شهدت أسواق النفط واحدة من أسوء موجات هبوطها مُنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وجاء ذلك عقب إعلان الولايات المتحدة منح إعفاءات لثمان دول من العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على قطاع النفط الإيراني، الأمر الذي أسفر عن زيادة كبيرة في الكميات المعروضة من النفط في الأسواق العالمية أدت بدورها إلى انخفاض الأسعار من مُعدل زاد على 86 دولار لبرميل برنت في أوائل أكتوبر 2018 إلى مستوى يدور حول 51 دولار في أواخر ديسمبر 2018. ولم تجد محاولة مُنظمة أوبك بالتنسيق مع روسيا أوبك+ في السيطرة على الأسعار وتهدئة المُستثمرين، بإعلان خفض الإنتاج بداية من يناير 2019 بمُعدل 1.2 مليون برميل يوميًا.
ويرجع هذا الهبوط الحاد في الأسعار لعدة عوامل أهمها تباطؤ النمو العالمي خلال عام 2018، وتوقع استمرار هذا التباطؤ خلال عام 2019، انتهاءً بتوقعات مُتواترة بدخول الاقتصاد الأمريكي يليه الاقتصاد العالمي في فترة ركود بداية من الربع الأخير في عام 2019، وما يترتب على هذا التباطؤ العالمي من انخفاض في الطلب على النفط. ومن جهة أخرى، يتوقع ارتفاع المعروض النفطي بسبب الزيادات المُتوالية في إنتاج الولايات المُتحدة الأمريكية التي تحولت خلال شهر ديسمبر 2018 لتصبح المُنتج الأول عالميًا، بعد بلوغ إنتاجها 11.7 مليون برميل يوميا. وقد بلغ الإنتاج الأمريكي في المتوسط 10.7 مليون برميل يوميا خلال عام 2018، ارتفاعا من 9.4 مليون برميل في اليوم في عام 2017، ومن المقدر أن يبلغ مستوى الإنتاج في المتوسط 12 مليون برميل يوميًا، مستمرًا في تجاوز إنتاج كل من المملكة العربية السعودية وروسيا في عام 2019. يأتي ذلك في ظل شكوك تحيط بإمكانية توصل أوبك وشركائها إلى اتفاق جديد لخفض الإنتاج. هذه العوامل وغيرها تُسهم في تعزيز التوقعات باستمرار الانخفاضات في أسعار النفط على الأقل في المديين القصير والمتوسط.
وتحدث هذه التطورات في السوق العالمي في الوقت ذاته الذي تشهد فيه مصر خطة لإعادة هيكلة الاقتصاد. وكجزء من هذه الخطة هناك خطوة تتمثل في تحرير أسعار المُنتجات النفطية في السوق المحلية كآخر خطوات رفع الدعم عن الوقود، والتي كان من المُقرر اتخاذها نهاية العام 2018 تبعًا للاتفاق المُبرم بين الحكومة وصندوق النقد الدولي، لكن الحكومة آثرت التأجيل خوفا من إطلاق موجة جديدة من التضخم، الأمر الذي دفع الصندوق لاتخاذ قرار بتأجيل صرف الشريحة الخامسة من القرض إلى ما بعد ديسمبر 2018، فهل تتأثر خُطط إعادة الهيكلة بما تشهده السوق من انخفاضات في أسعار النفط؟
تقلُيص عجز الموازنة العامة
يُسيطر على الموازنة العامة للدولة في مصر عجز هيكلي تعمل المُنتجات النفطية على دفعه في اتجاه الزيادة، بسبب تبني الدولة سياسة دعم أسعار المواد البترولية للمُستهلكين، مُتحملةً الفرق بين السعرين العالمي والمحلي وهو ما يؤدي لتحمل الموازنة أعباء مالية مُتزايدة تُدرج ضمن مُخصصات باب الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية وهو الباب الرابع من أبواب المصروفات. وقد بلغت قيمة هذه المُخصصات 999.4 مليار جنيه خلال الفترة 2006/2007 إلى 2017/2018، أي ما نسبته تقريبًا 47.9% من جُملة مُخصصات الباب الرابع، وما إجماليه تقريبًا 12% من جُملة استخدامات الموازنة العامة التي بلغت 8389.5 مليار جنيه. ويُقارن الشكل التالي بين إجمالي مُخصصات الباب الرابع من الموازنة العامة للدولة ومُخصصات دعم المواد البترولية ونسب الأخيرة من الأولى.
شكل رقم (1)
مُخصصات دعم المواد البترولية بالمقارنة إلى إجمالي مُخصصات الباب الرابع من الموازنة العامة للدولة، ونسب الأولى إلى الثانية
ومن البديهي أن تكلفة هذا الدعم تتجه إلى الزيادة في حال ارتفاع الأسعار عما تبنته وزارة المالية من تقديرات لسعر برميل مزيج برنت عند إعدادها الموازنة العامة. إذ توفر الدولة مزيدًا من المصروفات لتغطية الفارق بين السعر الفعلي للسوق والسعر المتوقع. وحيثُ كانت تقديرات دعم السلع البترولية عند إعداد الموازنة العامة للدولة قد قُدرت بـنحو 812.89 مليار جنيه خلال الفترة من (2006/2007) إلى (2017/2018)، كانت التكلفة الفعلية قد بلغت 999.4 مليار جنيه وبفارق قدره 186.4 مليار جنيه تحملتها الموازنة العامة. ويوضح الشكل رقم (2) تقديرات الموازنة العامة لدعم المواد البترولية وما تكلفته الدولة فعلًا طبقا للحساب الختامي للموازنة خلال الفترة المُشار إليها.
شكل رقم (2)
تقديرات الموازنة العامة لدعم المواد البترولية وما تكلفته الدولة فعلًا طبقا للحساب الختامي للموازنة خلال الفترة 2006/2007- 2018/2019
وخلال العام المالي (2018/2019) كانت وزارة المالية قد توقعت سعر 67 دولارًا لبرميل مزيج برنت، لكن خلال الفترة من يوليو حتى أكتوبر (2018 كان متوسط السعر قد بلغ 76.6 دولار، ثُم حلت موجة الانخفاضات التي تشهدها الأسواق حاليًا لتُقلص الأسعار لتبلغ في المتوسط 60.6 دولار خلال شهري نوفمبر وديسمبر الأمر الذي أدى إلى انخفاض متوسط السعر خلال النصف الأول من العام المالي ليصل إلى 71.34 دولارًا، وبزيادة قدرها 4.34 دولار فقط لكل برميل، وهو ما يُحمل الموازنة بزيادة في الإنفاق تبلغ 261.3 مليون دولارًا فقط في حالة استمراره حتى نهاية العام المالي الجاري، في حين أن استمراره عند مُعدلات ما قبل موجة الانخفاضات الحالية كان سيُكلفها 578.1 مليون دولار. ويوضح الشكل رقم (3) تقديرات الموازنة العامة لأسعار خام برنت، والأسعار الفعلية وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA).
شكل رقم (3)
تقديرات الموازنة العامة لأسعار خام برنت، والأسعار الفعلية وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) خلال الفترة 2011/2012- ديسمبر 2018/2019
تعزيز خطوات الإصلاح
كانت وزارة البترول قد كشفت في شهر أكتوبر 2018 عن تكلفة دعم المُشتقات البترولية عند سعر 85 دولار لبرميل مزيج برنت، وأظهرت الأرقام أن الموازنة العامة تتحمل 111 جنيه عند بيع اسطوانة غاز المنازل –أحد المُشتقات البترولية- بـ 50 جنيه، 1.7، 2.05، 2.10 جنيه عند بيع بنزين 95، 92، 80 على التوالي بأسعار 7.75، 6.75، 5.5 جنيه للتر. وتعني هذه الأرقام أنه حال تحرير سعر المواد البترولية خلال النصف الأول من العام 2018/2019 عند سعر 71.34 لبرميل برنت وسعر صرف للجنيه المصري يبلغ 17.91 للدولار كانت تكلفة اللتر سترتفع على المُستهلك بما يُساوي 3%، 9%، 15% فقط من ثمن كُل لتر على الترتيب أو ما يساوي 0.87 جنيه للتر بنزين 80، أما اسطوانة الغاز فكان سعرها سيبلُغ 142.06 جنيه، وهو ما يعني تقديم دعم يصل إلى 92 جنيها للأسطوانة.
أما خلال النصف الثاني من العام المالي 2018/2019 بعد إصدار العديد من المؤسسات المالية توقعاتها لأسعار النفط خلال عام 2019، واعتمادًا على متوسط عشر من هذه التوقعات التي يُظهرها الجدول التالي، فإن سعر خام برنت سيبلُغ 68.06 دولار/برميل.

الأمر الذي سيؤدي عند التحرير الكامل خلال النصف الثاني من العام إلى ارتفاع سعري بنزين 92، 80 لتبلغ 7.04، 6.08 جنيه، و128.91 لأسطوانة الغاز، وانخفاض بنزين 95 ليصل 7.66، وهو ما يعني أنه عند التحرير الكامل لسعر المُشتقات فإن تكلفة اللتر على المُستهلك سترتفع بمُعدلات 0.30، 0.59 جنيه للتر 92، و80 عن أسعار المُستهلكين الحالية على الترتيب، و78.91 جنيه لكل اسطوانة بوتاجاز. ويوضح الجدول التالي أسعار النفط وما تتحمله الموازنة العامة للدولة عند كُل منها في حالة عدم التحرير.

لكن الوضع الحالي أو توقعات المُستقبل القريب بانخفاض الأسعار، يجب ألا يُنسيانا حقيقة ما تتسم به سوق النفط من تقلُب وعدم استقرار يؤدي إلى تذبذب كبير في الأسعار العالمية قد يدفع بدوره الأسعار المحلية المُحررة أحيانا لمستويات عالية. ومن هنا يأتي دور الآلية المقترحة لربط أسعار بيع المنتجات البترولية محليا بالأسعار العالمية من حيث الانخفاض والارتفاع.