دخلت الانتفاضة السودانية يومها العشرين دون أن تتمكن حكومة الرئيس “عمر البشير” من إخمادها، أو حتى الحد منها، بل إن كل المَشَاهد الواردة من العاصمة الخرطوم والمدن السودانية الأخرى تؤكد أن الانتفاضة تشتد، وأنها تصبح أكثر تنظيمًا وقدرة على الحشد مع الوقت. كما أدى تدفق الشارع واستمرارية التظاهر إلى بلورة نوع من التنسيق والتوافق بين العديد من القوى المعارضة للنظام. وترافق ذلك مع خروج عددٍ من الأحزاب الصغيرة من الحكومة.
وفي المقابل، ظهر الرئيس “عمر البشير” في العديد من المناسبات العلنية، ووجه العديد من الخطابات، محاولًا احتواء ما يحدث، واعتباره ظاهرة مؤقتة سوف تفقد قوة اندفاعها ثم تنحسر، محاولًا التهوين من شأن ما يحدث تارة، أو استخدام لغة التهديد تارة أخرى، أو محاولًا اجتذاب التعاطف تارة ثالثة. يأتي ذلك في الوقت الذي التزمت فيه معظم الأسماء القيادية في الحكومة والحزب والنظام جانب الصمت، إلا من ظهور متأخر لرئيس الوزراء “معتز موسى”، أثناء عرضه خطاب ميزانية العام الجديد.
“إعلان الحرية والتغيير”
انطلقت الاحتجاجات -كما هو معروف- بشكل تلقائي من مدينة عطبرة في 19 ديسمبر من العام الماضي، وسرعان ما انتشرت في شرق ووسط السودان، وانتقلت إلى العاصمة. ولم تبدأ البوادر الأولى لتنظيم هذه الانتفاضة الشعبية، التي سبقت كل الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، إلا مع ظهور ما يُسمى “تجمع المهنيين السودانيين”، وهو كيان غير واضح الملامح، وقيادته غير معلنة، ويضمّ أطبّاء ومدرّسين ومهندسين، يبدو أنه يعبر عن قوى وكيانات نقابية غير رسمية، حيث تولى زمام المبادرة في تنظيم الاحتجاجات التلقائية. وقد نجح تجمع المهنيين في الدعوة إلى تجمع حاشد في وسط الخرطوم في 25 ديسمبر 2018، وإطلاق مسيرة نحو القصر الجمهوري لمطالبة الرئيس “البشير” بالتنحي.
وقد نجحت المسيرة في الاحتشاد وكسر حاجز الخوف، رغم أنها لم تستطع الوصول إلى القصر الجمهوري، بسبب تصدي قوات الشرطة لها. وأتبع تجمع المهنيين ذلك بتسيير موكبٍ ثانٍ إلى القصر الجمهوري في 31 ديسمبر، الذي يصادف عشية الاحتفال باستقلال السودان في الأول من يناير من كل عام.
ونتيجة لهذا النجاح، بدأ يتبلور نوع من التواصل والتنسيق بين القوى المعارضة وتجمع المهنيين، حيث انتهى ذلك في الأول من يناير 2019 إلى إصدار “إعلان الحرية والتغيير”، الذي أكد استخدام كافة أساليب النضال السلمي، حتى يتم الخلاص من نظام الإنقاذ وتحقيق الأهداف التالية:
1- التنحي الفوري للبشير ونظامه من حكم البلاد دون قيد أو شرط.
2- تشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني تحكم لأربع سنوات، وتضطلع بمجموعة من المهام (ورد تفصيلها في البيان).
3- وقف كافة الانتهاكات ضد الحق في الحياة فورًا، وإلغاء كافة القوانين المُقيِّدة للحريات، وتقديم الجناة في حق الشعب السوداني لمحاكمة عادلة، وفقًا للمواثيق والقوانين الوطنية والدولية.
وقد وقّع على هذا البيان بالإضافة إلى تجمع المهنيين، عدة تكوينات جبهوية معارضة تشمل معظم ألوان الطيف السياسي المعارض، هي: قوى الإجماع الوطني، ونداء السودان، والتجمع الاتحادي المعارض. وكان هناك نوع من الحرص لدى الموقّعين على هذا الإعلان على الإشارة إلى أن بنوده ستظل مفتوحة للتوقيع من القوى الراغبة، وكذلك للإضافة، خاصة فيما يتعلق بمهام الحكومة الانتقالية، وذلك لاستيعاب جميع هموم وطموحات الشعب السوداني.
والشاهد أن هذا الإعلان مثّل نواة لتجميع كل القوى المطالبة بالتغيير حول مطالب الحد الأدنى التي يمكن أن يتوافق عليها الجميع، تحاشيًا للخلافات التي يمكن أن تنجم عن الخلافات القائمة بين القوى السياسية، تبعًا لاختلاف برامجها وأولوياتها.
استمرار التظاهر والمسيرات
عقب تدشين هذا التحالف، بدأت المظاهرات والتجمعات تأخذ تسميات معينة، مثل: “جمعة الحرية”، و”جمعة الغضب”، و”موكب التنحي”. كما أصدر هذا التحالف في 3 يناير 2019 دعوة لبرنامج متواصل من المظاهرات والمواكب، بدءًا من الجمعة 4 يناير، مع الدعوة لموكب ثالث في 6 يناير 2019، ولكنه ينطلق هذه المرة من أربع نقاط مختلفة للتجمع وليس من ميدان واحد كما كان في السابق، وذلك بغرض تشتيت جهود الشرطة والقوى الأمنية وإرهاقها.
وقد نجحت هذه التظاهرات التي خرجت في الخرطوم وفي عدة مدن سودانية في الاحتشاد وفي إيصال رسالتها، وكانت مسيرة 6 يناير أكثر قوة وصمودًا في مواجهة محاولات تفريقها، خاصة في منطقة بري بالخرطوم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا البرنامج شمل أيضًا الدعوة إلى موكب ينطلق في الأربعاء 9 يناير إلى مباني المجلس الوطني في أم درمان لتسليم مذكرة تطالب برحيل النظام.
وكان من الملاحظ انتظام الشعارات حول المطالبة برحيل “البشير” ونظامه، والالتفاف حول قيم رئيسية، هي: “حرية، سلام، عدالة”. وكان من اللافت أيضًا ظهور بعض الشعارات التي ترفض التصنيفات الجهوية، وتقسيم وحدة الشعب، عبر توجيه اتهامات التخريب والخيانة إلى عدد من أبناء دارفور، فظهر شعار “يا العنصري يا المغرور.. كل البلد دارفور” وانتشر بكثافة.
الإدانة الدولية وتراجع أعداد القتلى
تراجع التعامل الأمني العنيف مع المتظاهرين، بعد أن أعلن المجتمع الدولي إدانته لأسلوب التعامل مع المحتجين، وارتفاع عدد القتلى والمصابين، خاصة بعد إعلان دول الترويكا (الولايات المتحدة، والنرويج، والمملكة المتحدة، وكندا) في 24 ديسمبر 2018، أنها تشعر بالقلق من استخدام حكومة السودان الذخيرة الحية في مواجهة المتظاهرين، وأكدت على حق الشعب السوداني في الاحتجاج السلمي للتعبير عن مظالمه المشروعة، وأنها تتوقع من حكومة السودان أن تنفذ تدابير للتحقيق في الحالات التي وقعت فيها إساءة استعمال للقوة، وهو ما حدث لاحقًا بالفعل حين طالب الرئيس “البشير” جهاز الشرطة بعدم استخدام القوة المفرطة، كما أمر بتشكيل لجنة تحقيق في 31 ديسمبر، لا سيما وأن الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريس”، كان قد طالب السودان في 30 ديسمبر بإجراء “تحقيق شامل” حول مقتل المتظاهرين، مؤكدًا على ضرورة حماية حرية التعبير والتجمع السلمي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحكومة السودانية أعلنت سقوط 19 قتيلًا بينهم اثنان من رجال الأمن، وأن عدد المصابين بلغ 406، في الوقت الذي أعلنت فيه منظمة العفو الدولية أن عدد القتلى قد بلغ 37، بينما أعلن حزب الأمة القومي المعارض الذي يقوده “الصادق المهدي”، في مطلع يناير الحالي، أن القتلى قد بلغوا 45، وأن عدد المصابين يقترب من الألف، وأن أجهزة الأمن اعتقلت أكثر من 2000 شخص.
انسلاخ بعض الأحزاب من التحالف الحكومي
مع مطلع العام الجديد، في الأول من يناير 2019، أعلنت مجموعة من الأحزاب المشارِكة في الحكومة السودانية، وأخرى مشاركة في الحوار الوطني، أشهرها حزب الأمة (جناح مبارك الفاضل)، وحركة “الإصلاح الآن” بقيادة “غازي صلاح الدين”، والبالغ عددها 22 حزبًا، أنها وقعت مذكرة لرئيس الجمهورية، تطالب بنظام جديد، استنادًا إلى أن النظام “بتركيبته الحالية وعزلته السياسية والاقتصادية والإقليمية والدولية، ليس في مقدوره تجاوز أزمته”. ودعت المذكرة إلى اتخاذ إجراءات استثنائية لتدارك ما أسمته الانهيار السياسي الوشيك، تتضمن تشكيل مجلس سيادة انتقالي يتولى أعمال السيادة، وتشكيل حكومة انتقالية تجمع بين الكفاءات والتمثيل السياسي، ولا تستثني أحدًا، وحل المجلس الوطني (البرلمان) ومجالس الولايات، وتكوين برلمان انتقالي من 100 عضو. كما طلبت المذكرة حلّ الحكومة الاتحادية والحكومات الولائية، وتحديد موعد إجراء انتخابات. وحذّرت المذكرة من رفض الانتقال إلى نظام سياسي جديد، وقالت: “إن عواقب ذلك ستكون وخيمة تودي بالأمن الاجتماعي، وتزيد معاناة المواطنين، وتورد البلاد موارد الهلاك”.
وقد شن الرئيس “البشير” حملة عنيفة على هذه المجموعة من الأحزاب التي خرجت عن التحالف مع حزبه ومن الحكومة، مشيرًا إلى أنهم “يتكلمون بأن الحكومة سقطت، وأن المركب حتغرق، ويريدون القفز منها،” ووصفهم بأنهم يأتون للحكومة حين تكون الأوضاع مستقرة، ويخرجون عنها “وقت الحارة” (الشدة).
محاولات الاحتواء
كان أول خطاب جماهيري للرئيس “البشير” عقب اندلاع الاحتجاجات في ولاية الجزيرة وسط السودان، واتهم فيه المحتجين والمتظاهرين بأنهم مجموعة من العملاء والمرتزقة والمخربين، وأنه سيتم التصدي لهم. وفي لقاء مع قوات الشرطة في الخرطوم، وبالرغم من أنه طالب قوات الشرطة بالامتناع عن الإفراط في استخدام القوة ضد المتظاهرين، إلا أنه -وفي ارتباك واضح- برر قتل المتظاهرين، مستدلًا بالآية القرآنية: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”. وأضاف: “القصاص هو شنو يا اخوانا؟ هو القتل والإعدام. ربنا قال فيه حياة، لأن فيه ردع للآخرين عشان نحافظ على الأمن”. وفي الوقت نفسه، وعد “البشير” قوات الشرطة بتوفير السكن المناسب لأفرادها ودعم التعليم والصحة واحتياجات الأفراد الضرورية، وكذلك توفير احتياجات المعاشيين.
أما في خطابه أمام اتحادات العمال والمرأة والمعاشيين، في 3 يناير، فقد اتخذ منهج استمالة المشاعر واجتذاب التعاطف، عبر الحديث عن انحداره من أسرة بسيطة، وأنه كان يعمل عامل بناء في الإجازات الدراسية قبل أن يلتحق بالكلية الحربية. كما أعلن عن زيادات كبيرة في الرواتب ولأصحاب المعاشات يتم تطبيقها بشكل فوري، بدءًا من يناير الحالي. وتحدث عن حق المواطن في السكن، وعن تعميم التأمين الصحي. وقد بدا واضحًا أن هذه الزيادات، مع زيادة الدعم الحكومي المقدم للخبز بنسبة 25%، تمثل جزءًا من استراتيجية أوسع لإحداث نوع من الفرز بين الفئات المختلفة للمحتجين في الشوارع، وذلك استنادًا إلى التقدير بأن النسبة الأكبر من المحتجين هم مواطنون غير مسيسين خرجوا بسبب المعاناة من الضائقة المعيشية، وأن الناشطين أو المنتمين للقوى السياسية يمثلون أقلية. وبالتالي فإن زيادة الدعم والمرتبات وتوفير الوقود، سوف يؤدي إلى عودة نسبة كبيرة من المحتجين إلى منازلهم، ويتبقى النشطاء والمنتمون إلى قوى حزبية، وأن هذه الأخيرة ضعيفة وغير موحدة، ويسود بينها الشك وعدم الثقة، وبالتالي تفقد الاحتجاجات زخمها وتنحسر تدريجيًّا.
لكن من الواضح أن هذه الاستراتيجية لم تحقق نتائجها بشكل كامل، إذ ازداد زخم المظاهرات والمواكب، وانضمت إليها فئات جديدة، مثل أساتذة جامعة الخرطوم الذين تصدى لهم الأمن ومنعهم من الخروج إلى الشارع. ويبدو أن السبب يعود إلى أن هذه التقديرات تجاهلت الشعور السائد حول استشراء الفساد، والإحساس العام لدى المواطن السوداني بأن الضائقة الاقتصادية سببها الأساسي هو سوء الإدارة.
تخفيف التواجد الأمني
هكذا، تنقّل النظام بين عدة استراتيجيات للمواجهة، من استخدام القوة والتهديد وتوجيه الاتهامات، إلى محاولات الاسترضاء واجتذاب التعاطف، وأيضًا تقديم الوعود بقرب انتهاء الأزمة الاقتصادية في أبريل المقبل.
وفي السياق ذاته، كانت الحكومة السودانية قد خففت من التواجد الأمني في الشوارع والميادين، لإعطاء الانطباع بأن الأمور قد بدأت في الهدوء والعودة تدريجيًّا إلى طبيعتها، إلا أن ذلك لم يفلح، بسبب تجدد المظاهرات، ومن ثم عودة هذه القوات إلى الشوارع مرة أخرى.
وفي الإطار نفسه، أعلنت وزارة التربية والتعليم في ولاية الخرطوم استئناف الدراسة بداية من 8 يناير، وأن القرار يشمل التعليم الأساسي والثانوي، دون التعليم الجامعي. غير أن ذلك ربما كان يقف خلفه رغبة الحكومة السودانية في دعم مسيرة الساحة الخضراء، ومن ثم الاعتماد على طلاب الثانويات وإخراجهم بشكل جماعي في هذه المسيرة.
وبشكل عام، بدا أن هناك نوعًا من الحرص على إظهار أن هناك هدوءًا، وأن النظام يتسم بالثبات، لكن الملاحظ أيضًا أن الرئيس “البشير” قد تجنب تقديم أي تنازلات سياسية، ربما لكي لا يعطي إحساسًا بالضعف، فلم يعلن حتى مجرد التراجع عن رغبته المعلنة في إعادة الترشح في عام 2020، ولم يتحدث سوى عن انتخابات نزيهة يختار فيها الشعب من يريد!. وكرر كثيرًا وبصور مختلفة أن السودان محاصر، وأنه متهم بالإرهاب، ظُلمًا وعُدوانا، وأنه عُرض عليه أن يقيم علاقات مع إسرائيل لكي يحصل على القمح والدولارات، ولكنه أبى. وكان من الواضح أن هذا الخطاب قد استُهلك وفقد مصداقيته نتيجة تكراره طوال عقود.
زيادة الاستقطاب والاحتمالات المفتوحة
أعلنت القوى السياسية المتحالفة مع الحكومة والتي تُعرف باسم “قوى الوفاق الوطني”، تنظيم مسيرة يوم الأربعاء 9 يناير بالساحة الخضراء بالخرطوم، للتعبير عن مساندة الرئيس “عمر البشير”، وللرد السياسي على خطابات المعارضة وعلى الاحتجاجات. وذلك في تكرار لما حدث في انتفاضة أبريل 1985 ضد الرئيس الأسبق “جعفر نميري”، حين خرج مؤيدو النظام في “مسيرة الردع”. وكان بعض قياديي حزب المؤتمر الوطني الحاكم قد نفوا طوال الأيام خروج مثل هذه المسيرة للحفاظ على وحدة الشعب، ومنع تزايد الانقسامات. غير أن حالة الاستقطاب تظهر بوضوح إذا علمنا أن مسيرة الساحة الخضراء سوف تتزامن مع خروج الموكب الذي دعا إليه تجمع المهنيين للتوجه إلى البرلمان للمطالبة بتنحي النظام.وهكذا، فإن المشهد الحالي في السودان يظل مفتوحًا على كل الاحتمالات. وفي الوقت نفسه فإن الاستجابة المحدودة للاحتجاجات الشعبية من جانب النظام قد تؤدي إلى إحداث نوع من التآكل في بنيته الداخلية، وزيادة الصراعات القائمة بين مراكز القوى المختلفة داخله، مما قد يجعله عرضة للانشقاقات. وبالتالي فإن عدم الوصول إلى تفاهمات سياسية لخروج منظم إلى مرحلة انتقالية تقيم نظامًا جديدًا على أسس جديدة، قد يجعل السودان عرضة لسيناريوهات صعبة.