في الخامس والعشرين من نوفمبر الماضي (2018) أقر قادة 27 دولة بالاتحاد الأوروبي اتفاق انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد، والتدشين لمرحلة جديدة من العلاقات بين المملكة والاتحاد إذا ما صادق برلمان المملكة المتحدة على الاتفاق. لكن هذا السيناريو أصبح من السيناريوهات غير المرجَّحة بقوة في ظل الأوضاع الداخلية بالمملكة، الأمر الذي يطرح عددًا من السيناريوهات ذات تكاليف كبيرة للطرفين.
في هذا الإطار، يناقش هذا المقال الجذور التاريخية للبريكست والدوافع المغذية له، إلى جانب مناقشة أبرز الجوانب المتعلقة بالاتفاق الذي تم التوصل إليه مؤخرًا بين المملكة والاتحاد الأوروبي، وما سبّبه من تصاعد حدة الانقسام المجتمعي والحزبي، وما قد يستتبعه من سيناريوهات محتملة تواجه المملكة في حال عدم تمرير الاتفاق.
وبالنظر للعلاقة المتميزة التي تربط مصر بالاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، سوف يشير المقال باختصار إلى التداعيات المحتملة للبريكست على مصر.
كيف وصلت المملكة المتحدة إلى بريكست؟
“بريكست” هو المصطلح المختصر لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي Britain exit. وعلى الرغم من انضمام بريطانيا إلى الاتحاد في عام 1973؛ إلا أن الساسة البريطانيين كانوا دائمي التشكك نحو الاتحاد، بدايةً من إعلان “تاتشر” لمقولتها الشهيرة “أريد استعادة أموالي” في عام 1979 الهادفة لتخفيض مشاركة بلادها في الموازنة الأوروبية. وكذلك عند رفضهم الانضمام للعملة الموحدة، وانتهاء بإعلان رئيس الوزراء المحافظ “ديفيد كاميرون” قبل فوز حزبه بأغلبية برلمانية بالرغبة في تنظيم استفتاء على الخروج من الاتحاد في عام 2015. وقد انتهى هذا الجدل في 23 يونيو 2016 عندما صوتت المملكة المتحدة في هذا الاستفتاء بالخروج من الاتحاد، بنسبة تأييد بلغت حوالي 52%، حيث صوتت أغلب أقاليم المملكة لصالح الخروج عدا أسكتلندا وأيرلندا الشمالية.
وتعددت الأسباب التي ساقتها المملكة المتحدة أو التحليلات المختلفة لأسباب الخروج، لكن أبرزها يدور حول ما يلي:
1- الهجرة:
وفقًا للإحصاءات الفصلية التي صدرت في نهاية أغسطس 2015 فإن صافي الهجرة لبريطانيا وصل إلى أعلى معدل له على الإطلاق، وذلك رغم السياسات التي تم اتّباعها على مدار السنوات الخمس الأخيرة السابقة على الاستفتاء للحد من الهجرة. فوفقًا لقانون الاتحاد الأوروبي وبريطانيا يحق لأيٍّ من مواطني الاتحاد المجيء والعيش والعمل. وقد زادت الهجرة من الاتحاد للمملكة، وبالأخص من مناطق أوروبا الشرقية والجنوبية، ما خلق ضغطًا على الاقتصاد البريطاني على خلفية انتماء النسبة الأكبر من هؤلاء إلى منخفضي ومتوسطي الدخل بشكل مثّل ضغطًا على الخدمات العامة كالصحة والتعليم والإسكان، ما أدى في التحليل الأخير إلى التأثير على مستوى الخدمات العامة المقدمة للمواطنين البريطانيين الذين يدفعون الكثير من الضرائب للحفاظ على مستوى هذه الخدمات، بالإضافة إلى شعورهم باستهداف الهوية الوطنية البريطانية لصالح تدعيم الهويات الفرعية للفئات المختلفة القادمة للمملكة.
2- السيادة البريطانية:
يرى المعارضون للاتحاد أنه سلطة غير ديمقراطية، حيث تحتكر بعض القرارات الخاصة بالدول وتُلزمها بتنفيذها دون إلزام نفسها بموافقة البرلمانات الوطنية عليها. وقد كفل الاتحاد مخرجًا لهذا بأن أقر منح البرلمانات الوطنية مزيدًا من السلطة في الاعتراض على تشريعات بروكسل، في حال رفض 55% من أعضاء البرلمانات الوطنية إقرار التشريع. ولكنّ هذا لم يكفهم، حيث أصروا على أن التحرر من الاتحاد سيعطي للمملكة حرية أكبر في تجارتها الخارجية، وظروف عملها، وأن سلطتها ستكون أكبر على قراراتها. كما رأوا أن الاتحاد بات سلطة متضخمة وبيروقراطية تعرقل المشروعات والشركات الصغيرة والمتوسطة، في ظل وجود عدد ضخم من القوانين المُنظِّمة لكل مجال على حدة. كل ذلك التعقيد يعد خدمة لمصالح الشركات الكبرى الأقدر على التنظيم ولمصلحة الموظفين البيروقراطيين غير المنتخبين العاملين في الاتحاد أصحاب الأجور الأعلى في أوروبا.
3- الأمن:
يرى الخبراء أن قدرة بريطانيا على حماية أمنها سيزيد في حالة الخروج من الاتحاد من خلال منح السلطات البريطانية قدرة أكبر على الحفاظ على علاقاتها التعاونية بأوروبا في مجال الأمن من خلال حلف الناتو، ومن خلال علاقات مباشرة مع الفاعلين الدوليين الأهم.
4- الاقتصاد:
تعددت الأسباب الاقتصادية التي قادت إلى “بريكست”، وأبرزها: التجارة، وقدرة المملكة على توثيق علاقاتها بالدول الأخرى كالولايات المتحدة والهند والصين، والتبشير بأن الخروج من الاتحاد سيوفر ملايين الوظائف للبريطانيين أنفسهم، وسيوفر الأموال الخارجة من العاملين الأجانب داخل المملكة إلى الخارج، وتوفير المساهمات المالية للمملكة في الاتحاد والتي بلغت حوالي 8.5 مليارات جنيه إسترليني في عام 2015، وتحويل هذه الأموال إلى قطاعات الاقتصاد الوطني. وعلى صعيد الاستثمار، فعلى الرغم من التخوف من تراجع الثقل المالي للمملكة داخل أوروبا (حيث تُعد لندن أبرز سوق مالية أوروبية) لصالح فرانكفورت ولكسمبورج، وإمكانية تحولهما إلى وجهة للصناديق السيادية بدلًا من لندن؛ فإن مؤيدي بريكست يرون أن ما سيكفله الخروج من خلال تحرر المملكة من اللوائح الأوروبية سيُيسر الاستثمار ويجذبه. وتُعد قضية صيد الأسماك وتحرر المملكة فيما يخص ذلك من سياسات الاتحاد وعودة المملكة للمطالبة بمياهها الإقليمية من أكبر العوامل المحفزة للخروج من الاتحاد.
ورغم أن الخروج سيكلف المملكة أيضًا الكثير في تلك المجالات، إلا أن المصوّتين لصالح الخروج رأوا أن تلك المكاسب المتوقعة أهم من الخسائر المتوقعة.
لماذا عاد الجدل؟
بعد الاستفتاء قدمت “تيريزا ماي”، في مارس 2017، لـ”دونالد تاسك” (رئيس المجلس الأوروبي) طلبًا بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة الخاصة بالخروج من الاتحاد. وبدأت رحلة مفاوضات مريرة تمخض عنها ما سُمّي صفقة “تيريزا ماي”. وتتكون مسودة الصفقة من حوالي 600 صفحة، وتنظم أبرز النقاط بين الطرفين، خاصة الحدود بين أيرلندا الشمالية ودولة أيرلندا، وهي القضية التي ساهمت في امتداد المفاوضات لمدة 17 شهرًا، خوفًا من العودة للحدود الجامدة بما يعرقل عملية السلام التي تم التوصل إليها بعد حروب دموية في 1998. وشملت أبرز النقاط التي تم الاتفاق عليها ما يلي:
– الاتفاق على أن تمتد الفترة الانتقالية لتنفيذ بنود الاتفاق حتى 31 ديسمبر 2020، تستمر فيها بريطانيا كعضو في منطقة جمركية موحدة مع حرمانها من حق التصويت على أي قرارات داخل التكتل والمفوضية والبرلمان الأوروبيين. واتفق الجانبان على إمكانية تمديد هذه الفترة الانتقالية مرة واحدة وبموافقة كل منهما، لمدة يمكن أن تصل إلى عام أو عامين حتى 2022 على أبعد حد.
– عمل ما سُمي “شبكة الأمان” بين أيرلندا الشمالية ودولة أيرلندا، تضمن فيها بريطانيا أن تكون تلك المنطقة مستمرة في الخضوع للقواعد المنظِّمة للاتحاد الأوروبي، فتظلّ أيرلندا الشمالية بذلك خاضعة لقواعد السوق الأوروبية الموحدة، مع حقّها في إيصال بضائعها لبريطانيا أيضًا دون قيود، وهو ما سيكفل لبريطانيا وصول بضائعها دون قيود باعتبارها جزءًا من منطقة جمركية موحدة دون رسوم على السلع الصناعية والزراعية. لكن المأزق أنه في حال لم يتم التوصل إلى قواعد منظِّمة للعلاقة بين أيرلندا الشمالية ودولة أيرلندا فسيستمر هذا الاتفاق حتى بعد الفترة الانتقالية، ويُمكن للطرفين إلغاء هذا الترتيب في أي وقت أثناء الفترة الانتقالية إذا توصلا لاتفاق آخر. وتعد هذه النقطة هي المحفز الرئيسي لرفض جزء كبير من أعضاء البرلمان البريطاني للاتفاق، ففي حالة عدم التوصل لاتفاق آخر فسيعني ذلك استمرار خضوع أيرلندا الشمالية لقواعد الاتحاد الأوروبي، ما يهدد بتفكير الأيرلنديين في مشروع الانفصال عن بريطانيا، وإمكانية امتداد العدوى -حال وقوع هذا الخطر فعلًا- إلى أسكتلندا التي صوتت لصالح عدم الخروج، ووجود بعض التوجهات المؤيدة للانفصال عن بريطانيا، وقد تمتد أيضًا إلى “ويلز”.
– بالإضافة إلى هذين البندين، هناك بنود أخرى أهمها استمرار حقوق مواطني المملكة والاتحاد بنفس الامتيازات والقواعد حتى انتهاء الفترة الانتقالية، والتزام بريطانيا بدفع كافة التزاماتها تجاه الاتحاد، واحتفاظ صيادي الأسماك الأوروبيين بإمكانية دخول المياه الإقليمية البريطانية، وبقاء البريطانيين خاضعين لحصص الصيد الأوروبية خلال تلك الفترة.
وهكذا، وفي ظل هذه الأوضاع بات هناك جدل كبير. فمن ناحية، بات واضحًا للمجتمع البريطاني -أكثر من ذي قبل- التوابع والتكاليف الاقتصادية المتوقعة للخروج من الاتحاد، وهو ما أصبحت الكثير من التقارير تتناوله بشكل أكثر وضوحًا. ومن ناحية أخرى، فإن غاية ما تم التوصل إليه حتى الآن هو اتفاق لا يُعالج الكثير من الأسباب التي تم الانفصال وفقًا لها، كالسيادة الكاملة، ووضع أيرلندا الشمالية، والعاملين في مجال صيد الأسماك.
السيناريوهات والتكاليف المحتملة
هناك أكثر من سيناريو لمآل العملية الراهنة، ولكل سيناريو تكلفته.
السيناريو الأول- تمرير الاتفاق في البرلمان:
هذا السيناريو يُعد الأقل احتمالًا، ذلك أن تمرير الاتفاق يحتاج إلى موافقة 320 عضوًا في مجلس العموم، يوجد منهم 244 عضوًا فقط يؤيدون الاتفاق، مقابل حوالي 58 عضوًا يؤيدون “ماي” لكنهم يرفضون الاتفاق، أبرزهم الحزب الديمقراطي الوحدوي في أيرلندا الشمالية.
في هذه الحالة، قد تلجأ الأطراف إلى عددٍ من الخيارات. فعلى مستوى الحكومة، وفي حالة تم رفض الاتفاق بفارق كبير يصل إلى 100 صوت أو أكثر، فسيصبح أمام “ماي” تقديم استقالتها، أو الدعوة لاستفتاء جديد، أو الدعوة لانتخابات عامة جديدة على أمل تغير خريطة البرلمان وزيادة عدد نواب حزبها في البرلمان بشكل يضمن تمرير الاتفاق، لكن هذه البدائل يكتنفها العديد من الصعوبات، وليست مضمونة تمامًا.
أما على مستوى البرلمان، فهناك بدائل عدة، أهمها ما أعلنه حزب العمال المعارض عن نيته التقدم بسحب الثقة من حكومة “ماي” في حال لم تُقدِم “ماي” على خطوة الدعوة لانتخابات مبكرة. لكن هذا الخيار من جانب المعارضة يمكن إجهاضه من جانب كتلة النواب المؤيدة لـ”ماي”، سواء من خلال إجهاض خطوة سحب الثقة، أو الضغط من أجل الدعوة لاستفتاء جديد، أو تقديم طرح بدائل أخرى للخروج من الاتحاد من خلال تبني نموذج آخر وسط، مثل “نموذج سويسرا”، أو “نموذج النرويج”، الذي يعد الخيار الأكثر عقلانية بالنسبة للكثيرين، والذي يتضمن مزايا عدة مثل تخلص بريطانيا من بيروقراطية بروكسل، والتحرر من الآثار الخانقة لسياسات الثروة السمكية المشتركة، والسياسات الزراعية للاتحاد، كما ستبقى أحد المشاركين في السوق الموحدة لكن بدون أي مظاهر لاتحاد سياسي هذه المرة، كما ستكون بريطانيا غير ملزمة بمعاهدة ضريبة القيمة المضافة في الاتحاد الأوروبي فتكون لديها القدرة على تخفيض معدلات ضريبة القيمة لتحفيز الاقتصاد. أيضًا هناك “نموذج كندا” الذي يقوم على توقيع اتفاقية تجارة حرة خاصة بالسلع تستثني قطاعات الخدمات، وعلى رأسها القطاع المالي. لكن كل هذه البدائل تحتاج لأغلبية برلمانية ما زالت غير مضمونة.
لكن مع أهمية هذه البدائل، فإن لكل منها تكاليفه. على سبيل المثال، فإن تمتع سويسرا بنموذج علاقاتها الراهن مع الاتحاد الأوروبي تطلب توقيع ما يزيد عن 120 اتفاقية مع الاتحاد خلال ربع القرن الماضي، ولا تشمل العلاقة بين سويسرا والاتحاد حرية حركة الخدمات المالية على سبيل المثال. ومن شأن هذا أن يخلق مشكلة كبيرة لبريطانيا التي يتسم القطاع المالي فيها بأهمية بالغة لاقتصادها. أما النرويج، فهي عضو في المنطقة الاقتصادية الأوروبية ولا تُعتبر جزءًا من الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، ومع ذلك فإنها يجب أن تسمح بحرية حركة الأفراد من وإلى الاتحاد الأوروبي (لكن بإمكانها تفادي ذلك عن طريق ما يُسمى “مكابح الطوارئ” التي تخول للدولة تعليق الاتفاقية مع الاتحاد في أربعة أمور، هي: حرية حركة الأفراد، والسلع، والخدمات، ورأس المال). كما أن كون النرويج ليست عضوًا في الاتحاد فهذا يعني أن صادراتها إلى دول الاتحاد تخضع لرسوم وتفتيش الجمارك. أضف إلى ذلك أن هذه النماذج لا تستفيد من الـ53 اتفاقية تجارية للاتحاد الأوروبي مع بلدان ثالثة أخرى، ولا تتمتع بحق التصويت على قواعد الاتحاد الأوروبي.
أما في حالة اللجوء لاستفتاء جديد، ورغم أن استطلاعات الرأي تُشير إلى أن ما يصل إلى 55 بالمائة من المجتمع البريطاني سوف تؤيد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في حالة إجراء استفتاء جديد؛ فإن اللجوء إلى هذا البديل سيعني حدوث شرخ عميق وانقسام داخل المجتمع. كما أنّ من المتوقع أن تفقد الأحزاب السياسية وكذلك الساسة البريطانيون ثقة المجتمع البريطاني بسبب عدم قدرتهم على ترجمة إرادة الشعب، وإن كان حزب المحافظين (الحزب الحاكم حاليًّا) سيكون الأكثر تضررًا.
السيناريو الثاني- تمرير الاتفاق داخل البرلمان البريطاني:
في هذه الحالة ستواجِه المملكة المتحدة إضافة إلى رسوم الانسحاب التي تُقدر بحوالي 100 مليار دولار حتى عام 2030 -حسب دراسة للمعهد الوطني للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا- تكاليفَ أخرى، مثل: انخفاض سنوي متوقع في حجم الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 3.9% بقيمة تعادل حجم الناتج المحلي لإقليم ويلز أو مدينة لندن، وانخفاض متوقع لحجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والمملكة بنسبة 46% من القيم الحالية، بالإضافة إلى انخفاض متوقع للاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 21% عن القيم الراهنة. كما سيتراجع عائد الضرائب بنحو 1.5 إلى 2 في المائة، بقيمة تعادل 18 إلى 23 مليار جنيه إسترليني.
السيناريو الثالث- الخروج دون اتفاق:
هذا الخيار قد تعمل عليه الحكومة في حال لم يتفق البرلمان على خيار محدد، حيث بدأت كلٌّ من الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي التحضير لهذا الخيار. فقد اعتزمت الحكومة البريطانية تخصيص 2 مليار جنيه إسترليني لوزارات حكومية من أجل التخطيط لحالات خدمات الطوارئ، وإرسال 160 ألف خطاب لحث شركات على الاستعداد لاحتمال الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق. كما وضع وزير الدفاع البريطاني 3500 جندي في حالة استعداد لأي طوارئ في حالة الخروج دون اتفاق. وقد عبّر عن استعداد الاتحاد الأوروبي لهذا البديل أيضًا ما أكده رئيس المجلس الأوروبي “دونالد تاسك” بقوله: “في ظل نفاد الوقت، سنبحث أيضًا جاهزيتنا لانسحاب دون اتفاق”.
ولهذا الخيار أيضًا تداعياته السيئة اقتصاديًّا على المملكة المتحدة، التي ستشمل: تراجع معدل النمو الاقتصادي، وانهيار منظومة إمدادات الغذاء والدواء، خاصة في ظل الاعتماد البريطاني على السوق الأوروبية في توفير هذه السلع لفترات طويلة، وهو ما يفسر إعلان وزير الخزانة رصد مخصصات مالية لمواجهة النقص المحتمل في الأدوية، وأن وزارة الصحة أصبحت المستورد الأول للثلاجات في العالم لتخزين الأدوية بسبب التخوف من الانفصال دون اتفاق. أضف إلى ذلك رحيل معظم المصارف والمؤسسات المالية وصولًا إلى توقف معظم القطاع الصناعي وخاصة صناعة السيارات بسبب ارتباط نشاطها بالاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع كذلك أن يواجِه المصدِّرون البريطانيون تعريفات جمركية على صادراتهم قد تصل إلى ما يقرب من 6 مليارات جنيه إسترليني سنويًّا، بالإضافة للتعريفات على الواردات، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع التكاليف المعيشية بالمملكة.
أيضًا سوف تخسر المملكة الكثير في جانب التعاون بالمجال الأمني، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وإن كان لهذا الجانب أيضًا خسائره على جانب الاتحاد بفقدان جهود الاستخبارات البريطانية، إلا أن المملكة ستخسر الكثير بسبب العديد من القوانين المنظِّمة للملكية الفكرية لكثير من جوانب قواعد البيانات الخاصة بالاتحاد وغيره. وفيما يخص هذا الجانب، فقد استخدمت السلطات البريطانية “قاعدة بيانات وقف الجريمة” التابعة لنظام “تشنجن” حوالي 539 مليون مرة في عام 2017. ومن ثم فإن الخروج دون اتفاق سيُفقد المملكة المتحدة التعاون بشكل شبه نهائي ولو لفترة حتى الوصول إلى اتفاقيات أخرى، ما سيؤدي لهزة كبيرة.
العلاقات الاقتصادية بين مصر والاتحاد الأوروبي
يُعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لمصر، حيث يصل إجمالي حجم التجارة بين مصر والاتحاد إلى 40% من إجمالي حجم التجارة الخارجية المصرية مع العالم. والسؤال المطروح هنا: ما هو التأثير المتوقع لخروج بريطانيا على العلاقات التجارية المصرية مع الاتحاد؟
يأتي في مقدمة المخاطر المتوقَّعة على مصر في حالة انفصال المملكة المتحدة، التراجع المتوقع في حجم الطلب في الأسواق الأوروبية بشكل عام، وهو ما سيكون له تأثيره الكبير على الصادرات المصرية إلى أوروبا التي تستقبل حوالي ثلث الصادرات المصرية، وهو ما سينعكس سلبًا على المُصدِّرين المحليين وفرص العمل التي يخلقونها، خاصة في ظل موجة التباطؤ الكبيرة التي يعانيها الاقتصاد العالمي والمحفّزة بتباطؤ الاقتصاد الصيني والاقتصاد البرازيلي.
أما على صعيد العلاقات الاقتصادية البريطانية-المصرية، ورغم تأكيد العديد من المسئولين البريطانيين أن خروج المملكة المتحدة لن يؤثر على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين مصر والمملكة؛ فإن هناك ثلاثة بدائل أمام مصر للتعامل مع مرحلة ما بعد انفصال المملكة المتحدة: الأول، يتضمن إعلان مصر والمملكة المتحدة استمرار اتفاقية المشاركة بينهما بنفس الشروط القديمة الخاصة باتفاقية المشاركة الأوروبية، وخاصة فيما يتعلق ببنود التجارة الحرة. البديل الثاني، يتمثل في إبرام اتفاقية جديدة بنفس المحتوى القديم مع إجراء بعض التعديلات البسيطة. البديل الثالث، يتمثل في التفاوض على اتفاقية جديدة كليًّا.
لكن في حالة عدم تمرير اتفاق بريكست داخل البرلمان البريطاني، فسيكون هناك وضع ضبابي لفترة، ما سيؤخر الوصول إلى أي اتفاق مصري بريطاني، وفق أي من السيناريوهات الثلاثة السابقة.خلاصة القول، لقد تعرضت المملكة المتحدة لأزمة كبيرة ستغير بلا شك أيضًا شكل الاتحاد الأوروبي. لكن المملكة المتحدة، وفقًا لأغلب الدراسات والتقارير، ستكون المتضرر الأكبر من هذه الأزمة. وللخروج من تلك الأزمة يجب أن يكون هناك اتجاه يدفع نحو حوار مجتمعي وسياسي يهدف للتوصل لحل يقلل تلك الآثار السلبية، ويتسم بالقابلية من جانب أغلب الاتجاهات والقوى السياسية.