الضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية لأهداف إيرانية على أرض سوريا تقود إلى تساؤل مهم: هل نحن أمام حرب محتملة بين طهران وتل أبيب على الأراضي السورية؟ أم إن الطرفين لا يسعيان للدخول في حرب وأن هذه الضربات ما هي إلا تحذيرات من باب استعراض القوة؟ وما هي فرص ومستويات المواجهة بين إسرائيل وإيران وشروط تحققها إذا كانت ممكنة؟
لقد نفذت إسرائيل خلال عام 2018 أكثر من 70 ضربة جوية وصاروخية على سوريا، زعمت تل أبيب خلال بعضها استهداف أهداف إيرانية، تنوعت بين طائرات درونز، ومصانع للصواريخ، ومقتل عشرات الجنود الإيرانيين ممن قاتلوا بجانب النظام السوري، إلى جانب استهداف مواقع تابعة لفيلق القدس. واللافت للنظر أن الرد الإيراني جاء دائمًا متأخرًا وبدون تفاصيل، بجانب عدم التعليق على الخسائر المعلنة من جانب إسرائيل. وبشكل عام، لم تخرج ردود الفعل الإيرانية عن العناصر الثلاثة التالية:
– التأكيد على أن الوجود الإيراني في سوريا هو وجود “استشاري” وليس عسكريًّا.
– تقديم إيران الدعم الكامل لسوريا، والوقوف بجانب الرئيس “الأسد”.
– إصدار تصريحات إعلامية “نارية” ضد تل أبيب دون الخوض في تفاصيل الهجمات. ومن تلك التصريحات، على سبيل المثال، تهديد نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني “حسين سلامي”، بزوال إسرائيل بقوله: “سنحقق نبوءة المرشد الأعلى بزوال إسرائيل قبل 20 عامًا”. وللوقوف على مدى جدية هذه التهديدات الإيرانية ضد إسرائيل، لا بد من العودة إلى السياق العام للعلاقات الإيرانية الإسرائيلية قبل موجة الربيع العربي.
تجنب إسرائيل الدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة مع إيران ليس وليد المرحلة الحالية، لكن يعود إلى بدء التوتر الإسرائيلي الإيراني على خلفية البرنامج النووي الإيراني. فرغم الضغوط الشديدة التي مارستها إسرائيل على الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” لمنع إيران من تطوير قدراتها النووية العسكرية؛ إلا أنها حرصت -في الوقت ذاته- على توصيل رسائل واضحة على تجنب إسرائيل هذه المواجهة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي “إيهود باراك” في فبراير 2010: “إيران لا تشكل تهديدًا وجوديًّا على إسرائيل”، وتصريح “مئير داغان” (الرئيس السابق للموساد) عام 2011: “إسرائيل لا تستطيع الصمود في وجه صراع إقليمي تشعله ضربة إسرائيلية لمنشآت إيران النووية. إسرائيل لا تمتلك سوى القدرة على تأخير طموحات إيران النووية وليس إيقافها”.
لكن هذا الموقف الإسرائيلي شهد تغيرًا ملموسًا خلال السنوات الأخيرة؛ فخلال السنوات الثلاث الأخيرة تمكن الجيش السوري بدعم من الحلفاء من استرداد معظم الأراضي السورية من قبضة الميليشيات الإرهابية، وأصبح للوجود الإيراني اليد العليا في حسم العديد من ملفات الأزمة السورية، الأمنية منها والسياسية. ومع اتخاذ الدور الإيراني في سوريا منحنى تصاعديًّا، بدأت المخاوف الإسرائيلية تزيد بعد أن أصبحت إيران تتواجد ضمن نطاق أمنها القومي بالتماس مع الجولان المحتلة، الأمر الذي استدعى تنفيذ ضربات إسرائيلية داخل الأراضي السورية، بلغت خلال الفترة من 2011 إلى فبراير 2018 (78) ضربة صاروخية وجوية. لكن يبدو أن الاستراتيجية الأمريكية في عهد الرئيس “دونالد ترامب” تجاه إيران (والتي شملت: الانسحاب من الاتفاق النووي الموقّع مع إيران، وفرض عقوبات اقتصادية على كيانات وقيادات إيرانية، ناهيك عن تحذير الدول من التعاون مع إيران وإلا ستطالها العقوبات) أصبحت مرضية إلى حدٍّ كبير للجانب الإسرائيلي. فعلى الرغم من وجود إيران وحزب الله والجيش السوري في محيط إسرائيل، إلا أن نتائج العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، وسريان الاقتصاد الإيراني في طريق الانهيار، وفقدان العملة الإيرانية أكثر من ثلثي قيمتها بعد الانسحاب (الدولار الأمريكي يساوي 42,105.00 ريال إيراني)، واستمرار الاحتجاجات والإضرابات بسبب عدم تلقي الرواتب لأكثر من 6 أشهر في بعض المؤسسات؛ يقودنا إلى نقطة مهمة وهي أنه حتى إذا تمكّنت إيران من تطوير برنامجها النووي فلن تسلم من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، أي قنبلة نووية بلا دولة. وهذا الهدف رغم أنه يتخذ خطوات بطيئة نسبيًّا مقارنةً بالحرب المباشرة، لكنّ الخسائر التي قد تلحق بالعمق الإسرائيلي جراء الدخول في حرب مع إيران ستكون خسائرها أكبر بكثير من مكاسبها الحالية.
ولم تخلُ فترة حكم الرئيس الإيراني السابق “محمود أحمدي نجاد” (2005-2013) من المناوشات والتصعيد الإعلامي بين إيران وإسرائيل. فخلال هذه الفترة أيضًا كان هناك اعتراف من حركة حماس بتلقيها الدعم المادي من طهران. في ذلك الوقت، أي قبل الربيع العربي، كانت إيران تُدير عملية توغل داخل إسرائيل عن طريق حركة حماس، مع تجنب أية مواجهات مباشرة مع إسرائيل. أما على مستوى الخطاب الإيراني الرسمي، فقد اتسم بالازدواجية في تصريحاته تجاه تل أبيب، وهي سمة بارزة في الخطاب الرسمي الإيراني بشكل عام. ففي عام 2009 -على سبيل المثال- هنأ “أحمدي نجاد” حماس بـ”انتصارها” على إسرائيل، وفي 2012 بارك الهدنة بين حماس وإسرائيل.
ومع توصّل إيران إلى الاتفاق النووي في عهد الرئيس الإيراني “حسن روحاني”، شهدت إيران في أواخر عهد “أوباما” استقرارًا نسبيًّا، انعكس بدوره على دعم الحكومة السورية وبناء إيران علاقاتها مع بعض الدول وفتح أبواب للاستثمار في الداخل الإيراني، لكن قبل أن يجفّ حبر قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بالانسحاب من الاتفاق النووي (مايو 2018)، تبادلت إيران وإسرائيل رسائل “صاروخية” غير مسبوقة. وتحولت إيران من صاحب “الماريونيت” الذي يحرك حماس وحزب الله دون النزول لساحة القتال، إلى “الفتوة” الذي يخوض معاركه بنفسه.
وقد أدخل هذا الانسحاب من الاتفاق النووي إيرانَ في متاهة من الأزمات؛ فالحكومة الحالية لم تقدم حلولًا تتواكب مع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، ولم تستطع احتواء غضب الشارع، ولا حتى تمكنت من كسب التيارات المحافظة المتشددة المعارضة لها، الأمر الذي تسبب في انهيار العملة واستمرار موجات الاحتجاجات التي لا تتوقف. وبالرغم من نجاح الجيش السوري وحلفائه في الحرب على الإرهاب، إلا أن الخلافات الداخلية في إيران، تجعلها تتجنب نشوب حرب مع إسرائيل حتى إنها لا تُفصح عن تفاصيل الهجمات الإسرائيلية عليها ولا تتحدث عن خسائرها.
خلاصة القول، إن إيران تحاول ترسيخ أقدامها في سوريا والحفاظ على زخم القوى الموالية للحكومة السورية هناك، وتعمل على تجنب نشوب حرب مع إسرائيل. كما أن إسرائيل تنتقي اللحظة المناسبة للإجهاز على المصالح الإيرانية في سوريا دون الدخول في حرب مباشرة. بمعنى آخر، إسرائيل لا تريد خسائر على أرضها، ولا تريد خوض حرب ضد إيران بمفردها، خاصة في ظل حديث الولايات المتحدة عن الانسحاب من سوريا، وإلا لماذا تسعى الولايات المتحدة إلى وجود ناتو عربي يواجه إيران؟ من ناحية أخرى، فقد أصبح صانع القرار الإيراني مشتتًا بين المطالب الداخلية والضغوط الخارجية وتداعيات وتكاليف العقوبات الأمريكية. ورغم كل هذا لن تتوقف الهجمات الإسرائيلية على أهداف إيران في سوريا، لكنها لن تتطور إلى مستوى الحرب.