منذ بدء عملية رفع سعر الفائدة في الولايات المتحدة قبل ثلاث سنوات، بلغ عدد مرات رفع هذه الفائدة تسع مرات. وقد توقعت لجنة السياسات النقدية في مجلس الاحتياطي الفيدرالي خلال اجتماعها في سبتمبر 2018 رفع أسعار الفائدة ثلاث مرات أخرى خلال عام 2019، بغرض الوصول إلى معدل فائدة محايد (معدل الفائدة الذي لا يتسبب في زيادة سريعة في معدلات النمو في الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي يساهم في ارتفاع التضخم في حال خفض هذا المعدل أكثر مما يجب، ولا يتسبب في إبطاء نمو الاقتصاد الأمريكي في حالة رفع هذا المعدل أكثر مما يجب). ويستهدف مجلس الاحتياطي الحفاظ على معدل تضخم في حدود 2% بما يدعم نمو الاقتصاد الأمريكي.
وقد ازدادت تدفقات رؤوس الأموال الخارجة من الأسواق الناشئة لتتجه نحو الاستثمار في الأصول الأمريكية، فعندما يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة من أجل تهدئة أكبر اقتصاد في العالم، فإن تأثير ذلك لا يتوقف على الولايات المتحدة فقط، بل يمتد إلى باقي دول العالم، وخاصة الدول ذات الاقتصادات النامية والناشئة.
وفي سبيل تلافي الآثار الناجمة عن قيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة، طالب العديد من المسئولين المجلس بتحمل مسئوليته تجاه الأسواق الناشئة، وأن يبدي حسن النوايا تجاه تلك الأسواق كبنك يدير السياسات النقدية لأكبر اقتصاد في العالم، حيث يصل الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي إلى 20.4 تريليون دولار، وهو ما يزيد عن ربع الناتج المحلي العالمي الذي يبلغ 79.98 تريليون دولار.
وعادةً ما تكون لرفع أسعار الفائدة بهدف السيطرة على التضخم في الولايات المتحدة آثار عديدة تتخطى الولايات المتحدة، إذ يعمل رفع أسعار الفائدة على جعل السندات الأمريكية أكثر جاذبية للمستثمرين، وبالتالي تتجه الأموال من جميع أنحاء العالم إلى الطلب على الدولار الأمريكي والاستثمار في العملة الأمريكية للحصول على تلك الفوائد. ويترتب على ذلك ضغوط على الأسواق الناشئة التي ربما تتجه إلى تخفيض أسعار صرف عملاتها نتيجة زيادة عمليات التخلص من تلك العملات، أو تتجه إلى رفع معدلات الفائدة بها إلى مستويات قياسية قد تؤثر بالسلب على مناخ العمل في البلاد بهدف مواكبة السياسة النقدية الأمريكية. وفي حال عدم قيامها باتباع إحدى السياستين (تخفيض العملة، أو رفع سعر الفائدة) فقد تتجه نسبة كبيرة من الأموال من أسواقها إلى الولايات المتحدة التي تصبح أكثر جاذبية مقارنةً بتلك الأسواق.
وقد بدأت بالفعل الآثار السلبية لرفع سعر الفائدة على الدولار في الاقتصادات التي تُعاني من عجز مالي كبير وديون خارجية أكثر من غيرها مثل الأرجنتين وإندونيسيا وتركيا. كما لم تَسْلَمْ الاقتصادات صاحبة الموارد المالية القوية نسبيًّا من تأثيرات ذلك الرفع، حيث تعرضت عملة “الراند” الجنوب إفريقي لعمليات بيع واسعة منذ أغسطس 2018، وانخفضت قيمته بنسبة 14% مقابل الدولار. وفي الهند، دعا محافظ البنك المركزي، عبر مقال نشره في صحيفة “فاينانشيال تايمز”، مجلسَ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى البحث عن طريقة أخرى غير رفع سعر الفائدة، مشيرًا إلى أنه في حال عدم بحثه عن طريقة أخرى فستبتلع سندات الخزانة الأمريكية حصة كبيرة من السيولة الدولارية في العالم، ويصبح من المحتم وقوع أزمة في أسواق السندات بالدولار في العالم.
واستنادًا إلى وضع الاقتصاد المصري كواحد من الاقتصادات الناشئة وفق العديد من التصنيفات الدولية(1)، يمكن القول إن رفع سعر الفائدة الأمريكية قد يؤثر على الاقتصاد المصري من أكثر من زاوية. فمن ناحية، قد يؤثر ذلك على تكلفة الاقتراض الخارجي بالنسبة للإصدارات الجديدة من السندات، حيث يمثل سعر الفائدة في الولايات المتحدة معدل العائد الخالي من المخاطر الذي يتم على أساسه تسعير أدوات الدين الأخرى بالدولار الأمريكي في العالم، بعد إضافة عائد إضافي ليعوض عن المخاطر المحتملة، وبالتالي فلن يؤثر رفع سعر الفائدة الأمريكي على القروض الحالية للبلاد، لكنه قد يؤثر على تكلفة الإصدارات الجديدة من السندات الدولارية المصرية، والتي سيتم طرحها خلال عام 2019، ما قد يؤثر بدوره على مستهدفات العجز بالموازنة العامة للدولة.
أما بالنظر إلى مدى ارتباط سعر الفائدة في مصر بأسعار الفائدة في الولايات المتحدة، فإن المحدد لذلك هو مدى جاذبية العائد على أدوات الدين بالجنيه المصري للمستثمرين الأجانب، بالإضافة إلى العديد من المتغيرات الأخرى التي ترتبط بمعدلات التضخم والبطالة في البلاد، ومعدل النمو الاقتصادي المتوقع. وبرغم قيام البنك المركزي المصري بتثبيت سعر الفائدة عدة مرات، إلا أنه لا يمكن تجاهل تأثير قرار رفع سعر الفائدة الأمريكي على مصر والأسواق الناشئة بصفة عامة، حيث أدى رفع سعر الفائدة الأمريكي -كما أسلفنا- إلى التسبب في خلق طلب على الدولار الأمريكي، ومن ثم انخفضت أسعار صرف باقي العملات في العالم، وبالأخص عملات الأسواق الناشئة في الدول التي لديها دين خارجي كبير مقوم بالعملات الأجنبية.
وقد أدى ذلك إلى قيام العديد من الاقتصادات الناشئة برفع أسعار الفائدة في محاولة لاحتواء الانخفاض الحاد في أسعار صرف عملاتها. وكان لكلا الموقفين تأثيره على الاقتصاد المصري، حيث شهد الاستثمار في أذون الخزانة الحكومية تراجعًا ملحوظًا خلال الفترة من مارس وحتى أكتوبر 2018، مع تراجع حيازة الأجانب لأذون الخزانة المصرية إلى 11.7 مليار دولار بنهاية أكتوبر 2018 مع مستوى قياسي بلغ 21.5 مليار دولار في مارس. لكن رغم ذلك التراجع لم ينخفض سعر صرف الجنيه المصري إلا بنسبة 1% فقط. ويمكن القول إن الخشية من خفض قيمة الجنيه المصري وتجنب ما قد ينجم عن ذلك الانخفاض من ارتفاعات محتملة في معدل التضخم عن المعدلات المستهدفة كانت هي المحرك الأكبر للدفع نحو ثبات قيمة الجنيه المصري، وهو ما يُحاول البنك المركزي بشتى السبل السيطرة عليه. وقد قامت البنوك المحلية بمحاولة احتواء خروج النقد الأجنبي من البلاد من خلال تسييل بعض الأصول المُقوّمة بعملات أجنبية لتمويل تخارج المستثمرين الأجانب من سوق الدين المحلية، الأمر الذي تسبب في تراجع نسبة الأصول الأجنبية للبنوك إلى إجمالي الأصول لديها لتبلغ 4%، حيث بلغ صافي الأصول الأجنبية 218 مليار جنيه في أكتوبر 2018، مقابل 369 مليار جنيه في أبريل الماضي. ومن جهة أخرى، ورغم انخفاض احتياطي النقد الأجنبي خلال شهر ديسمبر 2018 بمقدار 2 مليار دولار ليغلق العام عند مبلغ 42.5 مليار دولار، إلا أنه يغطي واردات مصر السلعية لمدة 8 أشهر، وهو مستوى أعلى بكثير من مستوى الحد الأدنى المتعارف عليه عالميًّا والذي يبلغ 3 أشهر.
ووفقًا للوضع الحالي، هناك خياران محتملان أمام صانع السياسة النقدية والمالية. الخيار الأول، هو التمسك بخضوع أسعار الصرف لآليات السوق، ما قد يؤدي إلى تراجع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار لموازنة الطلب والعرض على العملة الأجنبية، أسوة بباقي الأسواق الناشئة التي سمحت لعملاتها بالتراجع. وهذا البديل سيكون له تأثيره على معدل التضخم في البلاد من خلال ارتفاع أسعار السلع المستوردة. أما الخيار الثاني فيتمثل في تدخل البنك المركزي المصري بالسحب من احتياطي النقد الأجنبي للدفاع عن قيمة الجنيه، وهو أمر مستبعد نتيجة قصر المدة التي يستطيع فيها البنك المركزي الدفاع عن العملة، إضافة إلى الآثار الأخرى التي قد تنجم عن ذلك. فقد يؤدي هذا التدخل إلى حدوث خلل هيكلي في تسعير الجنيه بأعلى من قيمته الحقيقية. وفي الوقت الذي يبدو فيه الجنيه قويًّا نسبيًّا، ستؤدي قيمة الجنيه المرتفعة عن قيمته الحقيقية إلى الضغط على الصادرات ما قد يشجع المستهلكين على التحول إلى البضائع المستوردة، وهو ما سيترتب عليه ارتفاع عجز ميزان المعاملات الجارية مجددًا.
لكن كما سبق القول يظل هذا الخيار (الثاني) مستبعدًا لصعوبة التراجع عن قرار تحرير سوق الصرف، وهو ما أكده البنك المركزي ذاته الذي سبق وأعلن أنه لن يكرر أخطاء الماضي في الدفاع عن قيمة العملة المصرية، وسيترك للسوق أمر تحديد سعرها وفقًا لآلياته الحرة.
——————————————————————————————————————–
1 – وهناك العديد من التصنيفات التي تضع مصر ضمن الاقتصادات الناشئة، ومن ذلك تصنيف BRICS+N11 الذي يضم خمسة اقتصادات وطنية ناشئة رئيسية (هي: البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا)، بالإضافة إلى الدول التي من المحتمل أن تنضم إلى الاقتصادات الناشئة (وتضم: بنجلاديش، ومصر، وإندونيسيا، وإيران، والمكسيك، ونيجيريا، وباكستان، والفلبين، وتركيا، وكوريا الجنوبية، وفيتنام)، والتي تم تحديدها من خلال ورقة بحثية أعدها Jim O’Neill المحلل الاقتصادي في بنك الاستثمار مورجان ستانلي في 12 ديسمبر 2005. من ذلك أيضًا تصنيف FTSE، وهو تصنيف صادر عن شركة فوتسي الدولية المحدودة في بريطانيا والمملوكة بالكامل لبورصة لندن والتي تقدم مؤشرات لأسواق المال، ومؤشر Morgan Stanley Capital International (MSCI) الذي تُعده شركة أمريكية متخصصة في إنشاء مؤشرات لأسواق المال حول العالم، وتصنيف S&P وهو تصنيف صادر عن شركة ستاندرد آند بورز Standard & Poor’s Financial Services وهي شركة مالية متخصصة في تقديم الخدمات المالية. وأخيرًا تصنيف مؤشر الأسواق الناشئة الصادر عن مؤسسة جي بي مورجان. وتعرف الاقتصادات الناشئة بأنها وإن كانت لا تُعد فعليًّا ضمن الاقتصادات النامية، إلا أن أسواقها تتسم ببعض السمات الخاصة بالأسواق النامية، خاصة من حيث السيولة.