلطان لبطريركية الأقباط الأرثوذكس، حيث أكد أن قرار المحكمة العليا الإسرائيلية عام 1971 لم يُنفذ حتى وقتنا هذا. ولهذا، طالب نيافته كل الساعين للحق والسلام في العالم، بدعم مطالب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المشروعة في استرداد ديرها المحتل.
“
إن مشكلة دير السلطان قائمة منذ عام 1820، وإنه كانت هناك محاولات للاستيلاء على الدير، وتوجهت الكنيسةالقبطية الأرثوذكسية إلى القضاء الذي حكم بأحقية الدير للكنيسة
“
وعلى إثر ذلك، تحدث البابا تواضروس الثاني في اجتماعه الأسبوعي (الأربعاء 24 أكتوبر ٢٠١٨) قائلًا: “إن مشكلة دير السلطان قائمة منذ عام 1820، وإنه كانت هناك محاولات للاستيلاء على الدير، وتوجهت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى القضاء الذي حكم بأحقية الدير للكنيسة”، لافتًا إلى أن الكنيسة الأرثوذكسية لها تواجد هناك منذ عقود عديدة، وأنه تم احتلال الدير منذ عام 1970،حيث إن السلطات هناك استغلت الوضع السياسي وقتها وقام مجموعة من الرهبان الإثيوبيين بالتواجد في الدير، مشيرًا إلى أن الدير موجود في مدخل كنيسة القيامة بالقدس.وأضاف أنه خلال الخمسين عامًا الماضية، كانت هناك قضايا ومحاضر لإثبات ملكية الدير للكنيسة الأرثوذكسية، وأن كافة القضايا حكمت بملكية الكنيسة الأرثوذكسية لدير السلطان.
معلومات أساسية:
أولًا- وصف الدير:
دير السلطان معقد جغرافيًّا، فهو مبنيّ على ممر، وهو كمبنى يُعتبر مدخل كنيسة القيامة، ومن أجل الدخول إلى مدخل كنيسة القيامة لابد من المرور على كنيسة “الحيوانات الأربعة المقدسة غير المتجسدة”، ومساحتها 42 مترًا، ومن ثم تدخل إلى كنيسة الملاك ميخائيلالتي سقط سقفها، ومساحتها 35 مترًا،أما باقي الدير فقائم على سطح كنيسة الملكة هيلانة. ومساحة الدير الكلية 1800 متر مربع، به المدرسة الأنطونية للاهوت، والتي تعتبر درة الدراسات اللاهوتية الشرقية إلى وقت قريب. ويقع الدير بين دير الأنبا أنطونيوس بالقدس وسور كنيسة القيامة. ويفصل في أحد حدوده بين كنيسة الملكة هيلانة وسور كنيسة القيامة، وبالتالي فهو الدير الملاصق مباشرة للكنيسة المقدسة.
ثانيًا- تاريخ الدير:
بُني الدير في عهد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وقد أهداه السلطان وكنيسة كانت مملوكة للأرمن في مصر للأقباط كتعويض عمّا لاقوه من سوء المعاملة من الدولة الأيوبية، ولِمَا أثبتوه من وطنية وولاء عوضًا عن تخوينهم واضطهادهم على يد الحكام الذين عيّنهم الناصر.
ثالثًا- تاريخ العلاقة بين الكنيستين المصرية والحبشية:
بدأت العلاقة القبطية-الحبشية منذ أن قام الراهب القديس فرمنتيوس “أبا سلامة (بالحبشية) – أبو السلام (بالعربية)” بالتبشير في الحبشة في القرن الثالث. وعلى مدار 1600 سنة كان الأقباط والأحباش أبناء نفس اللاهوت والعقيدة. وكان حضور الطرفين في تراث بعضهم بعضًا قويًّا، حتى إن الفروق أصبحت بسيطة جدًّا في الفن.
ولهذا، فإنه في الوقت الذي تطالب فيه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بحقوقها في الدير، فإن على الكنيستين العملوالصلاة والتفاوض بغير صدام، متحليتين بروح المحبة،فالعلاقات المصرية-الإثيوبية ترتبط بالروح الأرثوذكسية السمحة، وعذوبة النيل، ويجسدها طميه، وتفيض عقيدة المحبة بين البلدين. وإن كانت إثيوبيا منبع نهر النيل، فإن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هي منبع إيمانها.
وتعود العلاقات بين الكنيستين -المصرية والإثيوبية- إلى النصف الأول من القرن الرابع الميلادي، وهو تاريخ دخول المسيحية لإثيوبيا عندما تمكن أحد المصريين ويدعى “فرومينتوس” من نشر الدين المسيحي بين رجال البلاط الأكسومي. وعند عودته إلى مصر طلب من البطريرك القبطي أن يرسمه مطرانًا على إثيوبيا، وأصبح بهذا أول مطران للكنيسة الإثيوبية عينته الكنيسة المصرية.
وبذلك نشأ تقليد بأن يقوم بطريرك الإسكندرية بترسيم مطران الكنيسة الإثيوبية من بين الرهبان المصريين، ويأخذ المطران الجنسية الإثيوبية بمجرد وصوله إلى مقره. وقد ظل هذا التقليد معمولًا به حتى عام 1950، أي لما يزيد على ستة عشر قرنًا. وعلى الرغم من ذلك ظلت العلاقات الدينية مستمرة مع مصر، وإن كانت تمر بمراحل قوة وضعف وفقًا للظروف السياسية التي كانت تجتازها إثيوبيا.
أسس مارمرقص الكنيسة القبطية في مطلع القرن الأول الميلادي (40م)،من الإسكندرية. ومن القرن الأول للرابعذاقت الكنيسة مرارة الاضطهادات المتكررة. فمن الاضطهاد اليوناني للروماني،ومن بدعة أريوس إلى مجمع خلقدونية الذي شهد انقسام الكنيسة في العالم حول طبيعة المسيح ما بين “خلقدونيين”،أنصار الطبيعتين،ولا “خلقدونيين”، أنصار الطبيعة الواحدة للمسيح.
وكانت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والإثيوبية موحدتين في الطبيعة، ومتوحدتين في الرؤية. ولذلك فإن تبني الكنيسة الإثيوبية لكلمة التوحيد، وارتباطه باسمها الرسمي، هو للدلالة على إيمانها بالطبيعة الواحدة للمسيح، أي طبيعة الكلمة المتجسدة على غرار بقية الكنائس اللاخلقدونية التي تتشارك معها بالإيمان، وهي: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية،والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، والكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية، وكنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإريترية، وكنيسة ملنكارا الأرثوذكسية في الهند.
وعاشت وتعايشت الكنيستان بالروح حتى توصلت كل من الكنيستين القبطية والإثيوبية، في 13 يوليو 1948، إلى اتفاق مهّد لانفصال واستقلال الكنيسة الإثيوبية، حيث قام بطريرك الإسكندرية للأقباط في ذلك العام برسامة خمسة أساقفة لهذه الكنيسة وفوضهم بانتخاب بطريرك جديد لهم يكون له السلطان لاحقًا لرسامة أساقفة جدد لكنيسته.
وقد اكتملت فصول تلك الاتفاقية عندما قام بطريرك الأقباط البابا يوساب الثاني بإقامة باسيليوس رئيس أساقفة على الكنيسة الإثيوبية وهو من أصل إثيوبي في تاريخ 14 يناير 1951، وبعد ذلك قام بطريرك الكنيسة القبطية البابا كيرلس السادس في عام 1959 بتتويج باسيليوس كأول بطريرك على كنيسة إثيوبيا الأرثوذكسية. ووفق لائحة 1957 لانتخاب البطريرك القبطي الأرثوذكسي،والتي مازالت سارية حتى الآن، يضم خمسة مطارنة من كنيسة إثيوبيا للمجمع الانتخابي القبطي الأرثوذكسي. وحينما توفي البطريرك الإثيوبي باسيليوس عام 1971 وخلفه في ذلك العام ثيوفيلوس، ومع سقوط الإمبراطور هيلا سيلاسي عام 1974 فصلت الكنيسة في إثيوبيا عن الدولة، وبدأت حكومة إثيوبيا الجديدة الماركسية بقيادة منجستو هيلا مريام بتأميم الأراضي بما في ذلك أراضي الكنيسة.
وفي عام 1976 اعتُقل البطريرك ثيوفيلوس من قبل السلطات العسكرية وتم إعدامه سرًّا في وقت لاحق من ذلك العام، فقامت الحكومة بأمر الكنيسة بانتخاب بطريرك جديد لها، فتم تتويج تيكلا هيمانوت على هذا المنصب.وقد رفضت الكنيسة القبطية انتخاب ذلك البطريرك على اعتبار أن المجمع المقدس للكنيسة الإثيوبية لم يقر بعزل البطريرك السابق ثيوفيلوس، لأنه لم يكن يُعرف بعد للعلن بأنه تم إعدامه من قبل الحكومة، فكان لايزال يُعتبر البطريرك الشرعي لإثيوبيا.
وعلى إثر ذلك انقطعت وسائل الاتصال -على الصعيد الرسمي- بين الكنيستين، ولكن الكنيسة الأرثوذكسية لم تعترف البطريرك الجديد مما أكد العلاقات الروحية بين الكنيستين حتى بدون اتصال. لم يتعامل البطريرك الجديد تيكلا هيمانوت مع الحكومة الإثيوبية بالسلاسة التي كانت تتوقعها منه، لذلك عندما توفي هذا البطريرك عام 1988 تم انتخاب ميركوريوس عضو البرلمان الإثيوبي الموالي للحاكم لهذا المنصب.
وفي عام 1991، ومع سقوط نظام منغستو هيلا مريام الديكتاتوري وقدوم الجبهة الشعبية الديمقراطية الثورية الإثيوبية للحكم، عُزل البطريرك ميركوريوس بضغط من الشعب والحكومة وانتخبت الكنيسة باولس بطريركًا جديدًا لها، وفر البطريرك السابق ميركوريوس خارج البلاد وأعلن من منفاه بأن عزله تم بالإكراه وعلى ذلك فهو لايزال البطريرك الشرعي لإثيوبيا، تبعه إلى ذلك عدة أساقفة وشكلوا خارج إثيوبيا مجمعًا مقدسًا لهم تعترف به عدة كنائس إثيوبية في أمريكا الشمالية وأوروبا. وتعتبر بأن ميركوريوس هو البطريرك الحقيقي، بينما استمر المجمع المقدس الآخر داخل إثيوبيا يقر بشرعية البطريرك باولس.
وبعد أن استقلت إريتريا عن إثيوبيا عام 1991 أعلنت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية انفصال كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإريترّية، فأصبح لها بذلك مجمعها المقدس الخاص المستقل عن المجمع الإثيوبي الأم.
ومن الجدير بالذكر أنه بعد قيام ثورة 1952،سعى صانعو السياسة الخارجية المصرية إلى إقامة علاقات دولية جيدة، خاصة مع دول حوض النيل، ولذلك اقترح الرئيس “جمال عبدالناصر” إقامة تجمع أو تكتل أو حتى حلف عسكري يجمع بين مصر والسودان وإثيوبيا، ولكن هذا الاقتراح لم يجد قبولًا وخاصة من إثيوبيا. وعندما أعلنت مصر عن نيتها إنشاء السد العالي عام 1955، في الوقت الذي بادر فيه الاتحاد السوفيتي للإعلان عن استعداده لتحمل نفقات إنشائه، واقترحت الولايات المتحدة تقديم مبلغ 56 مليون دولار من خلال البنك الدولي لذلك المشروع؛أثار ذلك حفيظة هيلاسيلاسيالذي أعلن انتقاده الصريح للولايات المتحدة لعدم استشارتها إثيوبيا في إنشاء السد.
مواقف أطراف الأزمة:
أولًا- موقف الأحباش:
أدىفشل الرهبان الأحباش في دفع الضرائب، التي كانت باهظة على مدار التاريخ على كنائس أورشليم عامة، إلى طردهم من كنائسهم بأورشليم المقدسة من قبل الحكومة العثمانية. ولما لم يكن لهم مكان وكانت كنيستهم هي ابنة الكنيسة القبطية قامت الكنيسة القبطية باحتضانهم في دير السلطان كضيوف. ولكن كان للضيوف رأي وتخطيط آخر للسيطرة على أهم دير قبطي في العالم المسيحي.
ومع اضطراب العلاقات بين كنيسة الرهبان الأحباش والكنيسة القبطية في بداية القرن العشرين، بدأ الأحباش يخططون للسيطرة الكاملة على دير السلطان، ووصل الأمر إلى التعدي بالعصيّ على مطران القدس القبطي.
ومع سيطرة الإسرائيليين على الأراضي،شرعوا في اصطناع المشاكل مع الكنيسة القبطية، وهو ما انتهى بالانفصال في 1959، واستمرتأزمة دير السلطان،رغمإثبات الكنيسة القبطية ملكيتها له خلال كل أزمة تحدث حتى آخر حكم من المحكمة الإسرائيلية.
ويتحجج الأحباش بأن الكنيسة الحبشية هي شريك للكنيسة القبطية في الدير كوريث شرعي له. وللأسف يردد البعض ذلك. لكن الحقيقة هي أنه لم تكن الكنيسة القبطية شريكًا للكنيسة الحبشية، ولكن استولت الأخيرة على ما تملكه الكنيسة القبطية. ومع نكسة 1967، ورفض الكنيسة القبطية لاجتياح إسرائيل للأراضي المصرية، وبسبب موقفها الوطني؛ استغل الأحباش حالة القطيعة القبطية لتل أبيب، ولا يخلو الأمر من مزايدات بعد اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية، وعمل يهود الفلاشا “يهود الأحباش” بكل قوتهم على تمكين أبناء وطنهم من ممتلكات الكنيسة القبطية حتى بعد صدور قرار المحكمة الإدارية العليا الإسرائيلية.
“
استضافت الكنيسة الحبشية داخل ممتلكاتها بمنتهى المحبة، لكن الضيف يطالب بطرد المالك، وهو ما دعمته إسرائيل كعقاب للكنيسة القبطية على مواقفها من الاجتياح الإسرائيلي تارة، ومن اتفاقية السلام تارة أخرى
“
ثانيًا- موقف الكنيسة القبطية:
مما سبق نستنتج أن الكنيسة القبطية قد استضافت الكنيسة الحبشية داخل ممتلكاتها بمنتهى المحبة، لكن الضيف يطالب بطرد المالك، وهو ما دعمته إسرائيل كعقاب للكنيسة القبطية على مواقفها من الاجتياح الإسرائيلي تارة، ومن اتفاقية السلام تارة أخرى.
كما وجدت الكنيسة نفسها خاضعة في ممتلكاتها في أورشليم إلى اتفاقية السلام التي وقّعتها إسرائيل مع الأردن دون أي غطاء من الحكومة المصرية. وقامت الكنيسة بتقديم أوراق تثبت ملكيتها للدير أكثر من مرة للمحاكم الإسرائيلية حتى صدور آخر حكم من المحكمة الإدارية العليا الإسرائيلية عام 1979،وبناء عليه صدر قرار المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمنع الأقباط من زيارة القدس في 26 مارس 1980، قبل التحفظ على البابا شنودة بشهور قليلة، وذلك ردًّا على تعنت السلطات الإسرائيلية في تسليم الدير للكنيسة القبطية.
وقد استمرّالموقف على هذا الوضع حتى منتصف أكتوبر 2018، حيث وقَعَ سقف كنيسة الملاك ميخائيل، ورفضت السلطات الإسرائيلية أن تقوم الكنيسة القبطية بترميم السقف (موجود به رسومات وكتابات قبطية)، وصدر قرار الترميم لصالح الكنيسة الحبشية، مما يهدد بتغيير معالم المكان وهويته، وبالتالي زرع أدلة غير حقيقية على ملكية الأحباش للكنيسة، وهو الموقف الذي انتهى بوقفة في 22 أكتوبر 2018، وسحل الراهب مكاريوس الأورشليمي، والقبض عليه، وإطلاق سراحه في نفس اليوم بعد جهود الخارجية المصرية.
ثالثًا- موقف الدولة المصرية:
حاولت الدولة المصرية منذ البداية دعم موقف الدير. فقبل عام 1967 ساهم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بخمسة آلاف جنيه من الخزانة المصرية لإعادة إعمار الدير، ولكن الحكومة المصرية خلال حكم الرئيس الراحل أنور السادات رفضت إدراج الدير في مفاوضات السلام المصرية-الإسرائيلية. وخلال فترة حكمه، اكتفى الرئيس محمد حسني مبارك من وقت لآخر بالإشارة للدير، كما لو كان قضية معلقة يمكن طرحها في أي وقت للضغط على إسرائيل في مواقف أخرى.
ومع تفجر أزمة الدير مؤخرًا وجّه الرئيس عبدالفتاح السيسي وزارة الخارجية للتعامل مع الأمر، وقد تُوجت جهودها بالإفراج عن الراهب المقبوض عليه. وصدر بيان عن الدولة المصرية، سبق بيان الكنيسة، يرفض ما حدث. ولأول مرة تتحرك الدولة بدرجة من الجدية في الأمر. وعلى الكنسية استغلال تلك الفرصة، واهتمام الدولة المصرية بأزمة الدير بتقديم شرح وافي لأسباب الأزمة، ودفع الملف للأمام.
رابعًا- موقف إسرائيل:
خضعت إسرائيل لضغوط يهود الفلاشا بعد انسحاب الأقباط من المشهد العام في الشرق الأوسط، وهم الأقلية الأكبر في المنطقة، ووجودهم بقوة في أورشليم كان محركًا قويًّا للقوة الناعمة المصرية. وبالتالي عاث الأحباش بقوة في الفضاء الذي تركه الأقباط.وكانت إسرائيل تتعامل مع دير السلطان كنوع من العقاب للأقباط والكنيسة القبطية المناهضة لعملية السلام المصرية-الإسرائيلية، ولكنها كانت مرتبطة دومًا باتفاقية السلام مع الأردن التي تعطي عمان حق الإشراف على المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية في القدس.
ومعانتخاب “دونالد ترامب” كرست تل أبيب سلطتها المادية على الأرض، خاصة بعد رفض الكنيسة القبطية استقبال نائب الرئيس الأمريكي “مايك بنس” بعد قرار الإدارة الأمريكية بإعلان”أورشليم عاصمة إسرائيل”، وهو ما انعكس على عدة قرارات استعراضية لإسرائيل توضح فيها السيادة الفعلية على الأرض، وتنقل للجميع رسالة بأن قواعد اللعبة قد اختلفت، وأن بنود اتفاقية السلام الأردنية-الإسرائيلية لم تعد ملزمة إلا فيما تراه تل أبيب. وهناك الكثير من القرارات التي تحاول أن ترسل بها إسرائيل رسالة بسيادتها على الأرض، مثل: قرار الضرائب على دور العبادة، وقرار وضع حواجز أمنية على الأقصى.
خمس ملاحظات:
تكشف أزمة دير السلطان عن خمس ملاحظات رئيسية تستحق التوقف أمامها بالإشارة والتحليل، وهي:
أولًا- غياب المعلومات الأساسية عن تاريخ دير السلطان منذ إهداء صلاح الدين الأيوبي الديرللكنيسة القبطية حتى الآن، مرورًا بحكم المحكمة العليا الإسرائيلية 109/ لسنة 1971. والمشكلة ليست متعلقةبالملكية لأنها تعود للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بل هي مشكلة حيازة بين الرهبان الأقباط الرهبان الأحباش.
ثانيًا-غياب المعلومات الأساسية عن تاريخ العلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الحبشية حتى عام 1959تاريخ استقلال كنيسة الحبشة عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وصولًا إلى خروج كنيسة إرتيريا.
ثالثًا-غياب المعلومات الأساسية عن علاقة إسرائيل بالمقدسات الإسلامية والمسيحية، وأنها مجرد دولة غير مالكة لتلك المقدسات، وأنه وفقًا للمعاهدات الدولية فإن الفاتيكان -حسب معاهدة بينه وإسرائيل- مسئول عن المقدسات المسيحية للكنائس الغربية، والأردن وفقًا لاتفاقيات وادي عربة مسئول عن المقدسات الإسلامية والمسيحية للكنائس العربية.
رابعًا- عدم المعرفة بأن الاتفاقيات بين مصر وإسرائيل لم تتناول المقدسات الإسلامية والمسيحية.
خامسًا- انقسم الإعلام القبطيإلى عدة اتجاهات لغياب فهم ماهية مسئولية إسرائيل القانونية تجاه المقدسات، وأن أي قرارات خاصة بها بأي حال لابد أن تعود إلى الفاتيكان فيما يخص مقدسات الكنائس الغربية، وللأوقاف الأردنية وفقًا لاتفاقيات وادي عربة، وأن وزارة الأديان الإسرائيلية وفقًالتلك الاتفاقيات لا علاقة لها بتلك المقدسات، وتقتصر سلطتها على المقدسات التي تملكها إسرائيل.
ويرجع ذلك إلى عدم وجود خبراء كثيرين بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية في الشأن المقدسي والمعاهدات التي عقدتها إسرائيل بشأن المقدسات، أو من القانونيين الذين يعرفون السياق القانوني لإسرائيل كدولة احتلال في علاقاتها بالمقدسات. ويضاف إلى ما سبق عدم إدراك دور اليهود الفلاشا والعلاقات الإثيوبية-الإسرائيلية. وكذلك عدم إدراك أن جوهر الأزمة يتلخص في: أنها أزمة حيازة وليست أزمة ملكية، والأساس الموضوعي لها هو الحوار مع الأشقاء الأرثوذكس الأحباش، وأن المسئولين الروم الأرثوذكس الذين يجري الاتصال بهم وإدخالهم في الأزمة أقرب لإسرائيل، وأن الأرثوذكس الذين لهم علاقات قوية بإسرائيل هم الكنيسة الروسية التي لها حزب روسي قوي ومصالح حيوية مع إسرائيل.
مسارات التعامل مع الأزمة:
في ضوء ما سبق، لابد أن تتوحد الجهود القبطية للتعامل مع أزمة دير السلطان وفقًا لجملة من المسارات التي تتمثل في:
المسار الأول: يتطلب الاعتراف بأن الانسحاب من المشهد في أورشليم أضر بالقوة الناعمة المصرية جدًّا، وبسيطرة الأقباط على ممتلكاتهم.
المسار الثاني:ويقوم على الدفع مع الخارجية والدولة المصرية في اتجاه الحل الدبلوماسي، وإدراك متغيرات المرحلة في إسرائيل ومصر.
المسار الثالث: يتعلق بالقوى المدنية التي لها قدرة على التواصل مع منظمات المجتمع المدني المهتمة داخل وخارج الشرق الأوسط، وشرح الأمر في صورته الحقيقية، واستغلال التقارب مع الفاتيكان في الضغط لخدمة مصالح الكنيسة القبطية.
واتساقًا مع المسارات الثلاثة، فإن على منْ يديرون الأزمة التحرك في ثلاثة اتجاهات. يتمثل أولها في الحوار مع الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، فالعلاقة بين الكنيستينلم تهتز برغم ما مرت به العلاقات بين مصر وإثيوبيا من توترات. وينصرف ثانيها إلى عمل توكيلات لمحامين إسرائيليين للدفاع عن الدير.ويتعلق ثالثها بتحرك وزارة الخارجية المصرية مع وزارة الخارجية الأردنية والإسرائيلية للتفاوض أولا حول الحيازة وليس الملكية.
المراجع:
- د. أنتوني سوريال عبدالسيد، مشكلة دير السلطان بالقدس: دراسة وثائقية للصراع التاريخي بين الأقباط والإثيوبيين على الدير.
- سليمان شفيق (مؤلف)، د مصطفى الفقي (تقديم)، الأقباط بين الحرمان الوطني والكنسي، (القاهرة: دار الأمين للطبع والنشر، 1995).
- رامي كامل، دير السلطان بحث منشور، القاهرة 2018.
- حوار خاص مع الأنبا أنطونيوس مطران القدس.
- أقباط متحدون، حديث البابا تواضروس الثاني في اجتماع الأربعاء.
- اتفاقية كامب ديفيد.
- اتفاقية وادي عربة.
- حكم المحكمة العليا الإسرائيلية 109 / لسنة 1971.