ارتبطت الاحتجاجات الفرنسية بألوان محددة منذ رُفعت “القبعات الحمراء” اعتراضًا على السياسات المالية للملك “لويس الرابع عشر” في عام 1675. وظهرت “القبعات الحمراء” مجددًا كرمز للاحتجاج على سياسات الرئيس “فرانسوا هولاند” في عام 2013، خاصة قرارات الضرائب على النقل البري، وتسريح العمالة، ما أدى إلى خروج المعلمين والعمال في قطاعات الصناعة والأغذية والمهن الحرفية والقابلات في تظاهرات تخللتها أعمال عنف متجددة كل يوم سبت. وعلى إثر هذه الاحتجاجات، اضطرت الحكومة إلى تجميد تطبيق هذه القرارات. لكن هذا التجميد لم يُحدِث تأثيره المتوقع في أوساط المحتجين، فاستمرت الاحتجاجات وضربت بشعبية الرئيس “هولاند”. وفي ترقب مقترن بحذر حكومي بالغ، وآمال كبيرة لدى المحتجين، دخلت فرنسا في السبت الرابع لموجة التظاهرات الجارية التي اندلعت في أكتوبر الماضي (2018) عقب إعلان الحكومة الفرنسية بدء تفعيل سياسات ضريبية جديدة على المحروقات، وتأثيرها الملحوظ على الديزل، وهو أكثر المحروقات استخدامًا في الحياة اليومية الفرنسية، مما مهّد لموجة من ارتفاع الأسعار.
أربع جولات احتجاج حتى الآن
في ظل أعباء متراكمة على الفرنسيين، وعدم شعورهم بعدالة توزيع هذه الأعباء على طبقات المجتمع الفرنسي، وبتتبع مسار تطور الاحتجاجات وتعاطي الحكومة مع مطالب “السترات الصُفر” في فرنسا؛ يمكن الإشارة إلى أنه في الجولات الثلاث الماضية: السبت 17 نوفمبر، 24 نوفمبر، 1 ديسمبر، شهدت فرنسا حالة من التعامل الحكومي غير المبادر بالحل، والمعتمد على سياسة رد الفعل بالأساس.
فقد شهدت الجولة الأولى (السبت 17 نوفمبر)، ذروة الحشد المحتج على
السياسات الاقتصادية الحكومية في شوارع فرنسا، فوفقًا لبيانات الشرطة الفرنسية بلغ عدد المحتجين قرابة 288 ألف في أنحاء فرنسا، شهدت وقوع قتيلين و606 مصابين، وفقًا لبيان الداخلية الفرنسية. لكن الحكومة اكتفت، على المستوى السياسي، بالتنديد بالاحتجاجات، وإدارة حملة تعريفية بالسياسات الجديدة وأهدافها. وعلى المستوى الأمني، قامت الحكومة بالتصدي للتظاهرات المتجهة للمقر الرئاسي، واعتقال ما لا يقل عن 157 شخصًا.
في الجولة الثانية (السبت 24 نوفمبر)، أعلنت بلدية باريس أن نحو ثلاثة آلاف شرطي سيتم حشدهم للتعامل مع التظاهرات عقب “فشل” أول لقاء لهم مع وزير البيئة. وفي أعقاب التظاهرات أعلن “ماكرون” عن حوار مجتمعي شامل لتوضيح أهمية الانتقال البيئي، معربًا عن تفهمه “حالة الغضب” لدى الفرنسيين، ومشددًا -في الوقت ذاته- على أنه “لن يتنازل في مواجهة الذين يهدفون للتخريب”.
أما الجولة الثالثة (السبت 1 ديسمبر) فقد شهدت انخفاض أعداد المتظاهرين، لكنها اقترنت بمستوى أعلى من العنف، شمل حرق سيارات، وتدمير ممتلكات، وحرق مبنى إحدى البلديات، واعتلاء المحتجين “قوس النصر”. كما شهدت درجة من تفاعل الحكومة مع المحتجين، حيث قام “ماكرون” عقب عودته من قمة العشرين بالأرجنتين بالاجتماع بالحكومة. تلا ذلك دعوة رئيس الوزراء ممثلي “السترات الصُفر” للحوار. وأعلنت الحكومة في بيان تالٍ تأجيل تطبيق الضرائب على المحروقات مدة 6 أشهر، وتأجيل الضرائب المتعلقة بالغاز والكهرباء مدة ثلاثة أشهر خلال فصل الشتاء، وهو ما لم ينلْ قبول المحتجين الذين تمسكوا بإلغاء الضريبة بشكل كامل. وتزامنت هذه الجولة مع إعلان مسئولين أنهم يتوقعون انتشار نحو خمسة آلاف من أفراد الشرطة في باريس، ونشر خمسة آلاف شرطي آخرين في أنحاد البلاد. وذكرت الشرطة الفرنسية أن ما لا يقل عن 65 مصابًا، بينهم 11 شرطيًّا، جُرحوا في الاشتباكات العنيفة بالعاصمة باريس، كما اعتُقل 140 آخرين.
وقبل بدء الجولة الرابعة (السبت 8 ديسمبر) قامت الحكومة الفرنسية بنشر 89 ألف رجل أمن، ونشر مدرعات بهدف السيطرة على التظاهرات المرتقبة. وأعلنت السلطات الفرنسية التعبئة العامة، وأنها ستتعامل بحزم مع أي محاولات للعنف أو إتلاف الممتلكات. ووفقًا لبيانات الشرطة تم اعتقال أكثر من 1700 متظاهر من أصل 125 ألفًا، بينما التزم الرئيس “ماكرون” الصمت خلال الأسبوع السابق على بدء هذه الجولة، واكتفى بعدة أنشطة شملت زيارة المناطق التي شهدت أعمال عنف، وعقد لقاءات مع ضباط مكافحة الشغب. وفي السياق ذاته، أعلن رئيس الوزراء أن “الرئيس سيتحدث، وسيقترح إجراءات لإثراء الحوار ستساهم في توحيد الأمة الفرنسية، وجعلها على قدر المخاطر التي تواجهها والتي ستواجهها خلال السنوات القادمة”، وأشاد بدور رجال الأمن في مواجهة محاولات الشغب.
استمرار التظاهرات.. دلالات ودوافع
قررت الحكومة الفرنسية تجميد القرارات الخاصة بضرائب المحروقات، لكن لا تزال الاحتجاجات مستمرة، وهو ما يثير تساؤلات عدة حول أسباب استمرار التظاهرات حتى الآن رغم ما يبدو من تحقيق بعض مطالبها الأولية.
واقع الأمر، هناك عوامل كثيرة يمكن الاعتماد عليها في تفسير استمرار هذه الاحتجاجات حتى الآن. يتعلق أولها بما يمكن وصفه بالأيدي المرتعشة للحكومة في تعاملها مع الاحتجاجات؛ فتجاهل الحكومة لهذه الاحتجاجات في المراحل الأولى، وإنكارها أحقية المتظاهرين في المطالب التي نادوا بها، ثم تراجع الحكومة أمام هذه الاحتجاجات لاحقًا، وتضارب البيانات الحكومية بين الدعوة تارة للتعامل بحزم، والدعوة تارة أخرى للحوار، بجانب اختفاء الموقف الرسمي للرئيس “ماكرون” لمدة طويلة نسبيًّا، كل ذلك أدى إلى ارتفاع سقف مطالب المحتجين، وصولًا إلى المطالبة باستقالة الرئيس “ماكرون” نفسه خلال الجولة الثالثة من الاحتجاجات، ومن ثم فشل الحوار بين المحتجين والحكومة.
العامل الثاني، يتعلق باقتصار السياسة الحكومية على “سياسة رد الفعل”، وغياب سياسة حكومية مُبادِرة للتعامل مع هذه الاحتجاجات ومع مطالب المحتجين في مراحلها الأولى. على سبيل المثال، فإن غياب الدعوة إلى الدخول في حوار جاد مع المحتجين في المراحل الأولى من الاحتجاجات دفع بهم ليس فقط إلى الاستمرار في الاحتجاجات، لكن التحول أيضًا إلى التصعيد، سواء فيما يتعلق بالمطالب أو حجم العنف المستخدم.
العامل الثالث، يتعلق بطبيعة التعامل الأمني مع الاحتجاجات؛ فقد أدى رفع درجات الاستعداد الأمني، ثم زيادة حجم القوات الشرطة المخصصة للتعامل مع هذه الاحتجاجات، إلى توليد عنف مضاد من جانب المحتجين. كما أوصل رسالة بأن الحكومة لديها تقديرات بزيادة حجم المتظاهرين، وذلك على عكس ما أعلنته البيانات الحكومية التي أشارت إلى انخفاض حجم التظاهرات، وأن الأزمة في طريقها إلى الحل، وهو ما دفع المتظاهرين إلى استمرار الاحتجاجات، خاصة في ظل تسريب بعض التسجيلات حول اعتقال طلاب مدارس والاعتداء على المحتجين قبل اعتقالهم في ميادين التظاهر.
العامل الرابع، يتعلق بالمخاوف القائمة لدى كلٍّ من الحكومة ومتظاهري السترات الصفراء؛ فالحكومة الفرنسية تتخوف من أن يؤدي تراجعها كليًّا عن سياساتها إلى توليد المزيد من الحركات المطلبية، خاصة في ظل السياسات الاقتصادية المخططة في إطار التزام الحكومة باتفاقية المناخ. على الجانب الآخر، هناك تخوف سائد لدى المحتجين حال إنهاء التظاهرات بأن تتراجع قدرة المحتجين على الحشد والتعبئة مجددًا حال انتهاء فترة التجميد التي أعلنتها الحكومة وشروعها في تطبيق نفس السياسات الاقتصادية من جديد.
خيارات محدودة
استنادًا إلى القراءة السابقة لتتابع الاحتجاجات، وطريقة تعامل الحكومة الفرنسية معها، يمكن القول إنه في ظل عدم اتخاذ حكومة “ماكرون” قرارات جوهرية بشأن السياسات الاقتصادية والمالية التي وقفت وراء اندلاع هذه الاحتجاجات، وبشكل يضمن توصيل رسالة واضحة بانحياز الحكومة إلى تحقيق نوعٍ من العدالة الاجتماعية، وفي ظل تمسك حكومة “ماكرون” بسياسات الإصلاح الاقتصادي، وتمسك المحتجين بمطالبهم وفشل دعوات الحوار، وزيادة وتيرة اعتقالات وحبس عناصر من المحتجين؛ فإن الباب يظل مفتوحًا أمام خيارات محدودة أمام “ماكرون”، نوجزها فيما يلي:
1- تراجع حكومي كامل: بمعنى التحول من القرار الحالي بتجميد الضرائب إلى إلغائها، كجزء من إقدام “ماكرون” على مراجعة شاملة لسياساته الاقتصادية والمالية، وإعادة النظر في الضرائب المقررة على الدخل والسلع الاستهلاكية. ويستند هذا السيناريو إلى عددٍ من المؤشرات، منها ما تردد حول نية “ماكرون” مخاطبة الشعب الفرنسي، واتخاذه إجراءات لإعادة اللحمة الوطنية، وما تم نقله عن لقاء “ماكرون” برؤساء البلديات، وإقراره بأن الشعب تحمل ضرائب كثيرة، وأنه قد تم تمرير قرارات وقوانين ليست ضرورية، وما نقلته الصحف الفرنسية عن جولة لماكرون خلال الأيام القادمة للبلديات والمدن الفرنسية، والحوار مع مسئوليها، والوقوف على مطالبهم ومشاكلهم، بهدف استعادة ثقة الشارع الفرنسي.
2- اللجوء إلى المناورة السياسية: بمعنى أن يلجأ “ماكرون” إلى استمالة المحتجين من خلال مجموعة من القرارات التي لا تتعلق بمطالبهم الجوهرية، وإدارة حوار مجتمعي يهدف لتفريغ الغضب الشعبي والاحتجاجات من مضمونها، وضمان مهلة جديدة لترتيب الأوراق وفرض النظام. لكن هذا السيناريو قد يؤدي إلى استمرار الاحتجاجات وزيادة مستوى العنف المستخدم. فمع استمرار التعامل الأمني مع الاحتجاجات، سيزداد معدل العنف الذي سيتخللها، وسيستمر التصعيد وارتفاع سقف المطالب، وحجم المشاركة، وتمسك المحتجين بآخر ما وصلوا إليه من مطالب وهو استقالة “ماكرون”.
3- إقالة رئيس الوزراء: وهو سيناريو قائم إذا لم تتمكن الحكومة من التوصل إلى حل مع المحتجين وإنهاء الأزمة الراهنة. ففي ظل انخفاض شعبية “ماكرون” إلى أقل من 25% قد يجد نفسه أمام خيار لا بديل عنه وهو إقالة رئيس الوزراء “إدوارد فيليب”، والتضحية به أملًا في أن تؤدي تلك الخطوة إلى تهدئة الشارع الفرنسي، وامتصاص حدة الاحتجاجات في ظل تنامي الأزمة، وعدم جدوى التعامل الحكومي، ومطالبة المحتجين برحيل “ماكرون”. ومن المؤشرات المهمة على هذا السيناريو حرص “ماكرون” على وضع رئيس الحكومة في المواجهة بحيث يبدو وكأنه هو المسئول الأول عن إدارة الاحتجاجات والمطالب الشعبية، وربما المسئول عن الأزمة.