في الخامس والعشرين من نوفمبر من عام 2018، قام رئيس جمهورية تشاد “إدريس ديبي إتنو” بزيارة إسرائيل، ليصبح أول رئيس تشادي يقوم بمثل هذه الزيارة، ولينهي قطيعة دبلوماسية بين البلدين استمرت أكثر من 46 عامًا. وقد شارك “ديبي” في لقاء مغلق على مستوى القمة جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” عُقد في مقر إقامة رئيس الوزراء في القدس.
وفي المؤتمر الصحفي الذي أعقب اللقاء، أعرب “ديبي” عن التزام الجانبين بإطلاق عهد جديد من التعاون سيشهد إعادة العلاقات الدبلومسية بين البلدين. كما أعرب “ديبي” عن قبوله بفخر الدعوة الإسرائيلية للزيارة والتي أذابت الجليد بين الجانبين من وجهة نظره، معتبرًا إسرائيل دولة “مهمة” تشترك مع تشاد في كون البلدين يحاربان الإرهاب. وقد شهد المؤتمر الصحفي توجيه “نتنياهو” الشكر للرئيس التشادي، معتبرًا زيارته لإسرائيل زيارة “تاريخية”، مؤكدًا أن تشاد دولة مهمة جدًّا لإسرائيل.
وقد حملت هذه الزيارة العديد من الإشارات ذات الانعكاسات الإقليمية المهمة، نوجزها فيما يلي:
1- الكشف عن علاقات ممتدة بين إسرائيل وتشاد:
العلاقات بين الجانبين استمرت لعقود على الرغم من القطيعة الدبلوماسية. هذه الحقيقة أكدها رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي أعلن في المؤتمر الصحفي أن العلاقات بين الجانبين لم تتوقف مطلقًا، وهو ما أكده الرئيس التشادي الذي صرح بأن قطع العلاقات الدبلوماسية لم يمنع العلاقات الطيبة بين الجانبين. وقد شهد العامان الماضيان تصاعدًا في كثافة التفاعلات بين البلدين. ففي يوليو من عام 2016، استقبل “إدريس ديبي” المديرَ العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية في ذلك الوقت “دوري جولد”، في مباحثات أولية للتمهيد لاستعادة العلاقات بين الجانبين. وفي سبتمبر 2018 عُقد اجتماع غير معلن في نيويورك بين مستشار الأمن الوطني الإسرائيلي “مائير بن شابات” ووزير الخارجية التشادي “شريف محمد زين”، وهو الاجتماع الذي مهّد لزيارة وفد إسرائيلي رفيع المستوى لتشاد سبقت زيارة “ديبي” لإسرائيل بأيام.
2- تأثير الانقسامات السياسية الإسرائيلية على توجهاتها الخارجية:
طوال عقود مضت آثرت إسرائيل أن تُبقي علاقاتها بعدد من الدول العربية والإفريقية غير معلنة رفعًا للحرج عن هذه الدول، وتغليبًا لاعتبارات الجدوى والفاعلية على اعتبارات الترويج لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. لكن في ظل أزمات سياسية تعصف بالحكومة الإسرائيلية، يحرص “بنيامين نتنياهو” على إبراز نجاحاته في ملف السياسة الخارجية، الأمر الذي جسّده إصراره في المؤتمر الصحفي على تذكير الرأي العام الإسرائيلي بما أحدثه شخصيًّا من تطور كبير في مجال العلاقات الإسرائيلية – الإفريقية. فقد أكد “نتنياهو” في المؤتمر الصحفي أهميةَ زياراته في العامين الماضيين لدول شرق وغرب القارة، وتطلعه لزيارة دول وسط إفريقيا في المستقبل، في إشارة إلى زيارة محتملة لتشاد.
وفي المقابل، سعت المعارضة الإسرائيلية لاستغلال الزيارة في مهاجمة رئيس الوزراء، حيث شنت “تامار زاندبرج” (عضو الكنيست ورئيسة حزب ميرتس اليساري المعارض) حملة إعلامية طالبت فيها “نتنياهو” بالكشف عن طبيعة المباحثات المغلقة بينه وبين “إدريس ديبي”، وتوضيح حقيقة ما إذا كانت هذه المباحثات تضمنت الاتفاق على إمداد تشاد بأسلحة إسرائيلية، وهو ما تعارضه “زاندبرج” بحجة انتهاك الحكومة التشادية المستمر لحقوق الإنسان. وقد لاقت هذه القضية اهتمامًا إعلاميًّا، حيث طُرح على “نتنياهو” في المؤتمر الصحفي سؤال بشأن مبيعات السلاح إلا أنه رفض الإجابة عليه.
3- الرحلات الجوية المباشرة بين إسرائيل وأمريكا اللاتينية:
استغلت إسرائيل زيارة “إدريس ديبي” للإشارة إلى تطورات إيجابية تتعلق بعلاقاتها مع عددٍ من الدول الإفريقية، فخلال الزيارة صرح مسئول إسرائيلي رفيع المستوى للقناة العاشرة الإسرائيلية بأن استقبال الرئيس التشادي يأتي كجزء من خطة إسرائيلية لتمهيد الأرض أمام التطبيع الكامل للعلاقات مع عدد من الدول الإفريقية ذات الأغلبية المسلمة. كما شهدت الزيارة إعلان إسرائيل عن اهتمامها بفتح المجال الجوي التشادي أمام الملاحة الجوية الإسرائيلية، وذلك بما يسمح بتسيير رحلات جوية مباشرة من إسرائيل لأمريكا اللاتينية، وهو المسار الذي تجنبته إسرائيل طويلًا في السابق. وقدرت المصادر الإسرائيلية المدة الزمنية المختصرة للرحلة الجوية المباشرة من إسرائيل للبرازيل بالعبور فوق الأجواء التشادية بأكثر من أربع ساعات بحيث تنخفض المدة من 17 ساعة إلى 13 ساعة.
4- مركزية الملف الليبي المسكوت عنه:
أخذت جلسة المباحثات الأساسية التي جمعت الرئيس التشادي برئيس الوزراء الإسرائيلي الطابع المغلق، إذ لم يعلن عن كامل تفاصيلها لوسائل الإعلام. لكن المصادر الرسمية من الجانبين أكدت غلبة الطابع الأمني على هذه المباحثات. وتعاني تشاد في ظل اتساع رقعتها الجغرافية ومحدودية قدرات مؤسساتها العسكرية والأمنية من ضعف هيكلي في مواجهة التحديات الأمنية المتصاعدة، حيث تواجه تشاد بؤرتين للتهديد الأمني، إحداهما في أقصى الجنوب الغربي والتي كانت هدفًا للعديد من العمليات الإرهابية التي نفذتها عناصر تنظيم “بوكو حرام” التي تعبر بحيرة تشاد باستخدام زوارق تنقلها من معقلها في الشمال الشرقي لنيجيريا إلى الجنوب الغربي لتشاد. أما بؤرة التهديد الأمني الثانية فتمتد على طول الحدود الشمالية لتشاد التي تفصلها عن الجنوب الليبي الخارج عن السيطرة الأمنية منذ سقوط نظام العقيد القذافي.
فقد شهد عام 2018 العديد من مظاهر التصعيد على الجبهة الشمالية المحاذية للحدود مع ليبيا، حيث شهد شهر أغسطس الإعلان عن أولى العمليات العسكرية لتنظيم متمرد حمل اسم “مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية”، والذي ينتمي غالبية مقاتليه لجماعة “تبو”، كبرى جماعات شمال تشاد، ويضم أكثر من 4000 مقاتل، ويستهدف الإطاحة بالرئيس “إدريس ديبي”. وفي ظل غياب سلطة الدولة عن المناطق الشمالية قامت الجماعات المتمردة في الأعوام الأخيرة بتأسيس قاعدة اقتصادية قوية تمثلت في النشاط التعديني عبر التنقيب عن المعادن الثمينة وعلى رأسها الذهب، فضلًا عن تهريب الأفراد والبضائع عبر الحدود الليبية.
وتعتمد تشاد اعتمادًا شبه كامل على الخارج في مواجهة التحديات الأمنية. ففي الجنوب الغربي تتلقى تشاد عونًا فرنسيًّا في إطار مجموعة دول الساحل الإفريقي الخمس G5 Sahel والتي تأسست عام 2014، وتضم بجانب تشاد كلًّا من: موريتانيا، ومالي، وبوركينافاسو، والنيجر، وهو ما يتكامل مع الدعم الأمريكي الذي تحصل عليه حكومات الدول الخمس كل على حدة. وبينما تتركز المساعدات الغربية لتشاد في فرض الأمن في جبهة الجنوب الغربي، جاء التدهور السريع في الجبهة الشمالية ليفتح الباب أمام مصدر جديد للدعم الأمني، حيث تمكنت إسرائيل بنجاح من استغلال الاحتياجات الطارئة لحكومة تشاد في مواجهة التمرد في الشمال، وهو ما أكدته تصريحات مسئول أمني تشادي لوكالة “رويترز” بأن إسرائيل سبق وأرسلت خلال العام الجاري دعمًا بالأسلحة والمعدات العسكرية لتشاد لدعمها في مواجهة التنظيمات المتمردة في شمال البلاد، وهو ما مثّل دعمًا لا غنى عنه للحملة العسكرية الموسعة التي تشنها القوات التشادية في الشمال منذ سبتمبر الماضي.
وبالجمع بين ثلاثة عناصر، هي: تأكيد كل من تشاد وإسرائيل على محورية الملف الأمني، والدعم الذي قدمته إسرائيل فعليًّا للحملة العسكرية في الشمال القريب من الحدود الليبية، والتطورات السياسية والأمنية التي يشهدها الملف الليبي مؤخرًا؛ يمكن تصور الأهمية المركزية التي حملها الملف في مباحثات الرئيس التشادي ورئيس الوزراء الإسرائيلي.
5- آفاق العلاقات المصرية – التشادية:
من بين الإشارات المهمة التي حملتها زيارة الرئيس التشادي لإسرائيل التأكيد على الأهمية الجيوسياسية المتنامية لدول الساحل الإفريقي وفي مقدمتها تشاد. وقد أدركت مصر هذه الحقيقة في السنوات الأخيرة، حيث شهدت العلاقات المصرية التشادية تطورًا غير مسبوق عكسته اللقاءات المتكررة على مستوى القمة، سواء في القاهرة في ديسمبر من عام 2014، ثم في نجامينا في أغسطس من عام 2017، فضلًا عن مشاركة الرئيس التشادي في أعمال الدورة الأولى لمنتدى شباب العالم في نوفمبر من عام 2017.
وبالرغم من ضرورة التنبه لما تحمله زيارة “إدريس ديبي” لإسرائيل من إشارات تحذيرية؛ إلا أن العديد من الشواهد تعزز من أهمية استمرار مصر في مسار التقارب مع تشاد مستقبلًا. فالعلاقات بين إسرائيل وتشاد قديمة وعلنية، ولم يكن لها تأثير يُذكر على العلاقات المصرية التشادية. كذلك، وبالرغم من الأهمية الرمزية للزيارة، كون تشاد دولة ذات أغلبية مسلمة؛ إلا أن الموقف الرسمي لتشاد من القضية الفلسطينية لم يشهد أيًّا من مظاهر التغير، فخلال لقائه برئيس الجمهورية الإسرائيلي “رؤفين ريفلين”، أكد “إدريس ديبي” أن إعادة بلاده العلاقات مع إسرائيل لن يعني حل القضية الفلسطينية، وأنه متمسك بتسوية القضية وفق القواعد المقبولة لدى مجلس الأمن والجامعة العربية والمتجسدة في اتفاق مدريد للسلام. وعلى جانب آخر، يأتي مصدر التهديد الأساسي للمصالح المصرية من إيجاد إسرائيل موطئ قدم يسمح لها بالتأثير المباشر على الجنوب الليبي، وهو ما يستدعي تكثيف التواصل مع الجانب التشادي، وتقديم العون الممكن في ملف إدارة الحدود التشادية الليبية.
وختامًا، جاءت زيارة الرئيس التشادي لإسرائيل لتكشف عن أوضاع جديدة في المنطقة، وهو ما أكده ما نقلته مصادر إسرائيلية عن مسئولين تشاديين أرجعوا استمرار القطيعة الدبلوماسية مع إسرائيل إلى الضغط الذي مارسته ليبيا بقوة طوال فترة حكم العقيد “معمر القذافي”. وعلى هذا، تفرض الأوضاع الجديدة التي لا تزال في طور التشكل على مصر بذل المزيد من الجهد بغرض استعادة التوازن في نطاقات اهتماماتها الاستراتيجية في القارة الإفريقية.