على مدى الأسابيع القليلة الأخيرة، شاهد إسرائيليون كثيرون لافتات كبيرة في الطرقات، كُتِب عليها: “بيبي، حفاظًا على أمن إسرائيل، آن الأوان للانفصال”. المسئولون عن هذه الحملة هم أعضاء حركة “ضباط من أجل أمن إسرائيل”، التي تضم ضباطًا سابقين في الجيش الإسرائيلي، ومن الأجهزة الأمنية (الموساد، والشاباك، والشرطة). وبحسب البيانات الصادرة عن هذه المجموعة، تهدف الحملة إلى مناشدة رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” للانفصال عن الفلسطينيين. وبحسب أحد بياناتهم: “على الحكومة أن تضع سياسة مسئولة لمنع ضم الأراضي، وتقود مبادرة للانفصال، قبل أن نزعزع استقرار الأغلبية اليهودية، ونعرّض مواطني إسرائيل للخطر”. ومن وجهة نظر أحد أعضاء الحركة: إن بحثًا شاملًا قد أُجري من جانبهم، ووجدوا أن ضم أراضي المنطقة “ج” إلى دولة إسرائيل يؤثر تأثيرًا هدامًا من النواحي الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
بمعنى آخر، فإن الضم حتى لو لم يشتمل إلا على هذه المنطقة فقط، والتي تبدو مغرية، كونها لا تحوي كثافة سكانية فلسطينية كبيرة؛ فإن ضمها سيؤدي حتمًا إلى تأثير الدومينو الذي يتضمن وقف التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية، كما يتضمن احتمالًا كبيرًا بحدوث تدهور ونشوب عنف في الأراضي، ما يؤدي إلى احتلال منطقتي “أ” و”ب” مجددًا اللتين تتضمنان 2.6 مليون فلسطيني.
ولا يبدو أن هذه الحركة قد اتخذت صورة تنظيم له طبيعة مؤسسية، فربما تكون مجرد مبادرة من عددٍ من رجال الجيش والأمن السابقين كامتداد لمبادرة شبيهة قام بها قبل نحو أربعين عامًا، وبالتحديد عام ١٩٧٨، نظراء لهم، وجدوا في مبادرة الرئيس الراحل “أنور السادات” فرصة لا ينبغي تفويتها لتحقيق السلام بين إسرائيل والعرب. لكنّ حركة الضباط الأقدم عام ١٩٧٨ كان لها تأثيرها في تعبئة الرأي العام الإسرائيلي للوقوف في وجه رئيس الوزراء اليميني المتطرف آنذاك “مناحم بيجِن”، ومنعه من إهدار هذه الفرصة.
فهل يمكن أن تؤدي حركة “ضباط من أجل إسرائيل” إلى نفس التطور الذي قادته مجموعة الضباط الأقدم الذين بلغ عددهم ٣٠٠ ضابط من رتب مختلفة آنذاك؟
فروقات وتوافقات واضحة بين الحركتين
لكي نحاول توقع تأثير الحركة الحديثة “ضباط من أجل أمن إسرائيل” على الأوضاع الراهنة، لا بد من رصد التوافق والاختلاف بينها وبين الحركة الأقدم التي وُضعت تحت مسمى “حركة السلام الآن”:
أولًا: في الوقت الذي كانت فيه حركة “السلام الآن” نتاجًا لأجواء إيجابية جعلت من السلام فكرة يمكن التجاوب معها بين الجانبين المصري والإسرائيلي على المستوى الشعبي، على خلفية الانتصار الذي حققته مصر في حربها ضد إسرائيل عام ١٩٧٣، ما جعلها تطلب السلام من موقع قوة، وكون إسرائيل -على الجانب الآخر- قد تخلصت من وهم أنها قوة لا تُقهر، وأن بإمكانها الاحتفاظ بسيناء إلى الأبد بعد حرب 1967 ومن دون تحقيق تسوية سلمية للصراع. في الوقت الذي كان الوضع فيه على هذه الصورة حينها، فإن الوضع الراهن بين الفلسطينيين وإسرائيل يحفل بالشك المتبادل، والمرارة الناتجة عن انسداد أي أفق للتفاؤل بسبب التحديات الأمنية القادمة من غزة، وتدهور العلاقات مع السلطة الفلسطينية في رام الله، والمواجهات المتقطعة -الواسعة أحيانًا، والمحدودة في أحيان أخرى- بين إسرائيل والفلسطينيين التي تخلّف قتلى وضحايا من الجانبين، وتخلق أجواء معادية لفكرة السلام بينهما على النطاق الشعبي.
ثانيًا: في الوقت الذي كانت فيه كلمة “من أجل السلام” هي عنوان الحركة القديمة عام ١٩٧٨؛ فإن عنوان حركة الضباط الحالية هو “من أجل إسرائيل”، وهو ما يعكس مدى إدراك الحركة الحالية للتحولات التي حدثت في الإدراك الشعبي لمعنى كلمة “السلام” التي ارتبطت باتفاق أوسلو عام ١٩٩٤، والتي انتهت بتبلور أغلبية في أوساط الرأي العام الإسرائيلي، لا تعلن رفضها لهذه الاتفاقية فحسب، بل تُعلن عدم ثقتها الكاملة في كلمة “السلام” على إطلاقها. وبالتالي، بَنَت حركة “ضباط من أجل إسرائيل” منطلقاتها الفكرية على أساس واقعي، والذي يتواءم مع القناعات الثلاث التي باتت تحتل عقل أغلبية الجمهور الإسرائيلي، وهي:
– عدم وجود شريك من أجل السلام على الجانب الفلسطيني.
– أن الفلسطينيين لا يريدون تأسيس دولة مستقلة لهم ولا يسعون للسلام، بل يهدفون إلى إبادة إسرائيل، سواء عبر الحرب، أو عبر ما يسميه اليسار الإسرائيلي “السلام”.
– أن الخطر الديموغرافي على إسرائيل هو خطر حقيقي، ولا حل لمواجهته إلا من خلال “الانفصال” عن الفلسطينيين.
بمعنى أكثر وضوحًا، بلورت حركة ضباط ١٩٧٨ شعاراتها على ما كان المجتمع الإسرائيلي يتعطش إليه في ذلك الوقت، ويعتقد في إمكانية تحقيقه بمبادرة الرئيس “السادات” له، وهو السلام والعلاقات الطبيعية. أما حركة “ضباط من أجل إسرائيل” فتتعامل مع الانفصال على أنه المفتاح السحري لحشد المجتمع الإسرائيلي المتعطش لحل لا يتضمن الاعتناء بمصير الفلسطينيين، بقدر ما يهتم بأمن وصورة إسرائيل في الخارج وأمام شعبها.
ثالثًا: في حين ظهرت حركة “السلام الآن” ردًّا على مماطلة “مناحم بيجِن” في الاستجابة لمبادرة الرئيس “السادات”، والتي اتضحت بعد أن اتخذ الرئيس “السادات” في يناير ١٩٧٨ قرارًا بوقف الاتصالات مع إسرائيل لبحث التسوية النهائية احتجاجًا على رد “بيجِن” السيئ عمليًّا على مبادرته؛ فإن حركة “ضباط من أجل إسرائيل” ظهرت قبل فترة قليلة من طرح مبادرة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” (صفقة القرن) في مطلع عام 2019. وعلى جانب آخر، فإنه مثلما بنى ضباط حركة ١٩٧٨ مبادرتهم على تحركات طلاب ومحامين إسرائيليين كانت أسبق منهم، وطالبت “مناحم بيجِن” بالتجاوب مع مبادرة الرئيس “السادات”؛ فإن حركة “ضباط من أجل إسرائيل” تبدو وكأنها تتجاوب بشكل غير مباشر -ودون تطابق- مع الخطاب الذي تتبناه حركات سلام أخرى، مثل الحركة التي تطلق على نفسها اسم “نساء يصنعن السلام” التي قادت منذ تأسيسها عام ٢٠١٤ عدة مظاهرات تدعو لتحقيق السلام مع الفلسطينيين، وكان آخرها مظاهرة حاشدة في الرابع والعشرين من سبتمبر 2018. هذه الحركة التي أسستها مجموعة من النساء تؤكد أنها لا تدفع إلى حل سياسي معين، وإنما مجهودها الرئيسي -كما تقول- هو إعادة كلمة “السلام” إلى الخطاب العام، وتشكيل قوى نسائية تتحدث لغة السلام والمحبة، دون الانضواء تحت أية راية سياسية. وتقول النساء اللاتي يرأسن الحركة، إنها أضحت منذ إقامتها حركة السلام صاحبة النشاط الميداني الأكبر في إسرائيل. ويتراوح عدد المنتسبات إلى الحركة بين 20 إلى 40 ألف امرأة، يُمثّلن طيفًا واسعًا من المجتمع الإسرائيلي، من اليمين واليسار، من اليهود والفلسطينيات العرب، من المركز والأطراف.
وعلى الرغم من أن إحدى الحركتين كانت تستخدم كلمة “السلام”، في حين تتمحور الأخرى حول كلمة “الانفصال”؛ إلا أنهما تسعيان إلى الهدف نفسه، وهو الابتعاد عن الاحتكاك بالفلسطينيين، سواء أُقيمت دولة فلسطينية أم لم تقم، وهو ما يظهر بوضوح في تجاهل حركة “ضباط من أجل إسرائيل” التفكيرَ في مصير الأراضي الفلسطينية إذا ما تحقق ما تطالب به وهو الانفصال، وتأكيد حركة “نساء يصنعن السلام” أنها لا تتبنى حلًّا سياسيًّا محددًا (حل الدولتين مثلًا). ويذكرنا حذرُ واضطرابُ أطروحات الحركتين بما كان ملحوظًا في مصر عقب قيام “السادات” بطرح مبادرته لزيارة إسرائيل في نوفمبر عام ١٩٧٧؛ فقد رحب أغلب المصريين بالمبادرة، لكن كل اللافتات التي كانوا يرفعونها للتعبير عن هذا التأييد لم تكن تحوي كلمة “إسرائيل”. كان الترحيب بالسلام من جانب المصريين -إذن- مجردًا، ويتجاهل مع من سيتم عقد هذا السلام!
هل بإمكان الفلسطينيين الاستفادة من هذه الحركات؟
رغم الارتباك الواضح في التعامل مع قضية السلام من جانب الحركات الإسرائيلية الجديدة التي تدعو للانفصال عن الفلسطينيين بشكل عاجل وبتضحيات كبيرة؛ إلا أن مثل هذه الحركات يمكن استغلالها إذا أحسن الفلسطينيون والعرب توظيفها لصالح الضغط على اليمين الإسرائيلي. فالواضح تمامًا أن خطاب هذه الحركات يدعو إلى الامتناع عن ضم معظم أجزاء الضفة الغربية، بما في ذلك المنطقة “ج” التي تسيطر عليها إسرائيل وتزعم أنها لا تستطيع تركها لأهميتها الأمنية، وبالتالي إذا ما تجاوب الطرف الفلسطيني مع هذا الاتجاه حتى لو كان الثمن القبول بدولة منزوعة السلاح، تتوزع سيادتها على أراضيها بين مناطق كاملة السيادة، ومحميات طبيعية (غير مسموح للسلطة أو الدولة الفلسطينية بالبناء فيها)، ومناطق مؤجرة لفترة محددة، وأخرى يتم مبادلتها مع أراضٍ إسرائيلية (تحديدًا منطقة أم الفحم)؛ إذا ما تجاوب الطرف الفلسطيني مع هذا الطرح بشكل تكتيكي، فسيمكنه ذلك من وضع ضغوط هائلة على حكومة “نتنياهو” أو أي حكومة لليمين ستتشكل مستقبلًا حتى تقبل بالدخول في تسوية نهائية للصراع مع الفلسطينيين. ونعني هنا بالقبول التكتيكي هو الامتناع عن رفض “صفقة القرن”، وإعلان القبول بها إذا ما احتوت على اعتراف دولي وصريح بالدولة الفلسطينية، مع استغلال عامل الزمن والضغوطات التي ستتولد ضد إسرائيل جراء الممارسات اليومية داخل الدولة الفلسطينية المنتظرة، وفِي علاقة هذه الدولة بمحيطها الإقليمي والدولي، من أجل تعديل الاتفاق بما يتناسب مع معطيات الأمر الواقع الذي سيشهد حتمًا ظواهر تدفع في اتجاه تفكيك أكثر الأسس التي قامت على أكتافها الدولة العبرية، مثل: الأيديولوجيا الصهيونية، والهجرة إلى إسرائيل، والصهر الثقافي الداخلي تحت ضغط العدو الخارجي.