ليس من الطبيعي الخروج عن الخط العام في التحليل الذي رأى أن رفض الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروعَ القرار الأمريكي لإدانة حركة “حماس” الذي تقدمت به الولايات المتحدة في السادس من ديسمبر (2018) يُعد انتصارًا للموقفين العربي والفلسطيني في مواجهة الموقف الأمريكي. وهذا حق مشروع لكل من تبنى هذا الاتجاه، خاصة وأن موقف واشنطن المتحيز بقوة لإسرائيل يُعد موقفًا مستفزًّا، بل ويزداد تحيزًا كلما تطورت الأحداث دون الاكتراث بأية مواقف أخرى سوى دعم تل أبيب.
وبالتوازي مع كل من يرحب ويؤيد هذا الانتصار، تتطلب الأمانة أن نحاول تحليل هذا الموضوع من وجهة نظر أخرى، لعلها قد تكون مفيدة، وذلك استنادًا إلى التعمق في نتائج التصويت على المشروع الأمريكي، والتطرق إلى مواقف بعض الدول قبل أو بعد عملية التصويت. واستنادًا كذلك إلى طبيعة التصويت في الجمعية العامة على كافة القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وفي هذا الشأن، أود التركيز على النقاط الست التالية:
– النقطة الأولى: أن مشروع القرار الأمريكي قد تم تقديمه للجمعية العامة، وليس إلى مجلس الأمن، وهو ما يُعد أمرًا مغايرًا؛ لأن الولايات المتحدة تركز في تحركاتها الدولية على مجلس الأمن الذي تتمتع فيه بحق الفيتو، وتكون قادرة تمامًا على دعم إسرائيل، أو تجنب إدانتها، أو فرض أية قرارات عليها.
– النقطة الثانية: أن المعارضين للمشروع الأمريكي قد تركز نجاحهم بشكل رئيسي في التصويت الذي جرى أولًا على اقتراح عربي بالأساس يقضي بضرورة حصول القرار، حتى يمكن تمريره، على أغلبية الثلثين، وليس على الأغلبية البسيطة التي كانت تستهدفها واشنطن. وقامت وجهة النظر العربية على أن هذا “المشروع” يُعتبر من المسائل المهمة التي تتطلب الحصول على أغلبية الثلثين طبقًا للقواعد الإجرائية التي تُنظم عمل الجمعية العامة.
– النقطة الثالثة: أن مفتاح رفض المشروع الأمريكي جاء نتيجة نجاح التصويت على اقتراح أغلبية الثلثين قبل التصويت على المشروع، حيث مر هذا الاقتراح بفارق ضئيل للغاية فقد أيدته 75 دولة، مقابل معارضة 72 دولة، وهو ما يعني أنه كانت هناك احتمالات كبيرة لتمرير المشروع الأمريكي بالأغلبية البسيطة لولا مواقف ثلاث دول فقط.
– النقطة الرابعة: رغم عدم حصول المشروع الأمريكي على أغلبية الثلثين، وبالتالي عدم تمريره؛ إلا أن المفاجأة التي يجب الوقوف عندها كثيرًا كانت في نسبة التصويت المؤيد للمشروع الأمريكي، حيث كانت كبيرة للغاية، ووصلت إلى 87 دولة، مقابل معارضة 57 دولة، وامتناع 33 دولة، وعدم تصويت 16 دولة. وهو ما يعني أن حوالي نصف الدول الأعضاء في الجمعية العامة، أو أقل قليلًا من ذلك، أكدوا إدانتهم لحركة “حماس”، وهو عدد كبير للغاية، يحدث لأول مرة بهذا الشكل الواضح والصريح. ولا يمكن لأي متابع لهذا الموضوع أن يتجاهل أو يقفز على هذه الملاحظة بسهولة، حيث يُعتبر نجاحًا للجهود الأمريكية في هذا المجال، وهي جهود لن تتوقف مستقبلًا.
– النقطة الخامسة: أن الولايات المتحدة كانت تستهدف اتخاذ الجمعية العامة قرارًا تاريخيًّا بتمرير مشروع إدانة حركة “حماس” في يوم السادس من ديسمبر (2018)، وهو ذات اليوم من العام الماضي (2017) الذي اتخذت فيه واشنطن قرارها التاريخي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
– النقطة السادسة: أن هناك دولًا مؤيدة تاريخيًّا للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وقد أعلنت بوضوح إدانتها لإطلاق حركة “حماس” صواريخها على إسرائيل، لكنها لم تستطع إلا أن تصوت ضد المشروع الأمريكي، نظرًا لحساسية موقفها، وهو الأمر الذي يمكن أن يتغير مستقبلًا.
وإذا كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تُعد تاريخيًّا الملاذ الآمن الذي يُطمئن الفلسطينيين على أن المجتمع الدولي لا يزال يتذكرهم، ويؤيدهم في قضيتهم العادلة، وهو ما تؤكده مئات القرارات التي تبنتها الجمعية العامة لصالح فلسطين على مدار عقود مضت؛ إلا أن الأمر هذه المرة يُعد مختلفًا، حيث إن واشنطن لم تعد تتجاهل أو تغض النظر عن أنشطة الجمعية العامة المؤيدة بصورة تلقائية للقضية الفلسطينية، وإدانة إسرائيل. بل قررت الخوض بصورة قوية في جوهر هذه الأنشطة، والسعي لتعديلها لصالح إسرائيل، وكادت أن تحقق أهدافها في تمرير القرار. ومع فشلها في تمريره، إلا أنها نجحت في إظهار النسبة العالية للغاية وغير المسبوقة من دول العالم التي تدين بوضوح حركة “حماس”.
وفي رأيي فإن هذا التحرك الأمريكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة يُعد مجرد بداية لن تتوانى الولايات المتحدة عن استكمالها في أقرب فرصة، حتى تنجح في ألا تكون المنظمة الأممية، لا سيما الجمعية العامة، مجرد منصة لإدانة إسرائيل وتأييد الفلسطينيين. وهو ما نتوقع معه مواصلة واشنطن جهودها في هذا الشأن، خاصة وأنها يمكن أن تنجح فيه إذا مارست بعض الضغوط على الدول التي امتنعت أو غابت عن التصويت. وبالتالي تستطيع أن تدفع بالجمعية العامة إلى إحداث تغيير حقيقي وعكسي في مواقفها المؤيدة أوتوماتيكيًّا للفلسطينيين. وهو ما قد نراه خلال فترة ليست بعيدة، ولن يكون بالتأكيد في صالح العرب والفلسطينيين.
نأتي للموقف الفلسطيني إزاء هذا القرار، والنتائج المترتبة عليه، حيث من الواضح أن السلطة الفلسطينية، بمساعدة عربية وأوروبية؛ قد نجحت في أن تؤكد أنها المدافع الأول عن الحق الفلسطيني أيًّا كان بغض النظر عن موقفها من حركة “حماس”، حيث لا يمكن للسلطة أن تتخذ أية مواقف تدين المقاومة الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وموقف حكومة “نتنياهو” التي أسقطت أجندة السلام من اهتماماتها، وتواصل اعتداءاتها على غزة.
وفي هذا الشأن، من المهم أن نُشير إلى أن أيرلندا قد تقدمت بمشروع قرار مضاد للمشروع الأمريكي يطالب بتطبيق مقررات الشرعية الدولية، وانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967. وتم طرح المشروع بالتوازي مع المشروع الأمريكي، وتم تمريره بأغلبية ساحقة تعدت الثلثين (156 دولة مؤيدة في مقابل معارضة 6 دول، وامتناع 12 دولة عن التصويت)، وهو ما يؤكد أن معظم دول العالم لا تزال مؤيدة تمامًا للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وحقه في إقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967.
وإذا كانت حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وكافة الفصائل الفلسطينية قد أصدرت بيانات ترحيب بنتائج التصويت على المشروع الأمريكي؛ إلا أن المطلوب من هذه الفصائل ألا تعتبر ذلك انتصارًا حقيقيًّا متكاملًا، وعليها أن تتخذ موقفًا يتعدى حدود هذا الترحيب إلى مساحة أكثر فعالية، تتخذ فيها قرارات مصيرية استثمارًا للحالة الإيجابية التي أوجدها مناخ ما بعد الهزيمة النسبية لتمرير المشروع الأمريكي، لا سيما في مسألة المصالحة الفلسطينية. وبالتالي لم يعد هناك مجال أمام حركة “حماس” إلا أن تتجاوب مع أهم مطلب لإنجاز المصالحة، والذي يتمثل في إتاحة المجال أمام الحكومة الفلسطينية للعودة إلى قطاع غزة، والسيطرة بصورة تامة على كافة الأمور ومناحي الحياة في القطاع، وإعطاء فرصة حقيقية أمام نجاح هذا التحرك على الأرض.
ولا شك في أن الموقف الإيجابي للسلطة الفلسطينية في مواجهة المشروع الأمريكي أمر يجب ألا تتجاهله حركة “حماس”، بل عليها أن تستثمره سريعًا من أجل الصالح العام، وهي فرصة جيدة قد لا تتكرر خلال المرحلة الصعبة القادمة التي قد تشهد عمليات عسكرية إسرائيلية على قطاع غزة، واحتمالات طرح ما يُسمى بـ”صفقة القرن”.
وأود أن أضيف هنا أننا لا نتحدث حاليًّا عن عملية سلام وشيكة سوف تتطلب جهدًا عربيًّا شاقًّا، ولكننا نتحدث عن أهم أركان نجاح أي تحرك فلسطيني مستقبلًا، وأعني بذلك في الأساس إعادة ترتيب البيت الفلسطيني كي يكون قادرًا على مواجهة تحديات غير مسبوقة.