ارتبط الحديث عن سباق التسلح بحقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، ومؤخرًا تتردد فكرة العودة إلى سباق التسلح مرة أخرى ليس فقط على مستوى التسليح التقليدي ولكن التسليح النووي مرة أخرى!
وتتصاعد لهجة التنافس في مجال التسليح بين كلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا، إلى درجة إعلان الرئيس “دونالد ترامب” في أكتوبر 2018 عن نوايا الولايات المتحدة للانسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى “معاهدة القوى النووية المتوسطة” الموقّعة بين الدولتين منذ عام 1987، والتي تحظر تصنيع أو تجريب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مجنحة أو متوسطة، وتدمير كافة منظومات الصواريخ التي يتراوح مداها المتوسط بين 1000-5500 كلم، ومداها القصير ما بين 500-1000 كلم (INF: The Intermediate-Range Nuclear Forces Treaty).
بحلول مايو 1991، تم تنفيذ المعاهدة بشكل كامل، حيث دمر الاتحاد السوفيتي 1792 صاروخًا باليستيًّا ومجنحًا تُطلق من الأرض، ودمرت الولايات المتحدة الأمريكية 859 صاروخًا. وتشير نصوص المعاهدة إلى أنها غير محددة المدة، ويحق لكل طرفٍ الانسحاب منها بعد تقديم أدلة مقنعة للخروج. فهل تمتلك الولايات المتحدة أدلة مقنعة للخروج من هذه المعاهدة؟ أم إن لها أهدافًا أخرى؟.
تدلل الولايات المتحدة على موقفها بأن روسيا انتهكت المعاهدة حينما نشرت صواريخ SS-20 المتوسطة المتطورة التي يصل مداها إلى 5000 كلم والتي تتمتع بالدقة العالية بما يمكّنها من إصابة أهداف في أوروبا الغربية وشمال إفريقيا والشرق الأوسط، كما يمكّنها من ضرب أهداف في ولاية ألاسكا الأمريكية. لكن هل هذا اعتبار يكفي لانسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة؟ وهل يزيل التهديد النووي الروسي؟ وهل روسيا حقًّا هي المستهدفة من هذا القرار الأمريكي المحتمل؟
“
إن امتلاك قدرات عسكرية تُمكّن الولايات المتحدة من الوصول إلى قلب الأراضي الصينية يمثل أهمية كبيرة بالنسبة للجيش الأمريكي في أية مواجهة مع الجيش الصيني
“
أولًا- أهداف الولايات المتحدة من الانسحاب من معاهدة INF:
- تهدف واشنطن من الانسحاب من الاتفاقية إلى الدخول في حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين في مياه المحيط الهادئ جنوب شرق آسيا، ولأن الصين لم توقّع على المعاهدة فإنها تقوم بتطوير قدرات صاروخية تعتبرها واشنطن تهديدًا لقواتها في المحيط الهادئ جنوب شرق آسيا. وقد صرّح “كريستوفر جونسون” عميل وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق قائلًا: “إن امتلاك قدرات عسكرية تُمكّن الولايات المتحدة من الوصول إلى قلب الأراضي الصينية يمثل أهمية كبيرة بالنسبة للجيش الأمريكي في أية مواجهة مع الجيش الصيني”، وأضاف: “إذا لم تملك الولايات المتحدة القدرة على ضرب قواعد الصواريخ المضادة للسفن الموجودة داخل الأراضي الصينية، فستقتصر قدراتها العسكرية في المنطقة على قواعدها الموجودة في اليابان، وسيكون إرسال سفنها الحربية إلى المياه القريبة من سواحل الصين مخاطرة غير مقبولة”.
- مواجهة التطوير الكبير في القدرة الصاروخية الروسية، إذ تُشير آراء المتخصصين في الشئون التسليحية إلى أن هذا التطوير قد أثار القلق الأمريكي من تطور القدرات -وربما النوايا- الروسية. فعلى سبيل المثال، أعادت روسيا النظر في إعادة إدخال الصاروخ (SS-27) المعروف باسم (SS-27 “Sickle B” (RT-2PM2 Topol-M للخدمة مع تحديثه، وهو عابر للقارات، ويصل مداه إلى 11 ألف كلم، وقادر على حمل رؤوس نووية تصل إلى 500KT.
- الاستراتيجية الدفاعية للولايات المتحدة لعام 2018 تؤكد على التحدي الذي تمثله كل من الصين وروسيا، وضرورة ردعهما بمختلف السبل، وهذا يتسق مع أهداف إدارة “ترامب” من ضرورة تجديد القدرة النووية الأمريكية. وبالتالي قد يكون الانسحاب من اتفاقية INF مقدمة للتراجع عن معاهدة ستارت الجديدة التي وُقِّعت في عام 2012 بين الولايات المتحدة وروسيا للحد مما لديهما من أسلحة نووية لتصل إلى حوالي 1550 رأسًا حربيًّا استراتيجيًّا نشطًا، و700 قاذفة قنابل استراتيجية أو أنابيب صواريخ نووية (على الأرض أو في البحر). وقد أشارت إدارة “ترامب”، ولا سيما مستشار الأمن القومي المتشدد “بول بولتون”، إلى رغبتها في قتل معاهدة ستارت الجديدة، أو السماح بإنهائها في عام 2021.
وهنا يثور تساؤل: أين يمكن للولايات المتحدة نشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى إذا أكملت قراراها بالانسحاب من معاهدة INF؟ هل في دول الناتو الأكثر تضررًا؟ أم في المجال الحيوي للصين (الفلبين/ غوام/ اليابان/ كوريا الجنوبية)؟ وما هو الرد الروسي المحتمل؟
يمكن القول إن عزم الولايات المتحدة الأمريكية على الانسحاب من اتفاقية INF للحد من تصنيع وتجريب الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى مع روسيا يهدف إلى ما هو أبعد من معاقبة روسيا على انتهاك الاتفاقية وفقًا لما تُعلنه الولايات المتحدة، إذ ربما يهدف لردع كلٍّ من روسيا والصين معًا، وبدء سباق تسلح معهما تقدر الولايات المتحدة أنهما لا تستطيعان اللحاق بها أو مجاراتها فيه، وربما تهدف للضغط على الصين وروسيا معًا للحد من تطوير قدراتهما التسليحية التقليدية والنووية أيضًا، وليس من المستبعد أيضًا تأثير مثل هذا القرار المحتمل على الحلفاء الأوروبيين الواقعين في مدى الصواريخ الروسية متوسطة وقصيرة المدى، فقد كان هناك 60 ألفًا من الصواريخ النووية كانت موجودة في أوروبا قبل المعاهدة، وبعد المعاهدة بقي منها 15 ألف صاروخ، وعودة هذه الصواريخ إلى أوروبا ستؤثر ليس فقط على الأمن الأوروبي، بل وعلى الأمن العالمي، وأغلب الظن أن الأوروبيين سيكونون ضد انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة، لأن الإبقاء على عمل المعاهدة يمنع انتشار السلاح النووي في العالم. ومن وجهة النظر الأوروبية فإن الدافع الرئيسي للانسحاب من المعاهدة هو بقاء العالم أحادي القطب حتى ولو على حساب أوروبا!
ثانيًا- التداعيات المحتملة للانسحاب الأمريكي من اتفاقية INF:
- بالنسبة لروسيا: قد يتحقق الهدف الأمريكي بإعادة أجواء سباق التسلح مع روسيا، فأول رد فعل روسي جاء من تصريحات المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية “دميتري بيسكوف”، بقوله: “إن الولايات المتحدة قررت الانسحاب من اتفاقية التخلص من الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى، وإنها تعمل على صياغته في أقرب وقت، وهذه نوايا خطرة للغاية. إنه في الواقع إعلان نوايا للدخول في سباق تسلح، سيجعل ذلك العالم أكثر خطورة. تعلمون أننا تحدثنا عن ذلك على مختلف المستويات، والرئيس تحدث، وبالتأكيد على خلفية هذه التصريحات، نفكر بالدرجة الأولى في مصالحنا الوطنية وقضايا الأمن القومي الروسي”. وفي السياق نفسه، أشار الرئيس “بوتين” أثناء لقائه مع مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي “جون بولتون” إلى أنه على الأمريكان أن يعيدوا النظر في قرارهم الانسحاب من المعاهدة، فالأمريكان يريدون الانسحاب من المعاهدة ولا يقدمون أفكارًا جديدة، لكن لدى روسيا صواريخ كاليبر المجنحة التي تم استخدامها ضد الإرهابيين في سوريا، وهذه الصواريخ يمكن تطويرها أكثر فيما لو انسحبت الولايات المتحدة من المعاهدة”.
- بالنسبة للاتحاد الأوروبي لديه تحفظات على هذه النوايا الأمريكية، فوفقًا لمفوضة الاتحاد الأوروبي السامية للشئون الخارجية والسياسات الأمنية “فيديريكا موغيريني”: “إن معاهدة إتلاف الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى أسهمت في إنهاء الحرب الباردة، وتشكل أساسًا لهيكل الأمن الأوروبي منذ دخولها حيز التنفيذ قبل 30 عامًا، ويجب على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مواصلة الحوار البناء للحفاظ على معاهدة إتلاف الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، وضمان تطبيقها الكامل والقابل للتدقيق والذي يلعب الدور الحيوي لأمن أوروبا والعالم برمته”.
- الصين: تحفظت على إقحامها في التصريحات الأمريكية بشأن الانسحاب من الاتفاقية المعنية، مع إدراكها تمامًا للأهداف الأمريكية من ذلك، بل ربما تكون هي المستهدفة الأساسية من الانسحاب الأمريكي المحتمل حتى تتمكن من نشر صواريخها في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا، للضغط على التحركات الصينية في الباسيفيك.
“
إن الولايات المتحدة لديها أهداف أكثر أهمية من الرد على الانتهاكات الروسية المزعومة لاتفاقية الحد من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى الموقعة بينهما منذ عام 1987
“
وهنا لا بد من طرح تساؤل حول مدى التهديد الذي تمثله الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى الروسية بالنسبة للأهداف الأمريكية؟ والحقيقة أنه تهديد غير واقعي وذلك لعدة أسباب، أهمها:
- الصواريخ العابرة للقارات على الأراضي الروسية يمكن أن تضرب جميع خصوم موسكو المحتملين إلى جانب الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تحيط بها آلاف الأميال من المحيط الأطلسي والمحيط الهادي. وفي أفضل الأحوال يمكنها فقط أن تستخدم الصواريخ العابرة للقارات في ألاسكا أو جزر المحيط الهادي.
- روسيا قوة برية بالأساس، وتتوقع الصراعات بالقرب من حدودها، وهذا يعني أنها يمكن أن تنتشر بسرعة أنظمة أرضية من خلال شبكات السكك الحديدية والطرق، لذلك استثمرت موسكو أكثر بكثير في الصواريخ الأرضية التكتيكية، مثل: صواريخ سكود، وتوشكا، ومؤخرًا “الإسكندر” لضرب أهداف بعيدة جدًّا عن الخطوط الأمامية. ومع ذلك فقد حدّت معاهدة INF من مثل هذه الأنظمة “التكتيكية” مما أدى إلى وقف 2700 سلاح نووي، وانسحاب الولايات المتحدة من معاهدة INF يمكنه أن يزيد من التهديد الروسي المحتمل لحلفاء الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا وليس للولايات المتحدة ذاتها، وقد يزداد هذا التهديد سوءًا مع معرفة أن روسيا لديها العديد من الأسلحة البرية التي يمكن أن تمتد بسهولة المدى (كما كان الحال مع إسكندر)، وكذلك الأسلحة التي تطلق من الجو أو البحر مثل صاروخ “كروز كاليبور” الذي يمكن تكييفه بسعر أقل من تطوير أسلحة أمريكية جديدة، أو إعادة نشر ما كان موجودًا قبل المعاهدة.
- روسيا تمتلك بالفعل قدرة تسليحية متطورة تكنولوجيًّا برغم فارق الإنفاق العسكري بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، فإنفاق روسيا لعام 2017 بلغ 61.2 بليون دولار، بينما كان إنفاق الولايات المتحدة لنفس العام 602.8 بليون دولار، أي إن الفارق بينهما يتجاوز 80% لصالح الولايات المتحدة. لكن الفوارق النوعية في نظم التسليح بينهما لا تعكس هذا الفارق بينهما في ميزانية الدفاع بينهما.
ومن ثمّ يمكن القول إن الولايات المتحدة لديها أهداف أكثر أهمية من الرد على الانتهاكات الروسية المزعومة لاتفاقية الحد من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى الموقعة بينهما منذ عام 1987. ولعل الإعلان عن هذه النوايا الأمريكية للضغط على روسيا في قضايا أخرى كما أشار لذلك “جون بولتون” مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بقوله: “إنه على قناعة بضرورة دعم حوار دبلوماسي مع روسيا حول قضايا استراتيجية ودولية هامة، مثل الوضع في الشرق الأوسط، واللقاء المرتقب في 11 نوفمبر ٢٠١٨ بين رئيسي الدولتين”؛ قد يكشف عن حقيقة الأهداف الأمريكية.