لسنوات طويلة كان الاقتصاد هو المحرك الاول لسياسات الدول داخليا وخارجيا، فعلى المستوى الدولى كانت حرية التجارة والاعتماد المتبادل أو ما يعرف بالعولمة الاقتصادية هى الأيديولوجية المعتمدة لكثير من دول العالم، وعلى المستوى الداخلى كانت القناعة السائدة هى أن نتائج التصويت ترتبط بحجم الانجاز الاقتصادى، وأن جيب الناخب هو الذى يحدد خياراته أمام صندوق الاقتراع. ولكن يبدو أن هذه القواعد الاقتصادية لم تعد بنفس القوة، وبدأ منطق السياسة يحل محل منطق الاقتصاد فى العديد من القضايا الداخلية والخارجية. على سبيل المثال كيف نفسر تصويت غالبية البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبى، رغم أن هذا الخروج يتعارض مع المنطق الاقتصادى الرشيد، والذى يقوم على فكرة السوق الموحدة الكبيرة، التى تزداد فى ظلها كفاءة عناصر الانتاج، وترتفع جودة السلع والخدمات وينخفض سعرها. وكيف نفسر أيضا تصويت غالبية المواطنين الأمريكيين للحزب الديمقراطى فى انتخابات التجديد النصفى الأخيرة للكونجرس التى جرت فى نوفمبر الماضى، رغم أن الرئيس ترامب وحزبه الجمهورى قد حققا مستويات نمو وفرص عمل غير مسبوقة خلال العامين الماضيين. وكيف نفسر خروج الفرنسيين فى مظاهرات ضخمة ضد سياسات الرئيس ماكرون رغم أنهم انتخبوه منذ نحو عام و نصف العام لتحقيق إصلاح اقتصادى. فى الهند أيضا خسر حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم العديد من المقاعد فى انتخابات فرعية للبرلمان جرت منذ شهر، وجعلت البعض يتنبأ باحتمال خسارته للأغلبية البرلمانية فى الانتخابات المقبلة التى ستجرى هذا العام، رغم أنه حزب رئيس الوزراء الهندى ناريندرا مودى والذى تبنى إجراءات إصلاح اقتصادى ناجحة فى الهند.
تفسير كل ما سبق يكمن فى السياسة قبل الاقتصاد، ففى المملكة المتحدة صوت الناخبون لمصلحة البريكست نتيجة لاعتقادهم أن مؤسسات الاتحاد الأوروبى وسياسات الاندماج تمثل تعديا على السيادة البريطانية، وطالبوا باستعادة سيادتهم الوطنية، وكما أشار البعض فإن الخسارة السياسية للسيادة هى أكبر من الفائدة الاقتصادية للاندماج. كما تخوف الناخبون ايضا من زيادة اعداد المهاجرين، وتآكل الهوية الوطنية نتيجة للحدود المفتوحة وعدم انصهار المهاجرين فى الثقافة والمجتمع البريطانى. وفى الولايات المتحدة كانت قضية الهجرة, إضافة إلى التأمين الصحى, هى القضايا الرئيسية التى حسمت نتائج انتخابات مجلس النواب لمصلحة الديمقراطيين. حيث تبنى الحزب الديمقراطى رؤية تقوم على أهمية مساهمة الدولة فى تقديم الرعاية الصحية للمواطنين وخاصة غير القادرين منهم، كما تبنوا رؤية ليبرالية لسياسات الهجرة تنظر للولايات المتحدة على أنها دولة تقوم على التعددية العرقية والثقافية وليس على القومية البيضاء فقط. أما فى فرنسا فالمطالب لم تكن فقط اقتصادية، بل طالب المتظاهرون الحكومة بتبنى أسلوب الاستفتاء الشعبى لإقرار السياسات العامة الرئيسية وذلك لفقدانهم الثقة فى النخب السياسية. وفى الهند، أصبحت حالة اللايقين السياسى التى تشهدها البلاد فى ظل التخوف من فقدان حزب رئبس الوزراء مودى الأغلبية البرلمانية فى الانتخابات المقبلة هى العقبة أمام التقدم فى سياسات الإصلاح الاقتصادى، وكما يقال فإن اللايقين هو عدو الاستثمار. أما على المستوى الدولى، فمن الواضح أن القومية السياسية أصبحت تطرح كبديل للعولمة الاقتصادية، وبدأت تضعف فكرة أن النظام الاقتصادى العالمى القائم على حرية التجارة هو مباراة إيجابية يمكن أن يستفيد منها الجميع، وبدأ يحل محلها فكرة أن هذا النظام هو مباراة صفرية، بمعنى أن مكاسب أحد الأطراف هى بالضرورة خسائر لطرف آخر. وعاد مرة أخرى منطق الجيوبولتيكس (الجغرافيا السياسية) وليس الاعتماد الاقتصادى المتبادل كأساس للتنافس بين القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والصين، فى إطار سعيهما للحصول على المزيد من النفوذ السياسى والاستراتيجى حول العالم.
باختصار نحن أمام عالم جديد، أصبحت فيه المطالب السياسية لا تقل أهمية عن المطالب الاقتصادية، وأصبحت فيه السياسة وليس الاقتصاد فقط محددا رئيسيا فى تصويت الناخبين، عالم تسعى فيه القومية لأن تكون بديلا للعولمة الاقتصادية، وتحتل فيه السيادة السياسية لبعض الدول الأولوية على الفوائد التى تجنيها من علاقتها الاقتصادية.
*نقلًا عن صحيفة “الأهرام”، بتاريخ ١١ يناير ٢٠١٩.