شهدت الشهور الثلاثة الأخيرة قيام الجيش الإسرائيلي بأكثر من عملية هجومية جديدة على قطاع غزة، بدأت وانتهت دون أهداف واضحة، وأسفرت عن استقالة وزير الدفاع الإسرائيلي “ليبرمان”. وتبع ذلك قيام إسرائيل بعملية “درع الشمال” في اتجاه لبنان لهدم ما اكتشفته من أنفاق تمتد إلى داخلها تابعة لـ”حزب الله”، بجانب ضربات متفرقة في سوريا. وبغض النظر عن حقيقة الأهداف الإسرائيلية من هذه العمليات العسكرية، فإنها أثارت حالة من الجدل داخل إسرائيل حول مدى استعداد جيش الدفاع الإسرائيلي للحرب في الوقت الحالي. ودارت تساؤلات حول مدى استعداده للحرب على أكثر من جبهة في الوقت نفسه.
فقد أصدر الجنرال المتقاعد “إسحاق بريك” بيانًا انتقد فيه مستوى استعداد الجيش الإسرائيلي، وأكد فيه أن القوات البرية العسكرية غير مهيأة بشكل كبير للصراع. وقال أمام لجنة مراقبة الدولة في الكنيست: “إن جيش الدفاع الإسرائيلي يمر بعملية تدهور وصلت إلى ذروتها في السنوات الأخيرة”. ورغم رفض الرؤساء العسكريين تقييم “بريك” المثير للانزعاج الإسرائيلي، بما في ذلك رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي السابق “غادي إيزينكوت”، والقائد العام للقوات البرية “كوبي باراك”؛ إلا أنه تقرر إجراء تحقيقات داخل الجيش حول ما ورد في بيان “بريك”.
القوات البرية الإسرائيلية نقطة ضعف أساسية في الأداء العسكري الإسرائيلي
من ركائز الأمن الإسرائيلي توجيه ضربات خاطفة، واستلزم ذلك التفوق الجوي، وانعكس ذلك تدريجيًّا على إهمال نسبي للقوات البرية؛ إذ سادت قناعة لدى القيادات العسكرية بأن المناورة والمعركة البرية تنتمي لحروب الماضي، ولهذا كان اهتمامهم الأكبر بتحديث وتقوية القوات الجوية، لتصبح أساس ومحور التحديث الفعلي في جيش الدفاع الإسرائيلي. وبمعنى آخر، أصبح الإدراك الإسرائيلي للمفاهيم الجديدة حول مستقبل الحرب مفاده أنه لن تكون هناك “حروب كبيرة وعالية الشدة”. وفي حالة حدوث مثل هذه الحروب فإنه ينبغي محاربتها -على الأرجح- بمعلومات استخبارية عالية الجودة، ومن خلال استخدام قوة نيران طويلة المدى يتم الاعتماد فيها على القوات الجوية لتدمير أهداف العدو. ونتيجة لذلك “أهمل جيش الدفاع الإسرائيلي عن عمد المتطلبات الضرورية للقتال البري” كما يقول الجنرال “بريك”، مؤكدًا أنه مع تولي اللفتنانت جنرال (متقاعد) “دان حلوتس” رئيسًا للأركان في عام 2005 عانت القوات البرية من إهمال كبير، ما أدى إلى إخفاقات كبيرة في الحرب التي اندلعت مع “حزب الله” في الصيف التالي.
وظهر هذا بوضوح في العام السابق لمواجهة إسرائيل مع “حزب الله” اللبناني عام 2006، فقد أُجريت استقطاعات في الميزانية المخصصة للقوات البرية بلغت 25% عن السنوات السابقة على الحرب، في مقابل زيادة الإنفاق على القوات الجوية. وقد اعتبرت لجنة فينوجراد (المسئولة عن التحقيق في أسباب ضعف أداء الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب) أن إهمال القوات البرية وعدم القيام بدورها بفعالية في الحرب غير المتناظرة ضد “حزب الله” كان من الأسباب المؤدية لهذه الهزيمة الإسرائيلية. فعلى سبيل المثال، كان للدبابات نصيب من هذا التخفيض المذكور في الميزانية ظهر في التوقف عن إصلاح الدبابات القديمة، والاكتفاء بالدبابات الحديثة ميركافا-3 وميركافا-4، التي كانت في بدايات إنتاجها أثناء الحرب، ولهذا استُخدمت كتجربة أثناء الحرب، ولم يتم تدريب الجنود عليها نظرًا لخفض نفقات التدريب. بالإضافة إلى إخفاق قوة المدفعية التي لم تنجح إلا في تدمير 100 منصة، أي ما يقل عن 1% من منصات صواريخ “حزب الله”. وبصفة عامة، فقد أُهملت القوات البرية لصالح الذكاء عالي الجودة والقوة النارية طويلة المدى.
خطط تطوير القوات البرية
بالطبع، لم يكن مستغربًا أن يتجه جزء كبير من توصيات اللجنة لتطوير القوات البرية، بالإضافة إلى ما ظهر من إجراءات للتطوير في استراتيجية الجيش الإسرائيلي التي أُعلن عنها في عام 2015، ووضع خطة أساسية لهذا التطوير تقوم على عدة أسس، أهمها:
– تضمين الاستراتيجية القتالية للجيش الإسرائيلي مبادئ أساسية في أي مواجهة يخوضها على أكثر من جبهة في آن واحد، هي: الإنذار، والردع، والحسم، والانتصار الساحق في المعركة، وهذان الأخيران يعتمدان على القوات البرية بشكل أساسي.
– تكوين أطقم جديدة للدبابات الحديثة، وتطوير التدريب عليها، مع استمرار إنتاج الدبابة ميركافا-4 بمعدل 30% سنويًّا، وزيادة الاعتماد عليها كدبابة رئيسية للقتال.
– تقوية سلاح المشاة وتطوير التدريبات الخاصة به للارتقاء بالمستوى العملياتي للقوات المقاتلة.
– تطوير نظام حماية فعال للصواريخ المضادة للدبابات. وهذا النظام لا يتضمن حماية مضادة، بل إطلاق نيران هجومية اعتراضية، ليمنع القذائف المضادة للدبابات من الوصول للدبابة أو للمركبة المدرعة، مثل: نظامي ثيل، وماثيل.
– إدخال تحسينات وتطويرات على أكثر من 100 مركبة مدرعة، وزيادة قدراتها التحصينية.
– التوازن في الخطط العسكرية للعمليات البرية بين الدبابة والمركبات المدرعة المختلفة، بما يعني التخلي عن مبدأ “شمولية الدبابة”، خاصة وأن مسارح العمليات التي تمثل تهديدًا لإسرائيل تتطلب سرعة وخفة في الحركة، وهذا يتوافر في المركبات المدرعة بدرجة أكبر نسبيًّا من الدبابات. ومن شأن هذا التوازن أن يُمكّن قوات المشاة والوحدات المدرعة من الاقتحام السريع لمسرح العمليات، ويسمح بمعدل تقدم أسرع.
– إعادة تشكيل القوات البرية لتصبح كل فرقة مكونة من: لواء للتخطيط وبناء القوة، لواء مشاة، لواء مدرعات، لواء تكنولوجي، بالإضافة إلى وحدة للدعم اللوجستي، وذلك بدءًا من عام 2008 على إثر عملية المراجعة.
واتّبعت إسرائيل خطة تطوير القوات البرية لتتمكن من الحسم في أية مواجهة كما أعلنت. لكن مع تولي وزير الدفاع “موشيه يالون” ورئيس الأركان “بيني غانتز” تم إيقاف هذا الاتجاه، وعاد الاتجاه القديم للتركيز على القوة الجوية والاستخبارات التي كانت تهيمن قبل حرب لبنان الثانية، وتم التراجع عن جهود رئيس الأركان السابق “غادي إيزنكوت” للاهتمام مرة أخرى بالقوات البرية الذي حسّن مستواها نسبيًّا مقارنة بعام 2006، نتيجة برنامج العمل متعدد المستويات الذي تولاه تحت قيادته باسم برنامج “جدعون”، والذي أعطى الأولوية لبناء أقسام القتال التي يمكن أن تقاتل على أي جبهة.
وبالعودة مرة أخرى للجدال الراهن داخل إسرائيل حول مدى استعداد الجيش الإسرائيلي للعمل على أكثر من جبهة في الوقت نفسه، ومدى جاهزية القوات البرية في هذه المواجهات؛ يلاحظ أن هذا الجدل زاد بسبب التقديرات الإسرائيلية لقوة “حزب الله” (العدو الأقرب للدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل) التي تذهب إلى أنه يعادل اليوم ما يقرب من خمس فرق مشاة، بالإضافة إلى ما يملكه من صواريخ موجهة ودقيقة وعالية الكفاءة مضادة للدبابات، فـ”حزب الله” اليوم أقوى ست مرات عما كان عليه عام 2006.
ويؤكد الجنرال “بريك” أن انتقاده لا يعني ضعف أو عدم جاهزية الجيش الإسرائيلي، وإنما يعني أن هناك بعض المناطق لا يبدو فيها جيش الدفاع الإسرائيلي جيدًا بما فيه الكفاية، والمقصود قواته البرية؛ لأن العمليات التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي حاليًّا لا يظهر فيها هذا التقدم في أداء القوات البرية، أي إنها لم تُختبر بعد، ولم تنفذ إسرائيل استراتيجية جيشها المعلنة عام 2015. ومن ثم، هناك تساؤلات حول قدرة جيش الدفاع الإسرائيلي على محاربة الأعداء على جبهات متعددة في وقت واحد.
وكعادة المبالغات الإسرائيلية، تستمر التساؤلات حول “ماذا سيحدث إذا احتاج جيش الدفاع الإسرائيلي للقتال ضد “حزب الله” وغيره؟. على سبيل المثال، إذا واجه الجيش السوري المُعاد بناؤه في هضبة الجولان، مدعومًا بقوات شيعية من العراق وأفغانستان وباكستان وإيران؟ وفي الوقت نفسه، تبدأ حماس في قصف الجبهة الداخلية من الجنوب؟ فما مدى فعالية استدعاء الاحتياطي؛ فبعد 2006 تم تخفيض الاحتياطيات بشكل حاد للغاية، حيث تم إلغاء كل الأقسام والكتائب بالكامل، مع ارتباك القدرة على حالة الاستعداد بين المركبات العسكرية في ضوء انخفاض أعداد موظفي الصيانة.
والإشكالية الكبرى التي يعكسها هذا الجدل أنه رغم التطوير الذي تحقق في القوات البرية، فقد كان التركيز الرئيسي ينصب على زيادة قوة النيران، ولكن هل تقدر هذه القوة النارية على إعطاء دولة إسرائيل القدرة على الحسم، أي هل يمكنها تنفيذ الرد الاستراتيجي الذي تحتاجه لإجبار “حزب الله” على وقف إطلاق النار وتفضيل وقف إطلاق النار؟ وإلى أن تفعل ذلك، هل يمكن أن تقلل هذه القوة النارية من قدرة “حزب الله” على تهديد الداخل الإسرائيلي؟
وجهة النظر التي يُعبّر عنها الجنرال “بريك” ترى أن الحسم الممكن في هذه الحالة لا يتم بدون هجوم بري واسع النطاق، وللقيام بذلك يحتاج الجيش لأن يحتل منطقة جبلية كبيرة تحتوي على العشرات من القرى والمدن المحصنة، وهذا الأمر يفوق قدرة القوات البرية الإسرائيلية في الوقت الحالي.
وقد أدى هذا الجدل إلى التحقيق حول ما ورد في انتقادات الجنرال “بريك”. ففي 19 ديسمبر 2018 أصدرت لجنة الشئون الخارجية والدفاع في الكنيست تقريرًا جاء بعد تحقيقها في استعداد الجيش الإسرائيلي، ووجد التقرير أن “مستوى الاستعداد في جيش الدفاع الإسرائيلي للحرب قد تحسن بشكل كبير منذ عام 2014 في العملية العسكرية ضد حماس في قطاع غزة”، كما أظهر التحقيق أنه حدثت زيادة كبيرة في مستوى الاستعداد، سواء في عدد الدورات التدريبية، أو مخزون الذخيرة، أو قطع الغيار، أو غيرها. وبعد يومين من ذلك التقرير، تم إجراء تحقيق من قبل المراقب الخاص للجيش الإسرائيلي الجنرال “إيلان هراري”، أكد فيه أن حالة استعداد الجيش تحسنت بشكل كبير، وأن العديد من الجهود بُذلت لتطويره، وخاصة القوات البرية.
لكن -في الوقت نفسه- اتفق التحقيق مع الجنرال “بريك” فيما يتعلق بالحاجة إلى إجراء تحسينات في مجالات مثل اللوجستيات والموظفين وأنظمة القيادة والتحكم وخدمة ضباط الصف في مرافق تخزين الحرب. ودعا التحقيق إلى زيادة الميزانية السنوية للجيش بمقدار 1.5-2.5 مليار شيكل (400-667 مليون دولار) لضمان بقاء القوات البرية في حالة جيدة.