شهدت الفترة الأخيرة تصاعدًا كبيرًا في العمليات العسكرية لتنظيم “داعش” مرة أخرى بمحافظة دير الزور على حساب قوات سوريا الديمقراطية الكردية، وهو أمر زاد من مخاوف العودة القوية للتنظيم، والتي يمكن أن تهدد المنجزات العسكرية السابقة التي تحققت على الساحتين العراقية والسورية.
ولا شك في أن هناك مجموعة من العوامل التي ساهمت في صحوة التنظيم في دير الزور، يتمثل أهمها في: تفضيل التنظيم التواجدَ في بادية دير الزور، حيث تتوفر البيئة الحاضنة للتنظيم، والتي تمتد داخل الأراضي العراقية، وهو ما ساهم في سهولة حركة عناصره داخل المنطقة. كما أن استمرار رخاوة الحدود العراقية-السورية يُعتبر عاملًا أساسيًّا في هذا المجال، حيث أدى استمرار عدم الإمساك القويّ بهذه الحدود وعدم ضبطها من جانبيها إلى البقاء الجزئي لمجموعات تابعة لـ”داعش”، مما ساهم في تجمع فلول التنظيم بعد انتهاء معركتي الموصل والرقة بصورة أساسية في أجزاء من البادية السورية، والتي حاول تنظيم “داعش” تجهيزها لتكون أرضًا بديلة لدولته أو ما تبقى منها، مع العمل على ربطها بالصحراء العراقية في محافظتي الأنبار ونينوى.
وفي إطار مواجهة هذه الصحوة، يُشار إلى عددٍ من الإجراءات التي قامت بها الولايات المتحدة في المنطقة، خاصة إقامة نقاط مراقبة على الحدود الشمالية لسوريا، حيث أكد وزير الدفاع الأمريكي أن الهدف هو التأكد من أن قوات سوريا الديمقراطية لن تنسحب من المعركة ضد تنظيم “داعش”، لتمكين التحالف الدولي من سحق ما تبقى من التنظيم. كما أضاف أن مراكز المراقبة ستكون مواقع ظاهرة بوضوح ليلًا ونهارًا ليعرف الأتراك أين هي تحديدًا، لافتًا إلى أن هذا القرار تم اتخاذه بالتعاون الوثيق مع تركيا.
كما كشفت قوات سوريا الديمقراطية الكردية عن توقيع مذكرة تفاهم مع التحالف الدولي ضد “داعش”، تضمنت برنامج عمل لمدة سنة، واعتماد موازنة للعمل معًا لإنهاء “داعش” في جميع جيوبه، ومحاربة الخلايا النائمة للتنظيم من خلال تدريب 30 ألفًا من المقاتلين وعناصر الأمن، يضافون إلى 60 ألفًا موجودين حاليًّا، كما أن الاتفاق قابل للتمديد نهاية 2019.
وتأتي الجهود الأمريكية الحالية في شمال شرق سوريا ارتباطًا بالمسعى الأمريكي لتحقيق جملةٍ من الأهداف، والتي يتمثل أهمها في: وقف التوتر المتجدد من حين لآخر بين تركيا وأكراد سوريا، باعتبار أن ذلك يؤثر سلبًا على جهود القضاء على تنظيم “داعش”. بالإضافة إلى محاصرة النفوذ الإيراني وإخراج إيران من سوريا، حيث يمثل ذلك هدفًا رئيسيًّا تسعى إليه الإدارة الأمريكية ضمن المساعي الأمريكية لمواجهة تمدد النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.
ويُشار في هذا الإطار إلى وجود عسكري إيراني في غرب نهر الفرات في الميادين والبوكمال ودير الزور، وذلك في محاذاة خطوط انتشار حلفاء واشنطن، وأن الحرس الثوري الإيراني يدرب ويجند سوريين لتأسيس تنظيمات مسلحة، وأنه جرى نقل عناصر من ميليشيات غير سورية من مناطق أخرى إلى تخوم نهر الفرات.
وقد أبدى الجانب التركي انزعاجه الشديد من التحركات الأمريكية الأخيرة في الشمال السوري، خاصة رفض أنقرة تسيير دوريات أمريكية مع القوات الكردية، وهو ما دفع الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى التأكيد على أن الدوريات الأمريكية الكردية قرب الحدود مع بلاده غير مقبولة، وستتسبب في تطورات سلبية خطيرة على طول الحدود. بالإضافة إلى الانتقاد الشديد لإقامة نقاط المراقبة الأمريكية، حيث انتقد وزير الدفاع التركي ذلك، مؤكدًا أن هذه التدابير ستزيد من تعقيد الوضع، وأن بلاده لن تتردد في اتخاذ إجراءات لمواجهتها.
وفي التقدير أن الصحوة المفاجِئة لتنظيم “داعش” في شرق سوريا ترجع إلى عددٍ من العوامل، أهمها ما يلي:
– تحفّظ تركيا على تطور العلاقة بين الولايات المتحدة والأكراد السوريين، ورفضها إقامة منطقة حكم ذاتي كردي في شرق سوريا، وبالتالي تستثمر علاقاتها بتنظيم “داعش” في مواجهة القوات العسكرية الكردية.
– تؤكد مصادر متعددة أن تركيا سمحت لتنظيمات مرتبطة بـ”داعش” موجودة بإدلب بنقل بعض مجموعاتها إلى شرق سوريا مؤخرًا، وهو ما ساهم في تحقيق التنظيم انتصارات في مواجهة القوات الكردية.
– الموقف الأمريكي الذي يُثير الكثير من علامات الاستفهام، فقد رفضت الولايات المتحدة منذ البداية توطين قوات “داعش” التي تم إبعادها، ضمن اتفاقيات، من الحدود اللبنانية السورية وجنوب سوريا وغيرها إلى مدن شرق سوريا، وكذلك انتشارهم في بادية دير الزور. كما لم تشارك في أية عمليات مواجهة بين الجيش السوري والتنظيم في ريف السويداء رغم تأكيداتها محاربة التنظيم كهدف استراتيجي.
– أن العديد من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة لا تزال ترى أن من مصلحة واشنطن عدم الانسحاب من سوريا في الظروف الحالية، حيث لا يخدم ذلك الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة بصفة عامة، وفي إطار المواجهة مع كلٍّ من روسيا وإيران، وبالتالي فإن استمرار نشاط وتحرك تنظيم “داعش” يخدم هذا التوجه ويضغط على توجه الرئيس الأمريكي بضرورة الانسحاب من سوريا.
– من ناحيتها تستفيد إيران من الصحوة الراهنة لـ”داعش” في المحافظة، بجانب مكاسبها في سوريا والعراق. وقد تم ترجمة ذلك في مطالبة قوات الحشد الشعبي العراقي بضرورة توليها مهمة تأمين الحدود السورية العراقية في شرق سوريا تحقيقًا للمحافظة على مكاسب الحشد الشيعي المرتبط بإيران داخل إطار الحكم العراقي بعد تغيير الحكومة حفاظًا على النفوذ الإيراني هناك، ولتبرير الوجود العسكري الإيراني في سوريا في ظل المطالبة بخروجها من جانب العديد من الدول المعنية بالمنطقة.
هكذا نرى أن المصالح المتناقضة بين الدول الإقليمية والدولية في سوريا تدفع إلى توفير مناخ يسمح بصحوة لتنظيم “داعش” بغض النظر عن الآثار السلبية لذلك على استراتيجية مكافحة الإرهاب في المنطقة. وبالتالي، من المتوقع أن يستمر حراك تنظيم “داعش” في شرق سوريا لتحجيم امتداد القوات الكردية أو إقامة كيان كردي مستقل، ولتستمر مبررات الوجود الأمريكي في شرق سوريا، خاصة في ظل الإجراءات الأمريكية لوجودٍ طويل الأمد (إنشاء 10 قواعد عسكرية في تلك المنطقة)، وللحيلولة دون فرض هيمنة الحكومة السورية على أراضي الدولة، وحتى يتم وضع إطار للمرحلة الانتقالية.