تشهد فرنسا أكبر تظاهرات منذ احتجاجات الطلاب في مايو 1968. وجاء اندلاع موجة الاحتجاجات الراهنة تحت عنوان مطالب اقتصادية، تركزت في رفض زيادة الضرائب على الوقود، عن طريق استخدام تكتيك فرنسي كلاسيكي شمل عرقلة الطرق بهدف إجبار الحكومة على الاستماع إلى مطالب المحتجين، مثلما فعل المزارعون وسائقو الشاحنات وآخرون في الماضي. ولقيت التظاهرات تأييدًا شعبيًّا ضخمًا انتشر بصورة غير مسبوقة، مثل تحديًا كبيرًا لنظام “ماكرون”. كما انتقلت فكرتها إلى دول أوروبية أخرى، نتج عنها تظاهرات مماثلة في كل من بلجيكا وإيطاليا وهولندا، مع اختلاف حجمها ونطاقها.
ومع أهمية المداخل الاقتصادية لفهم هذه الاحتجاجات وظاهرة “السترات الصفراء”؛ إلا أنها لا تمثل أسبابًا أو مداخل كافية لفهم هذه الظاهرة وتداعياتها المستقبلية.
الحنين إلى الماضي
إن قراءة للتاريخ الفرنسي تشير إلى انتشار ظاهرة الاحتجاجات عبر هذا التاريخ، بحيث أضحت على ما يبدو جزءًا من تاريخ المجتمع الفرنسي، فقد احتج في الماضي سائقو الشاحنات، والمزارعون، والحركات الاجتماعية، على نطاق واسع في مراحل سابقة. وبجانب تظاهرات الطلاب في عام 1968، لم يخلُ العقدان الأخيران من العديد من التظاهرات والاحتجاجات. ورغم مرور أكثر من قرنين وربع القرن على الثورة الفرنسية عام 1789، إلا أن موقعها في تاريخ الثورات العالمية يخلق نوعًا من “حنين” المجتمع الفرنسي إلى هذا التاريخ، خاصة على خلفية ما تبع الثورة الفرنسية من تغييرات وتأثيرات عميقة على القارة الأوروبية، بدءًا من فرز التيارات والقوى السياسية والفكرية، ونشر مفاهيم الحرية والديمقراطية في أرجاء القارة. هذا الموقع الذي احتلته الثورة الفرنسية، وما أضفته من مكانة على خبرة فرنسا، وحجم المساهمة الفرنسية في تشكيل القيم الأوروبية؛ خلق نوعًا من الحنين إلى هذه المرحلة ولهذا الدور بهدف استرجاع مجد الماضي. وهذا “الحنين” عبّرت عنه العديد من اللافتات التي رُفعت أثناء موجة الاحتجاجات الأخيرة، فضلا عن صور العلم الفرنسي مكتوبًا عليها تواريخ محددة. أما اللجوء للعنف فقد جاء بغرض استفزاز الدولة للاعتراف بالمطالب.
الشعور الموحد للسترات الصفراء يكمن في الفكرة المتأصلة للعدالة في العقلية الفرنسية، خاصة في ظل وجود تفاوتات كبيرة في الدخل، وعالم تُحقق فيه الشركات أرباحًا هائلة، فصورة التظاهرات ومن خلفها ماركات عالمية مثل Cartier & Mont Blanc ليست إلا تعبيرًا عن رفض لهذا التفاوت، ورغبة في الكشف عنه بقوة.
انحسار الأيديولوجيا
اندلعت الاحتجاجات في فرنسا بعد قرار زيادة الضرائب على المحروقات؛ وهي بداية اقتصادية تخلو من إشارة إلى تطلعات أو مضمون سياسي. وفي الاتجاه ذاته، افتقدت الاحتجاجات وقوفَ حزب سياسي محدد وراءها، أو استنادها إلى هيكل تنظيمي أو حتى قيادة مركزية. واعتمد الحشد على توظيف وسائل التواصل الاجتماعي، بصورة تلقائية. لكن في الحقيقة فإن غياب السياسة ليس حقيقيًّا، فقد تزامنت تلك الاحتجاجات في السياق العام الأوروبي مع ميل تصويت الناخبين لتيارات اليمين المتطرف وصعود النزعة القومية، بالإضافة إلى حالة الاستياء والغضب لدى الشعوب الأوروبية نتيجة انسحاب دور الدولة وتراجع دولة الرفاه.
من ناحيةٍ أخرى، فإن السياسات الإصلاحية التي شرع فيها “ماكرون” تُشير إلى التغير في مفهوم الدولة، وإلى سعيه إلى بناء “نموذج فرنسي جديد” يحول فرنسا من نموذج دولة “الضامن الاجتماعي” إلى نموذج دولة ضامنة للأمن والنظام فقط. هنا نلاحظ أن التظاهرات تأتي وفي طياتها دعوة لعودة دور الدولة الضامنة اجتماعيًّا للشعب، في حالة فرضت فيها السياسة نفسها ضمنيًّا. كما تضمنت مطالبُ جموع المتظاهرين (على قلة عددهم ولكن مع ظهير شعبي كبير) قائمة مطالب ذات توجه يميني ترمي لنزعة قومية، ومطالب ذات توجه يساري تهدف لدور أكبر لدولة الرفاه. وتشير الإحصاءات إلى أن 90% ممن يدعمون أحزاب اليمين واليسار يؤيدون هذه التظاهرات.
وتعكس تلك المعطيات انهيار ثنائية اليمين واليسار في خضم الاحتجاجات، وهو ما قد يُفسر قوة التيار الشعبوي في مقابل الديمقراطية الأوروبية، حيث توظف الشعبوية السياسة في مجال خارج الأطر السياسية المحددة التي تضعها الديمقراطيات، فما بدأ كانتفاضة في مواجهة الضرائب، أصبح عَرَضًا لأزمة في الخطاب والديمقراطية الأوروبية ودعوة للمراجعة.
أضف إلى ذلك، فإن ميل الفرنسيين إلى انتخاب “ماكرون” جاء نتيجة غياب ظهير أو حزب سياسي لدعمه، أما انتماؤه لتيار الوسط الذي اختاره الفرنسيون فلم يكن إيمانًا منهم بهذا التيار، لكن نفورًا من ثنائية اليمين واليسار، ليقدم الرئيس الجديد نموذجًا جديدًا على أمل أن ينجح في إزالة الفوارق بين الأغنياء والفقراء.
وإذا كانت ثنائية اليمين واليسار ووجود خطاب سياسي فرنسي وأوروبي محدد قد ظهر في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789، فإن تظاهرات “السترات الصفراء” قد تنتهي إلى اندثار هذه الثنائية الأيديولوجية، وحدوث مراجعة لتجربة الديمقراطية الأوروبية وخطابها السياسي، عبر التأثير الكبير المتوقع لظاهرة الشعبوية على فرص المنافسة السياسية الحقيقية التي تتيحها الديمقراطية، وهو ما أدركه “ماكرون” أثناء حملته الانتخابية، إذ لم يركز في خطابه على تيار بعينه، وذلك إما لإدراكه عدم جدوى الحشد الأيديولوجي أو لتطلعه لبناء “نموذج” فرنسي جديد.
على أية حال، فإن تنوع المطالب الشعبية ما بين النزعة القومية، وتدخل الدولة الضامنة اجتماعيًّا، وتزايد حجم التيار الشعبوي، قد يطرح خطابًا جديدًا متحررًا من الأيديولوجيا، ليكون الخطاب الفعال هو مصلحة الشعب وتماسك الدولة.