جاءت قرارات المجلس المركزي الفلسطيني الأخيرة التي صيغت في البيان الختامي لاجتماعاته التي انتهت يوم ٢٩ أكتوبر الماضي، لتثير العديد من التساؤلات التي من أهمها مدى قدرة المؤسسات الفلسطينية على تنفيذ الإجراءات المتخذة، والتي تنوعت بين قرارات استهدفت الرد على السياسات الأمريكية والإسرائيلية، ودعوات موجهة إلى الداخل وإلى العالمين العربي والإسلامي ومؤسساتهما الإقليمية، وأيضًا إلى مؤسسات النظام الدولي.
وقد جاءت عبارات البيان غامضة إلى حدٍّ بعيد بحيث يصعب وصف ما ورد فيه بأنه قرارات، بل الأوقع أنها مجرد توصيات ودعوات تحتاج لاختبار مدى فاعليتها عمليًّا في المدى المنظور.
أولًا- العبارات الموجهة للسياسة الأمريكية:
لم يكن هناك جديد قياسًا على المواقف السابقة لرئيس السلطة الفلسطينية “أبو مازن”، فقد أكد البيان رفضه لقرارات إدارة “ترامب”: الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإيقاف تمويل الأونروا، وإغلاق المفوضية الفلسطينية في نيويورك، ورفض أي حلول خاصة بالدولة الفلسطينية المحتملة لا تُقر بحدود الرابع من يونيو ١٩٦٧ كحدود قانونية لها، وعدم الاعتداد بالدور الأمريكي كوسيط بين الفلسطينيين وإسرائيل ما لم تتراجع واشنطن عن قراراتها السابقة!
وفي الواقع فإن تلك القرارات أو التوصيات ليس بها جديد، حيث سبق لأبو مازن والعديد من قيادات السلطة أن أطلقتها، إذ إن القدرة على تفعيلها عمليًّا تبدو ضعيفة، إن لم تكن منعدمة، ولا يمكن للدعوات التي وردت في البيان للأمم المتحدة أو للجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي أو لبعض القوى الدولية الأخرى لتولي ملف التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أن تكون بديلًا واقعيًّا للدور الأمريكي، وهو ما لا يمكن أن يكون قد غاب عن ذهن أعضاء المجلس المركزي وهم يُصدرون بيانهم الختامي، وبالتالي فإن تهديد “أبو مازن” بعدم التعامل مع واشنطن ما لم تتراجع عن قراراتها يفتقد حسابات التكلفة إذا ما حتّمت التطورات المستقبلية ضرورة تراجع “أبو مازن” ومؤسسات السلطة عنها، خاصة فيما يتعلق بالمصداقية أمام منافسيه وأمام شعبه.
“
يقرر المجلس المركزي أن الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن، بما انطوت عليه من التزامات، لم تعد قائمة
“
ثانيًا- العبارات الموجهة للسياسة الإسرائيلية:
أهم ما يلفت الانتباه في هذا القسم من البيان الختامي، القرار الخاص باعتبار المرحلة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاق أوسلو قد انتهت، أو حسب كلمات البيان حرفيًّا: يقرر المجلس المركزي أن الفترة الانتقالية التي نصت عليها الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة وواشنطن، بما انطوت عليه من التزامات، لم تعد قائمة.
والمعروف أن اتفاق أوسلو الموقع عام ١٩٩٣ كان ينص على الاعتراف بسلطة فلسطينية انتقالية تستمر لفترة خمس سنوات يتم خلالها مناقشة الوضع النهائي قبل إقامة الدولة الفلسطينية في ملفات الحدود والقدس واللاجئين. ورغم تعثر الوصول إلى هذه النقطة منذ عام ١٩٩٩ فإنه لا رئيس السلطة الراحل “ياسر عرفات” ولا خليفته “أبو مازن” اتخذا مثل هذه الخطوة في ذروة الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية ضد الفلسطينيين أثناء انتفاضة الأقصى، ولا في الفترات التالية التي شهدت تعثر مفاوضات السلام وتوقفها تمامًا قبل نحو سبع سنوات!
والواضح هنا أن الانسحاب من الالتزامات المنصوص عليها في الفترة الانتقالية، والتي تمددت لما يقرب من ربع قرن بدلًا من خمس سنوات، بحكم الأمر الواقع وبحكم عدم رغبة السلطة الفلسطينية في تحدي المجتمع الدولي الذي أيد اتفاقية أوسلو ودعمها؛ يعني نظريًّا إسقاطَ السلطة اتفاقَ أوسلو، ولكن البيان أشار إلى إسقاط الالتزامات الواردة في المرحلة الانتقالية، ولم يقل صراحة بإسقاط الاتفاق ذاته لأسباب مفهومة. أولها أن إسقاط اتفاق أوسلو سيعني سقوط شرعية السلطة الفلسطينية التي كانت أحد تجلياته، وهو ما لا يريده “أبو مازن” وقيادة السلطة بالطبع، وثانيًا لأن إعلان الانسحاب من اتفاق أوسلو سيرتب تداعيات خارجية وداخلية ذات طابع كارثي بالنسبة لقيادات السلطة التي ستجد نفسها في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى الأمم المتحدة التي اعترفت بهذا الاتفاق ومنحته الشرعية القانونية، وبالنسبة لإسرائيل التي يحكمها الليكود والأحزاب اليمينية سيشكل سقوط أوسلو انتصارًا كبيرًا لها وهي التي طالما رفضته ونددت به، خاصة وأن قرار إسقاطه “جاء” على يد الفلسطينيين بما يعفي إسرائيل من أية تبعات سلبية على علاقتها الدولية لو كانت هي من اتخذ القرار.
أما داخليًّا فإن نفس الإعلان (إسقاط أوسلو صراحة) لو حدث سيعني اعتراف “أبو مازن” وأنصار منهج التفاوض والحلول الوسط مع إسرائيل بفشلهم، وهو ما سيصب في صالح حركة حماس والمنظمات الفلسطينية الرافضة لنهج التسوية السلمية للصراع مع إسرائيل.
ولكن سيبقى السؤال هنا عن مدى قدرة “أبو مازن” على الخروج من التزامات المرحلة الانتقالية عمليًّا، خاصة فيما يتعلق بالشق الأمني؟
كما ورد في البيان أنه تم التأكيد على قرار سابق لأبو مازن بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وعلى الرغم من تشكيك الكثيريين من خصوم رئيس السلطة في جدية قراره، واتهامهم له بأنه ملتزم بهذا التنسيق سرًّا، فإن تنفيذ القرار بالفعل قد يدفع حركة حماس لاختباره عمليًّا بمحاولة توجيه عملية هجوم حتى ولو محدودة من داخل الضفة، وفِي مثل هذه الحالة قد يكسب “أبو مازن” مصداقية، وربما يستخدم مثل هذه العملية لو حدثت لإثبات أهمية التنسيق الأمني مع السلطة لمنع الهجمات ضد إسرائيل من الضفة، ولكن على جانب آخر فإن حدوث هذا التداعي الافتراضي للأحداث قد يقود إسرائيل إلى رد عنيف، وقد يزيد من العزلة الدولية والإقليمية لأبو مازن.
“
المطالبة بتفعيل قرار قمة عمّان 1980 الذي يُلزم الدول العربية بقطع جميع علاقاتها مع أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتنقل سفارتها إليها
“
ثالثًا- العبارات الموجهة للقوى الدولية والمنظمات الإقليمية:
أهم ما ورد في هذا الجانب من البيان: المطالبة بتفعيل قرار قمة عمّان 1980 الذي يُلزم الدول العربية بقطع جميع علاقاتها مع أي دولة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتنقل سفارتها إليها، والذي أُعيد تأكيده في عدد آخر من القمم العربية مع الطلب من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي القيام بالمثل.
وسيعتبر الكثيرون من قادة العالمين العربي والإسلامي مثل هذه الدعوة نوعًا من التلاعب غير المسئول، وربما التحريض المباشر ضد بلدانهم من جانب “أبو مازن”، فما يطلبه كان يمكن اتخاذه ضد دول صغيرة وغير مؤثرة على المصالح الواسعة والمتنوعة للعالمين العربي والإسلامي، وكان متناسبًا أيضًا مع الأوضاع التي كانت سائدة عام ١٩٨٠، أما دفع العالمين العربي والإسلامي للصدام المباشر مع الولايات المتحدة (التي يعنيها أبو مازن تحديدًا بدعوته تلك) فهو مطلب لن يفيد الفلسطينيين، وسيضر بشكل مؤكد بالمصالح العربية، خاصة في ظل الأوضاع الراهنة والتهديدات التي تواجه معظم الدول العربية بسبب الإرهاب، والأزمات الاقتصادية، والحروب الأهلية.
رابعًا- العبارات الموجهة للداخل الفلسطيني:
على الرغم من أن تعثر المصالحة الفلسطينية هو السبب المباشر فيما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية من تردٍّ اقتصادي ومشكلات سياسية وأمنية خطيرة، اهتم بيان المجلس المركزي بتوجيه الانتقادات لحركة حماس بدلًا من محاولة رأب الصدع معها لتقوية الوضع الداخلي، ولا يبدو مفهومًا أن يحاول المجلس الخروج من الالتزامات المنصوص عليها في أوسلو، وهو ما يوحي بأنه عاد للإقرار بحق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال (حسب نص البيان)، ثم يظل الخلاف مع حماس قائمًا مع أنها تتبنى الخيار نفسه!
الأمر المؤكد أن هذا التناقض سيكون اعترافًا عمليًّا بأن الخلاف بين حماس والسلطة هو في جوهره صراع على الحكم أكثر منه خلافًا حول أي الوسائل أفضل لتحقيق حلم الاستقلال والدولة الفلسطينية، وهو ما سيسيء للسلطة وحماس معًا، فكلاهما يحمل مشروعًا لا يبدو أنه قابل للنجاح، ليس لعدم عدالته بل لقيامه على المناورات أكثر من قيامه على رؤية استراتيجية تتوخى حسابات القوة الذاتية وموارد التأييد المطلوبة لأي من المشروعين على كافة الأصعدة الداخلية والإقليمية والدولية.
من هنا، يمكن القول إن بيان المجلس المركزي على صورته تلك ربما سيخلق للسلطة الفلسطينية وحتى لحماس مشاكل أكثر مما يفتح من نوافذ فرص مطلوبة لتحقيق حلم الدولة الفلسطينية، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني.