تصاعد الخلاف الروسي-الإسرائيلي عقب نشر موسكو منظومة S-300 في سوريا في سياق رد الفعل على إسقاط الطائرة إيليوشين- 20، في 17 سبتمبر ٢٠١٨، والذي اعتبرته روسيا عملًا عدوانيًّا حمّلت إسرائيل المسئولية عنه. فبمجرد إعلان المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية “إيجور كوناشينكوف”، في 31 أكتوبر ٢٠١٨، استكمال إمداد دمشق بالمنظومة، وبدء تدريب العسكريين السوريين على تشغليها، جاء رد الفعل الإسرائيلي المقابل تصعيديًّا من جانب وزير الدفاع “أفيجدور ليبرمان”، حيث صرح بأن تل أبيب لن تتوقف عن شن عمليات في سوريا ضد الوجود العسكري الإيراني. كما نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية صورًا زعمت أنها تخص إحدى بطاريات المنظومة الجديدة للإيحاء بالقدرات الإسرائيلية السريعة على رصد الأهداف الروسية في سوريا.
التصعيد المتبادل على الجانبين يأتي في إطار فشل موسكو-تل أبيب في احتواء أزمة إسقاط الطائرة، وعدم اقتناع الجانب الروسي بالروايات العسكرية الإسرائيلية. وعلى ما يبدو فإن فترة اختبار النوايا من الجانب الروسي لمدى التزام إسرائيل بترتيبات الأمن الثنائي مع روسيا في الجنوب السوري والتي أعيد بمقتضاها انتشار القوات الإيرانية إلى العمق السوري، كانت مصدرًا آخر لأزمة ثقة عبّرت عنها موسكو بالإشارة إلى أن إسرائيل قامت بعملية “تضليل” لمركز العمليات الروسي في حميميم حتى تم إسقاط الطائرة بشكل متعمد، وبالتبعية أيضًا عدم الالتزام باشتراطات السلامة الجوية التي يتم التنسيق بموجبها منذ عام 2015 لمنع حوادث الطيران. لكن يبقى لافتًا في سياق هذا التسلسل أن موسكو كانت قد تراجعت عن قرار سابق بنشر المنظومة عقب الهجمة الثلاثية الأمريكية البريطانية الفرنسية في أعقاب ما عرف بهجمة كيماوي دوما إثر ضغوط إسرائيلية قادها رئيس الوزراء “بنيامين نتنياهو”.
“
نشر روسيا لـS-300 لا يتوقف على مجرد تقوية الدفاعات الروسية للحيلولة دون تكرار حادث طيران مماثل لحادث إيل -20، بقدر ما يأتي في إطار إعادة تقييم شامل للبنية الدفاعية العسكرية الروسية في سوريا
“
ومن المتصور أن نشر روسيا لـS-300 لا يتوقف على مجرد تقوية الدفاعات الروسية للحيلولة دون تكرار حادث طيران مماثل لحادث إيل -20، بقدر ما يأتي في إطار إعادة تقييم شامل للبنية الدفاعية العسكرية الروسية في سوريا بما يضمن سد الثغرات الدفاعية من جهة، وتأمين عملية زيادة الانتشار العسكري الروسي في سوريا في مقابل الانتشار الأمريكي المتنامي على التوازي في سياق قفزات “سباق التسلح” الجارية على الحلبة السورية.
وبالتالي يمكن القول إن حادث إيل -20 كان بمثابة تغير مسار نوعي في العلاقة مع إسرائيل، وتغير مسار تكتيكي يتعلق باستراتجية ديمومة الوجود العسكري الروسي في سوريا وضمانات الدفاع عن مناطق النفوذ الخاصة بها.
أولًا- مسار تعزيز بنية الدفاع الروسية الشاملة:
وهو المسار الذي يتم على ثلاثة مستويات متزامنة على النحو التالي:
1- بناء نظام دفاعي متعدد الطبقات: من منظومتي الدفاع S-400، S-300، وإدماج S-200 التي يمتلكها الجيش السورى مع 300S- الأخيرة لتصبحا معًا نظام S-300، ومن ثم سنكون أمام نظام دفاع متعدد الطبقات يمكن وصفه بأنه نظام دفاع “فوق تقليدي” شديد التعقيد وفق تركيبة منظومات متميزة. فضلًا عن ذلك نشرت روسيا أيضًا منظومة Pantsir-S2 الأحدث جيليًّا، وهناك أيضًا النسخة الأولى S-1 التي يمتلكها الجيش السوري وتستخدم بالأساس لتغطية وتأمين S-400، S-300. كما يستعان بها حاليًّا لمواجهة هجمات الطائرات بدون طيار “الدورنز” بعد حادث استهداف قاعدة حميميم في 8 يناير 2018 التي اتهمت فيها روسيا مؤخرًا الولايات المتحدة بشن الهجمات عليها، حيث أعلن نائب وزير الدفاع الروسي “ألكسندر فومين” أن طائرة استطلاع أمريكية من طراز Poseidon-8قامت بتوجيه الدروزنز من تشكيل قتالي قوامه 13 طائرة وُجّهت من قيادة موحدة في أجواء شرق المتوسط. وبالتالي تعوض هذه المنظومة تحليقات الدرونز في المديات القصيرة، حيث تعمل في نطاق ما بين ٢0 إلى 30 كلم إلى جانب تزويدها برادار بحث SOTS S-band لزيادة نطاق الكشف من 36 كلم إلى أكثر من 40 كلم.
2- دعم قدرات الحرب الإلكترونية: على التوازي أيضًا وفي غضون 10 أيام عقب حادث إيل -20، قامت روسيا بنشر نظام التشويش كراسوخا Krasukha- 4، وهو نظام تشويش فائق القدرات للتشويش على الأسلحة الموجهة عالية الدقة كالصواريخ والقنابل، وبإمكانه التشويش على أنظمة الاتصالات المعادية، وتعطيل الصواريخ الموجهة والطائرات وتحييد الأقمار الصناعية وأنظمة الرادار بما فيها “أواكس” الأمريكي في نطاق 150-300 كلم، وتعطيل أنظمة الحرب الإلكترونية المعادية.
3- إحلال وتجديد المعدات العسكرية المتقادمة: ومنها تحديدًا إيل -20، وهي طائرة من طراز قديم دخلت الخدمة منذ سبعينيات القرن الماضي، لكنها شهدت أجيالًا أحدث. ومع إعلان شركة الخدمات التكنولوجية الروسية عن استعدادها لإعادة تأهيلها، أشارت تقارير عسكرية روسية إلى أفضلية إحلالها بنسخ أحدث جيليًّا مثل إيل -22 على سبيل المثال على اعتبار أنها واحدة من الطائرات الفريدة في مجال الاستطلاع الجوي.
ثانيًا- قدرات الردع المقابلة:
على الرغم من الاتفاقيات الثنائية التي أسفرت عن ترتيبات أمن ثنائي بين موسكو وتل أبيب؛ إلا أن إسرائيل بدت أكثر الأطراف اهتمامًا ومنذ وقت مبكر ببناء قدرات ردع في مواجهة السلاح الروسي في سوريا، وربما منذ عام 2008 مع بدء الحديث عن توريد منظومات روسية مثل بانتسير S-1. ولكن مع استقدام منظومة S-400 إلى قاعدة حميميم ثم S-300 تنامت المساعي الإسرائيلية لبناء قدرات ردع من خلال الحصول على أسلحة هجومية، ومنها الحصول على سلاح في مواجهة تلك المنظومات تحديدًا، وكان أبرز تلك القدرات الحصول على F-35.
وفي هذا السياق، يُشار إلى أن العديد من التحليلات الغربية –خاصة الأمريكية- ترى أن استخدام F-35 قد يشكل مخاطرة في هذا الصدد، لكنّ إسرائيل على الأرجح أخذت مسارين متلازمين على النحو التالي:
– التدريب الدائم على المنظومات الروسية: خاصة 300/400 S- وهو ما تقوم به إسرائيل تقريبًا منذ عام 2015 على المنظومة S-300 الخاصة باليونان، ولاحقًا هناك تدريبات مماثلة تجري في أوكرانيا وفقًا لموقع “ديبكا” الاستخباري الإسرائيلي الذي أشار إلى أن مقاتلات إسرائيلية تتدرب على محاكاة تشويش عمل نظم الرادارات الروسية، بل إن الواقع أشار إلى توارد أنباء عن مشاركة مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي في مناورات عسكرية في أوكرانيا تشمل تدريب الجانبين على مهاجمة نظم دفاعية روسية من طرازي إس300/400.
– الطائرة 35- F والصواريخ النوعية: التقديرات العسكرية الفنية رشحت المقاتلة الأحدث 35- F التي تمتلكها إسرائيل لتشكل عامل الردع المقابل لـS-300، لكن باشتراطات معينة تتعلق بمستوى الرصد من جانب المنظومة، لكن القاسم المشترك بين أغلب التقديرات الفنية تمنح المقاتلة F-22 أفضلية فيما يتعلق بعامل الرصد. لكن إسرائيل لا تمتلك هذا النوع من المقاتلات، وبالتالي يتعلق باشتراطات 35- F التي يمكن للمنظومة رصد بصمتها عند تحليق على مستوى 75 كلم وإن كانت صواريخ المنظومة تطال مديات ما بين 150-200 كلم، لكن المسألة هنا تتعلق بعامل الرصد من جانب راداري المنظومة الرصد / التوجيه، ومن ثم ينصرف الأمر إلى رصد الرادار وليس المنظومة في هذا السياق، ورصد الرادار في مساحة تصل إلى 40 كلم بعيدًا عن منصة الإطلاق، وتحتاج المقاتلة المهاجمة في هذه الحالة إلى تزويدها بصواريخ من نوع HARM التي يمكنها تتبع الموجات الرادارية، وبالتالي تصيب أيًّا من الرادارين في المنظومة، ويمكن إطلاق هذه الصواريخ على مسافة 150 كلم، أي ضعف المسافة التي يمكن أن تكشف منها المقاتلة لو كانت 35- F، وفي حال إطفاء الرادار فإن هناك صواريخ Delilah الإسرائيلية من F-16 أو الفانتوم ومداه يصل إلى 250 كلم، وقد تمت عملية اختبار جزئي وفق هذا التصور في أبريل الماضي.
“
إن فائض قوة الاحتكاك الأمريكي الروسي خارج الساحة السورية سيُلقي بتداعياته المباشرة فيها مرحليًّا، وهناك علاقة مباشرة لإسرائيل بهذا السياق لعل أحد أبرز الدلائل عليه ما كُشف عنه من مشاركات عسكرية في أوكرانيا.
“
ثالثًا- احتمالات المستقبل:
لا يبدو أن إسرائيل ستتراجع عن موقفها الخاص بموازين القوى في سوريا، خاصة ما يتعلق منها باستهداف المواقع العسكرية التي تزعم أنها تخص إيران في سوريا، وبالتالي ستستمر في خرق الاتفاق المبرم مع روسيا في هذا الصدد، وإجمالي المشاهد الخاصة بحادث الطائرة إيل20- وما سبقه وما تلاه من تحركات إسرائيلية في الأجواء الروسية كاشف عن هذا التوجه. ولكن المشهد الأوسع هو مشهد سباق التسلح المتنامي على الساحة السورية، وليس قصرًا وحصرًا على الطرفين، وإنما أيضًا يتسع من جانب الولايات المتحدة فيما يتعلق بسباق بناء القواعد العسكرية من الجانبين. ويُعتقد أن واشنطن سوف تقوم ببناء قواعد إضافية في حين أن لديها على الأقل 10 قواعد عسكرية في سوريا، وذلك بالنظر إلى تنامي مستوى الانخراط العسكري الأمريكي في سوريا على عكس ما كان متوقعًا أو حتى معلنًا عنه من جانب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، بل إن فائض قوة الاحتكاك الأمريكي الروسي خارج الساحة السورية سيُلقي بتداعياته المباشرة فيها مرحليًّا، وهناك علاقة مباشرة لإسرائيل بهذا السياق لعل أحد أبرز الدلائل عليه ما كُشف عنه من مشاركات عسكرية في أوكرانيا.
من جانب آخر، لا يستبعد سيناريو تجاوز الأزمة حتى وإن كان الاحتمال الأضعف، وهو ما ترجحه بعض الدوائر الأكاديمية المتخصصة في إسرائيل، ومنها معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، وما تضمنه تقرير (The Crisis over the Downed Russian Plane: What Next?) الذي يرى أن رد فعل روسيا على الحادث كان متوقعًا، لكن في الأخير يظل تجاوز تلك العقبة مطلوبًا لاعتبارات تتعلق بالمصالح المشتركة على الجانبين حتى لا ينزلق الطرفان إلى طريق محفوف بالمخاطر، وأنه إذا كانت روسيا قامت بنشر S-300 فإسرائيل يمكنها تجاوزها كأحد التحديات التي تم فرضها على الساحة، لكن التقدير لم يستبعد تبدد الأمر كلية على خلفية أن روسيا هي الأخرى لديها جدول أعمال أوسع تنتهجه حيال الغرب والولايات المتحدة، وهو نفس السياق الذي تشير إليه تقديرات مقابلة بأن إسرائيل منخرطة في المعترك ذاته.