كانت مصر حاضرة بقوة في الاحتفال الذي نظمته جمهورية جنوب السودان، في 31 أكتوبر 2018، بمناسبة التوقيع النهائي على اتفاق السلام المنشط في العاصمة جوبا بين رئيس البلاد “سلفا كير ميارديت” وشريك الحكم “رياك مشار” الذي عاد لبلاده للمرة الأولى منذ خروجه عام 2016 ليتولى منصب نائب رئيس الجمهورية كجزء من إجراءات عديدة تضمنت الوقف الفوري لإطلاق النار، وتشكيل حكومة انتقالية شاملة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لصياغة دستور جديد للبلاد تمهيدًا لإجراء الانتخابات للمرة الأولى منذ الاستقلال.
وقد مثّل مصر في حفل التوقيع رئيس الوزراء الدكتور “مصطفى مدبولي” الذي ألقى كلمة نيابة عن رئيس الجمهورية تضمنت العديد من الإشارات بالغة الدلالة، من بينها تأكيد الموقف المصري من السلام في جنوب السودان، إذ أيدت مصر مسار التسوية التفاوضية منذ نشوب النزاع عام 2013 سعيًا للوصول لتسوية مستدامة. إلى جانب الإشارة إلى عدم اقتصار الدعم المصري على الشق السياسي، بعد أن أطلقت مصر منذ يناير من عام 2014 برنامجًا للمساعدات الإنسانية الشاملة قدمت خلاله العديد من المساعدات الغذائية والطبية لشعب جنوب السودان في ظل احتدام الصراع وتنامي أعداد المتضررين.
واتصالًا بالبعد المستقبلي للسلام في جنوب السودان، أكد رئيس الوزراء التزام مصر بتقديم كل ما هو مطلوب لجعل السلام حقيقة، بما في ذلك المساعدة المباشرة في تفعيل بنود اتفاق السلام المنشط التي تتضمن إنشاء بعض المواقع، وتدريب جيش جنوب السودان الجديد، والمساعدة في تنفيذ برنامج نزع السلاح، وتسريح المقاتلين، وإعادة التأهيل والدمج، فضلًا عن التزام مصر بلعب دورها كشريك أساسي للتنمية في جنوب السودان من خلال تقديم كافة أشكال الدعم في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية والتعليم وإدارة الموارد المائية والبنية التحتية.
المسارات المتقاطعة للصراع والتسوية في جنوب السودان:
يكتسب توقيع اتفاق السلام المنشط أهمية كبرى نظرًا لحدة الصراع وطول أمده بين الفرقاء في جنوب السودان، ونظرًا لتعدد محاولات التسوية خلال الأعوام الخمسة الماضية والتي لم يكتب لأي منها النجاح. فقد بدأ الخلاف بين “رياك مشار” المنتمي لجماعة النوير وبين قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان قبل استقلال جمهورية جنوب السودان بنحو 20 عامًا، إذ سبق لمشار الانشقاق عن الحركة عام 1991 احتجاجًا على سياسات قادة الحركة الذين ينتمي عدد كبير منهم لجماعة الدنكا، وعلى رأسهم زعيم الحركة آنذاك “جون جرنج”.
وعلى الرغم من أن بنية الحكم في جمهورية جنوب السودان شهدت قدرًا معقولًا من تقاسم السلطة فور الاستقلال عام 2011 بعد أن تولى “سلفا كير ميارديت” رئاسة البلاد وتولى “رياك مشار” منصب نائب الرئيس؛ إلا أن تصاعد الانقسامات داخل الحركة الشعبية بحلول عام 2013 عجل بالمواجهة بين الرجلين بعد إعلان “مشار” اعتزامه خوض الانتخابات الرئاسية الجديدة منافسًا لـ”سلفا كير”، وهو ما أعقبه إجراء تعديل وزاري في يوليو من العام ذاته أطيح فيه بـ”مشار” ومؤيديه من مناصبهم. ومع تصاعد الانشقاقات داخل الحزب الحاكم، اشتعلت المواجهة المسلحة بين فصيلين من الحرس الرئاسي، أحدهما يتبع رئيس الجمهورية، والآخر يتبع نائب الرئيس، لتبدأ موجة من الصراع المسلح في ديسمبر 2013 اكتسبت طابعًا إثنيًّا سيطر خلالها “مشار” على عدد من الولايات الرئيسية، خاصة تلك التي يتركز فيها أبناء جماعته النوير، ومن بينها ولايتا الوحدة وأعالي النيل المنتجتان لنصيب كبير من نفط جنوب السودان.
وفي يناير من عام 2014 وقّع طرفا الصراع اتفاقًا لوقف إطلاق النار سرعان ما انتهكه الجانبان لتنفجر الأوضاع الأمنية والإنسانية في البلاد.
وبرعاية الهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد)، وبتفويض من الاتحاد الإفريقي وعدد من القوى الدولية المهتمة بالأوضاع في جنوب السودان، انطلقت محادثات للسلام بين طرفي الصراع في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، والتي لم تؤتِ ثمارها إلا بعد عام ونصف حين عاد “رياك مشار” للعاصمة جوبا ليؤدي القسم بصفته نائبًا أول لرئيس الجمهورية في أبريل من عام 2016. لكن هذا التوافق لم يصمد طويلًا، حيث أقاله “سلفا كير” ثانية في يوليو من العام نفسه بعد تجدد القتال بين القوات التابعة للفصيلين المتحاربين ليفر “مشار” إلى منفاه في جنوب إفريقيا. وفي مايو من عام 2017، أعلن الرئيس “سلفا كير” وقفًا لإطلاق النار من جانب واحد أعقبه الإعلان عن إطلاق حوار وطني مع المعارضة استضافت الخرطوم جلساته الأخيرة في أغسطس من عام 2018، والذي تم الاتفاق بمقتضاه على عودة “رياك مشار” نائبًا لرئيس الجمهورية.
“
عكس التوجه المصري خلال سنوات الأزمة موقفًا صلبًا قوامه التمسك بالعديد من الثوابت وفي مقدمتها تأييد الحل التفاوضي بين الحكومة والمعارضة، والحرص على وحدة جنوب السودان كدولة وطنية مستقرة
“
التفاعل المصري مع الصراع في جنوب السودان:
على الرغم من المسار المعقد والمتقلب لجهود التسوية في جنوب السودان، فقد عكس التوجه المصري خلال سنوات الأزمة موقفًا صلبًا قوامه التمسك بالعديد من الثوابت وفي مقدمتها تأييد الحل التفاوضي بين الحكومة والمعارضة، والحرص على وحدة جنوب السودان كدولة وطنية مستقرة، بجانب تقديم كل ما يُمكن للتخفيف من الآثار السلبية للحرب على الجانب الإنساني.
ولم يأتِ الحرص المصري على التسوية السلمية للصراع في جنوب السودان على حساب تطوير العلاقات الثنائية في العديد من الملفات الرئيسية وخاصة الملف المائي، فأمام تعدد ملفات الاهتمام المشترك وحاجة البلدين لتطوير التعاون ليشمل مجالات جديدة، شهدت الفترة ذاتها طفرة في كثافة التفاعل بين مسئولي الدولتين، سواء في عدد اللقاءات أو في مستوى المشاركة.
ففي أكتوبر من عام 2014، استقبل وزير الخارجية المصري “سامح شكري” وزير خارجية جنوب السودان في زيارة شهدت نقاشًا بشأن عملية المفاوضات التي كانت جارية آنذاك برعاية إيجاد. وفي نوفمبر من العام نفسه، استقبل الرئيس “عبدالفتاح السيسي” رئيس جنوب السودان “سلفا كير”، وعكست الزيارة الاهتمام المصري باستقرار جنوب السودان.
وتأكيدًا للموقف المصري المتوازن والحريص على التسوية السلمية للصراع، استقبلت مصر في فبراير من عام 2016 زعيم المعارضة في جنوب السودان “رياك مشار” الذي التقى الرئيس “السيسي” لمناقشة التطورات الخاصة باستكمال مسار التسوية السلمية. وفي أعقاب تجدد أعمال العنف في جنوب السودان، استقبل وزير الخارجية المصري النائب الأول لرئيس جنوب السودان على رأس وفد ضم وزراء الخارجية والدفاع في سبتمبر من عام 2016 في زيارة شهدت إعلان مصر عن استعدادها للمشاركة في قوة الحماية الإقليمية المزمع نشرها في جنوب السودان لتأمين الاستقرار حال موافقة حكومة جنوب السودان.
وفي مطلع عام 2017، استقبل الرئيس “السيسي” رئيس جنوب السودان في زيارة جديدة شهدت تأكيد الحرص المصري على إنجاح التسوية السلمية من جانب، وعلى تعزيز العلاقات الثنائية من جانب آخر. وفي مارس من عام 2018 استقبل رئيس جنوب السودان وزير الخارجية المصري لبحث العديد من الملفات الهامة وعلى رأسها ملف مفاوضات سد النهضة والأوضاع في القرن الإفريقي، بجانب توقيع مذكرة تفاهم لإنشاء آلية للتشاور السياسي بين البلدين، قبل أن يكرر الوزير المصري زيارة جوبا في مايو للمشاركة في الجلسة الافتتاحية لمجلس التحرير الوطني للحركة الشعبية لتحرير السودان برئاسة رئيس الجمهورية “سلفا كير”.
“
يحمل السجل المصري للتفاعل مع الصراع في جنوب السودان العديد من الدلالات على سمات مميزة للسياسة الخارجية المصرية تجاه القضايا الإفريقية بوجه عام، وتجاه قضايا حوض النيل بوجه خاص
“
دلالات الاهتمام والمشاركة المصرية في السلام بجنوب السودان:
يحمل السجل المصري للتفاعل مع الصراع في جنوب السودان العديد من الدلالات على سمات مميزة للسياسة الخارجية المصرية تجاه القضايا الإفريقية بوجه عام، وتجاه قضايا حوض النيل بوجه خاص. وقد تمثلت أولى هذه الدلالات في ارتفاع مستوى الاهتمام المصري بأوضاع جنوب السودان، فقد شهدت العلاقات بين مصر وجنوب السودان تطورًا كبيرًا منذ 2014 بحيث تعددت اللقاءات على مستوى القمة، كما تعددت الاجتماعات الوزارية نظرًا لتعدد مجالات التعاون بين الجانبين. كما جاءت المشاركة المصرية رفيعة المستوى من خلال حضور رئيس الوزراء المصري حفل توقيع اتفاق السلام المنشط في جوبا، لتؤكد الاهتمام المصري البالغ باستقرار الأوضاع في جنوب السودان، وهي المشاركة التي سبقها اتصال هاتفي بين رئيسي الدولتين، قدم فيه الرئيس “السيسي” دعمه لإحلال السلام في جنوب السودان، ومساندة مصر لمختلف الجهود الهادفة لتحقيق الاستقرار والتنمية في جنوب السودان.
وتتعلق الدلالة الثانية باتساق السياسة الخارجية المصرية، حيث جاء الاهتمام المصري المستمر بالتسوية السلمية للصراع في جنوب السودان مكملًا للمساعي المصرية لتحقيق الاستقرار في العديد من الدوائر الإقليمية. فبالرغم من تعدد بؤر الصراع في جوار مصر الإقليمي في الشرق الأوسط وحوض النيل، لم يختلف الموقف المصري باختلاف سياق الصراع، فدائمًا كانت مصر تدعم التسوية السلمية والتفاوض بين الأطراف المتحاربة، وكذلك حماية مبادئ السيادة والسلامة الإقليمية للدولة الوطنية. ولم يختلف الموقف المصري من الصراع في جنوب السودان عنه في الحالتين السورية أو الليبية على سبيل المثال، ليعكس قدرًا كبيرًا من اتساق السياسة الخارجية المصرية على مستوى المبادئ وعلى مستوى الممارسة.
أما ثالث الدلالات فجسدها تبني مصر مقاربة شاملة في إدارة العلاقة مع دول حوض النيل، فقد شهدت السنوات الخمس الماضية منذ اندلاع الصراع في جنوب السودان العديد من التطورات ذات الأهمية القصوى في دائرة حوض نهر النيل، والتي كان محورها شروع إثيوبيا في بناء سد على النيل الأزرق قبل إتمام التوافق مع مصر، وتقديم الضمانات الكافية لحماية الحقوق المائية المصرية. ونتيجة لاتصال هذه المستجدات بالمصالح المصيرية لمصر انصرف قدر كبير من اهتمام السياسة الخارجية المصرية لهذا الملف وما يتصل به من ملفات فرعية تتعلق بعلاقات مصر بكل من إثيوبيا والسودان. وبالرغم من ذلك، أدارت مصر مصالحها مع جميع دول حوض النيل بقدر كبير من التوازن، مما أتاح الفرصة لأن تشهد علاقات مصر بمختلف دول الحوض العديد من مظاهر التطور الإيجابي، وفي مقدمتها العلاقة بجنوب السودان التي استمرت في احتلال مكانة متقدمة على قائمة الأولويات المصرية، سواء عبر حرص مصر على تقديم العون من أجل تسوية عاجلة ومستدامة للصراع، أو عبر تلقي جنوب السودان النصيب الأكبر من الدعم المصري الفني والتنموي والذي تعددت مظاهره وفي مقدمتها المشاركة المصرية الفاعلة في تشييد سد “واو” أول سد متعدد الأغراض في جنوب السودان.
وتتصل الدلالة الرابعة والأخيرة بتعدد أبعاد الدعم الذي قدمته مصر لجهود تسوية الصراع في جنوب السودان. فلمصر تاريخ ممتد من دعم التسويات السلمية للصراعات الداخلية في إفريقيا عمومًا وفي جنوب السودان على وجه الخصوص، حيث تشارك مصر بقوات ضمن بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان منذ تشكيلها عام 2011. وقد أعلن رئيس الوزراء المصري خلال كلمته التي ألقاها في حفل توقيع اتفاق السلام المنشط عن استعداد مصر لتدريب جيش جنوب السودان في تشكيله الجديد، وهو أكثر أشكال الدعم الذي تحتاجه جنوب السودان في مواجهة التحديات الراهنة والذي تقدمه عادة الدول الكبرى بشكل حصري. فبينما انخرط الكثير من الفاعلين الإقليميين في دعم التسوية في جنوب السودان، اقتصر الدعم المقدم على الجانب السياسي بما يتناسب مع قدرات هؤلاء الفاعلين. لكن مصر بما تمتلكه من قدرات كبيرة على الجانب العسكري يمكن لها أن تقدم إسهامًا نوعيًّا يتمثل في تدريب القوات المسلحة لجنوب السودان على النحو الذي تقدمه مصر لعدد من دول جوارها الإقليمي مثل ليبيا والعراق، الأمر الذي يجعل للمساهمة المصرية قيمة كبيرة تؤكد دورها كضامن للاستقرار الإقليمي.
كل هذه الاعتبارات جاءت لتفسر الاهتمام المصري الكبير بالمشاركة الفاعلة في إتمام التسوية السلمية للصراع في واحدة من أهم دول حوض النيل، كما تفسر كذلك الترحيب الواسع الذي تلقته هذه المشاركة من مختلف قيادات جنوب السودان.