أنهى الديمقراطيون في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، التي أُجريت في السادس من نوفمبر (٢٠١٨)، سيطرة الجمهوريين على السلطتين التنفيذية والتشريعية، بفوزهم بالأغلبية في مجلس النواب، فيما عزز الجمهوريون من سيطرتهم على مجلس الشيوخ. وستكون لنتائج هذه الانتخابات تأثيرات على السياسة الخارجية لإدارة الرئيس “دونالد ترامب” تجاه العديد من قضايا منطقة الشرق الأوسط، لا سيما المملكة العربية السعودية، إذ تنتاب المشرّعين الأمريكيين من الحزبين حالةٌ من الاستياء تجاه سياسات الرياض بسبب الحرب الجارية في اليمن، التي تسببت في أسوأ أزمة إنسانية وفقًا لتقديرات منظمة الأمم المتحدة، وحصار قطر التي تضم قاعدة عسكرية أمريكية، والتي تعد من أبرز حلفاء الولايات المتحدة الاستراتيجيين في المنطقة، فضلًا عن قضايا أخرى. وجاءت قضية مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” في قنصلية بلاده بإسطنبول في الثاني من أكتوبر (٢٠١٨) لتزيد من غضب الجمهوريين والديمقراطيين تجاه المملكة.
واشتد الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية حول مستقبل العلاقات الأمريكية-السعودية مؤخرًا، في ضوء الخلاف بين المؤسسات الأمريكية حول من وقف وراء اغتيال “جمال خاشقجي”. ويتركز الخلاف بين البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع من ناحية، ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) وعدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي من ناحية أخرى. فبينما يدافع الرئيس الأمريكي عن أهمية الرياض كحليف رئيسي للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، ودورها المحوري في مواجهة الدور الإيراني المزعزع للاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط، ودورها في ضبط أسعار النفط العالمية؛ يدعو أنصار الطرف الآخر إلى إعادة النظر في العلاقة مع المملكة، ويدعو البعض إلى فرض عقوبات عليها.
ضغوط المشرّعين
أثار بيان الرئيس “دونالد ترامب” في ٢٠ نوفمبر (٢٠١٨) حول الموقف من المملكة العربية السعودية، والذي أكد فيه دعمه للمملكة، وولي العهد، ورفضه مطالب المشرعين الأمريكيين بحجب مبيعات أسلحة أمريكية للرياض، خوفًا من فقدان كثير من الأمريكيين وظائفهم، وتوجه السعودية إلى منافسي الولايات المتحدة (الصين وروسيا) لعقد صفقات تسلح؛ أثار غضب المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء لتضحيته -كما يرون- بالقيم والمبادئ الأمريكية.
وردًّا على هذا البيان، قال السيناتور الجمهوري “راند بول”، على سبيل المثال، إن “ترامب” يروج لسياسة “السعودية أولًا” بدلًا من “أمريكا أولًا”. ولهذا، دعا أعضاء الكونجرس من الحزبين لاتخاذ إجراءات فاعلة رَفَضَ الرئيس الأمريكي اتخاذها لإرسال رسالة إلى الرياض مفادها أن الولايات المتحدة لن تتهاون مع أي سلوك يتعارض مع القيم والمبادئ الأمريكية، والمعايير الدولية، وأنها ستظل “منارة” للعدالة ومدافعة عن حقوق الإنسان رغم سياسات الرئيس الحالي.
خيارات الكونجرس
يضغط عددٌ من أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي بمجلسي الكونجرس (مجلس النواب والشيوخ) على الرئيس “ترامب” لإعادة صياغة أسس العلاقات الأمريكية-السعودية، انطلاقًا من السلطات الدستورية التي تمتلكها المؤسسة التشريعية. وتتمثل أهم خياراتها في الضغط على المؤسسة التشريعية تجاه المملكة فيما يلي:
1- وقف الدعم الأمريكي لقوات التحالف العربي بقيادة السعودية في حربها باليمن:
إذ يملك الكونجرس، استنادًا لقانون سلطات الحرب لعام ١٩٧٣، أن يطالب بسحب الدعم العسكري الأمريكي من أي مهمة عسكرية خارجية لم يصرح بها الكونجرس. ويرى المشرعون أن هذا القانون ينطبق على الحرب السعودية في اليمن، حيث تشارك الولايات المتحدة في تلك الحرب بالدعم الذي تقدمه لقوات التحالف العربي، وتزويدها الرياض بالأسلحة التي تستخدمها في تلك الحرب. بالإضافة إلى الدعم اللوجستي والفني الذي تقدمه القوات الأمريكية للقوات السعودية. لكن مسئولي وزارة الدفاع (البنتاجون) ووزير الخارجية لا يرون أن الدعم الأمريكي لقوات التحالف العربي في الحرب الأهلية اليمنية يقع ضمن اختصاص قانون سلطات الحرب.
ورغم إعلان البنتاجون، في ١٠ نوفمبر ٢٠١٨، أن القوات الأمريكية لم تعد تقدم الوقود لطائرات التحالف، فإن المشرعين يرغبون في إنهاء كافة أنواع الدعم الأمريكي، بما في ذلك مبيعات الأسلحة. ولهذا، وافق مجلس الشيوخ في ٢٨ نوفمبر بأغلبية ٦٣ صوتًا مقابل ٣٧ على مناقشة مشروع القانون الذي قدمه السيناتور “بيري ساندرز”، ويدعمه عدد من الأعضاء الجمهوريين بالمجلس، الذي يُطالب الرئيس بإنهاء الدعم الأمريكي لقوات التحالف العربي في حربها في اليمن.
وجدير بالذكر، أن هذا المشروع كان قد فشل تمريره في مارس الماضي ٢٠١٨، حيث صوت ضده ٥٥ سيناتورًا مقابل ٤٤، ما يكشف عن حجم التحول في مواقف أعضاء الكونجرس من الحزبين تجاه المملكة. وفي حال تمرير هذا المشروع من مجلس الشيوخ، فإنه يُتوقع أن يتم تمريره بمجلس النواب مع تولّي الديمقراطيين السيطرة عليه في بداية العام القادم ٢٠١٩.
2- تجميد صفقات الأسلحة الأمريكية للسعودية:
تملك المؤسسة التشريعية سلطة الموافقة على صفقات الأسلحة للدول الأجنبية، ووقفها أو تعليقها إذا كان لدى أعضائها مخاوف من أن هذه الأسلحة سيتم استخدامها ضد المدنيين. واتساقًا مع رفض بعض المشرعين للحرب السعودية في اليمن، والضغط على المملكة لإنهاء هذه الحرب، قدم جمهوريون وديمقراطيون مشاريع قوانين لتجميد صادرات الأسلحة الأمريكية للرياض من ضمنها ذخائر وصواريخ تستخدمها قوات التحالف في الحرب، ووقف صفقة منظومة “ثاد” (نظام الدفاع الصاروخي) التي تبلغ قيمتها ١٥ مليار دولار رغم إعلان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية في ٢٨ نوفمبر ٢٠١٨ أن مسئولين سعوديين وأمريكيين وقّعوا خطابات العرض والقبول لشراء المملكة نظامًا للدفاع الصاروخي من صنع شركة لوكهيد مارتن. هذا النظام يعد الجزء الرئيسي من صفقة الأسلحة التي تصل إلى ١١٠ ملايين دولار تم الإعلان عنها خلال زيارة “ترامب” للمملكة في مايو ٢٠١٧.
3- إجراء تحقيق فيدرالي حول مسئولية مسئولين سعوديين عن مقتل “خاشقجي”:
استنادًا إلى قانون “ماجنيتسكي” لعام ٢٠١٢، يطالب بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي إجراء تحقيق فيدرالي حول تورط مسئولين سعوديين في مقتل “خاشقجي”. فعقب بيان الرئيس “ترامب” الذي دافع فيه عن السعودية، دعا رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، السيناتور الجمهوري “بوب كروكر”، والديمقراطي “بوب مينينديز”، الإدارةَ الأمريكية للمرة الثانية إلى إجراء تحقيق فيدرالي حول مقتل “خاشقجي”. وفي حال أثبتت التحقيقات تورط مسئولين سعوديين، فسيكون من السهل بالنسبة لهذا الجناح داخل الكونجرس مطالبة الإدارة الأمريكية، استنادًا لقانون “ماجنيتسكي”، بفرض عقوبات عليهم بغض النظر عن مناصبهم. ومن بين هذه العقوبات تقييد سفرهم إلى الولايات المتحدة، وتجميد أصولهم بواشنطن، وتصنيفهم على أنهم إرهابيون.
لكن الإدارة الأمريكية قد لا تفرض عقوبات على المسئولين السعوديين في حال إثبات تورطهم في عملية قتل “خاشقجي”. وفي هذه الحالة سيكون أمام الكونجرس إصدار تشريع يتضمن فرض عقوبات على هؤلاء المسئولين. وسيكون هذا التشريع في حال تمريره وتجاوزه فيتو الرئيس إذا استخدمه، ملزمًا لمسئولي الإدارة الأمريكية.
4- تمرير مشاريع قوانين لمساءلة السعودية:
مع تزايد حالة الغضب بين المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين من السياسات السعودية، تم تقديم العديد من مشاريع القوانين داخل مجلسي الكونجرس لمعاقبة الرياض، ومحاسبتها على سياساتها الإقليمية. ومن أهم هذه المشاريع التي قُدمت مؤخرًا مشروع قانون “محاسبة السعودية واليمن لعام ٢٠١٨” الذي قدمه السيناتور “ليندسي جراهام”، وهو أحد أبرز الجمهوريين المؤيدين للرئيس الأمريكي، مع اثنين من الأعضاء الديمقراطيين البارزين بلجنة العلاقات الخارجية والخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ “بوب مينينديز” و”جاك ريد” في ١٥ نوفمبر الماضي (٢٠١٨).
ومن شأن هذا المشروع في حال تمريره تعليق مبيعات الأسلحة الأمريكية للسعودية، ومنع الطائرات الأمريكية من تزويد طائرات التحالف العربي التي تشن ضربات عسكرية ضد الحوثيين في اليمن، وفرض عقوبات على كل منْ يعوق تدفق السلع والخدمات الإنسانية لليمن، أو يعمل على تقويض استقرارها. كما يدعو مشروع القانون إلى فرض عقوبات على أي فرد يثبت تورطه في مقتل “خاشقجي”. ويوفر دعم “جراهام” لمشروع القانون فرصة أكبر لتمريره.
5- وقف المحادثات النووية الأمريكية-السعودية:
يطالب عدد من أعضاء الكونجرس بإنهاء المحادثات النووية مع الرياض حول الاتفاق الذي من شأنه السماح لها بتطوير برنامج نووي مدني باستخدام التكنولوجيا الأمريكية. وهددوا بأنهم سيتقدمون بتشريع لحجب الاتفاق في حالة مواصلة “ترامب” للمحادثات مع السعودية وإبرام الاتفاق. وقد كان الكونجرس على استعداد للموافقة على الاتفاق طالما التزمت المملكة بما يسمى “المعيار الذهبي”، والذي من شأنه أن يحظر عليها القيام ببعض الأنشطة، مثل معالجة أو تخصيب اليورانيوم، والتي يمكن استخدامها في برنامج للأسلحة النووية.
6- عقد جلسات استماع حول العلاقات الأمريكية-السعودية:
يملك مجلسا الكونجرس سلطة الرقابة على السلطة التنفيذية من خلال استدعاء المسئولين التنفيذين للشهادة أمام لجانهما المختصة بقضايا العلاقات الدولية، والدفاع، والاستخبارات. ولوقوف مجلس الشيوخ على السياسة الأمريكية تجاه السعودية بعد مقتل “خاشقجي”، ومعرفة الكثير من المعلومات التي يمتلكها مسئولو الإدارة حول القضية، تم استدعاء وزيري الخارجية والدفاع في ٢٨ نوفمبر لشهادة مغلقة أمام أعضاء بالمجلس حول العلاقات بين البلدين.
ومع استياء أعضاء مجلس الشيوخ لعدم حضور مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جلسةَ الاستماع لمعرفة تفاصيل تقرير الوكالة حول الموضوع، قدمت “جينا هاسبل” شهادتها في ٣ ديسمبر في جلسة مغلقة أمام مجموعة من أعضاء المجلس. وقد ثار عقب الجلسة جدل حول مقتل “خاشقجي”.
ومن المتوقع أن يُجري مجلس النواب بعد تولي الديمقراطيين قيادته أوائل عام ٢٠١٩ تحقيقًا حول قضايا أخرى، خاصة في ضوء ما عبر عنه بعض المشرعين من وجود “تضارب مصالح” محتمل بين “ترامب” وشركاته، والعلاقة مع المملكة.
حدود التأثير
رغم اهتمام الديمقراطيين بقضايا السياسة الخارجية، وانتقاد سياسات الرئيس الأمريكي تجاه حلفاء وخصوم الولايات المتحدة، فإن قدرتهم على إحداث تحولات جذرية في توجهات السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية عامة، وتجاه المملكة العربية السعودية خاصة، تظل ضعيفة؛ لأن الرئيس هو من له السلطة العليا في قضايا السياسة الخارجية الأمريكية، والتي سيزيد تركيزه عليها في حال اصطدامه مع الديمقراطيين حول قضايا داخلية، مثل: قضايا الهجرة، والرعاية الصحية، والضرائب.
بيد أن المؤسسة التشريعية لديها سلطة ممارسة دور تشريعي ورقابي على سياسات الرئيس تجاه القضايا الدولية، ووضع العديد من الكوابح أمام صلاحياته في قضايا السياسة الخارجية. ولهذا سيتمكن الكونجرس، لا سيما مع وجود أغلبية ديمقراطية داخل مجلس النواب، واتفاق الحزبين على معارضة توجهات الإدارة الأمريكية تجاه السعودية بعد مقتل “خاشقجي”؛ من التأثير على سياسات الإدارة تجاه الرياض من خلال ثلاث أدوات رئيسية. أولها التحقيق حول العلاقات المالية بين “ترامب” ومسئولين سعوديين. وثانيها التشريع بفرض عقوبات على المملكة، إذا رفضت الإدارة فرض تلك العقوبات. وثالثها ممارسة الدور الرقابي على سياسات “ترامب” تجاه السعودية.
نجاح الديمقراطيين في إحداث تحول في العلاقات الأمريكية-السعودية يتطلب العمل مع نظرائهم الجمهوريين الرافضين لتوجهات وسياسات “ترامب” تجاه المملكة. لكن استمرار سيطرة الحزب الجمهوري على مجلس الشيوخ، والتغييرات في لجان المجلس الرئيسية المؤثرة في الرقابة على السياسة الخارجية بتولي بعض القيادات الجمهورية الموالية للرئيس “ترامب”، يسمح له بهامش كبير من المناورة، والحد من تأثيرات أغلبية الديمقراطيين في مجلس النواب على توجهات الإدارة الأمريكية خارجيًّا، وتجاه الرياض على وجه الخصوص.