انطلقت في ١٥ يناير الجاري فعاليات “الحوار القومي الكبير” الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي ماكرون في خطابه للأمة الفرنسية في ١٠ ديسمبر الماضي، في إطار حزمة التدابير التي اتخذها ردا على الحراك الذي هز فرنسا. يقول بعض المراقبين إن ماكرون يأمل بذلك في إنهاء فيضان الاعتصامات والمظاهرات العنيفة التي استمرت شهرين، ودفع الجميع إلى ترك الميادين والشوارع. ويرى آخرون أنه لا يخاطب المتظاهرين بل يخاطب فئتين أساسيتين؛ الأولى هي القطاعات التي تؤيدهم، عارضا عليهم آلية للحوار، ومحاولا إثبات حسن نيته أملا في إقناعهم وكسب تأييدهم أو على الأقل تحييدهم. الفئة الثانية هي أنصاره، محاولا حشدهم. ونرجح الرأي الثاني.
بدأت فعاليات هذا الحوار القومي، والتي يفترض أن تدوم شهرين، بداية عسيرة، حيث تم تعيين منسقة للحوار، هي وزيرة سابقة للرئيس ساركوزي، ثم اضطرت إلى الاستقالة بعد أن تم الكشف عن مرتبها (الذي يتجاوز ١٤٦٠٠ يورو)، وكلف عضوين في الحكومة بالإشراف على فعاليات الحوار.
تلك الفعاليات تسمح لأي فرد أن ينظم اجتماعات محلية تكون فيها الدعوة عامة لمناقشة المطالب والإصلاحات والسياسات. وفي الواقع يبدو أن هذا النظام من شأنه إعادة الاعتبار للعمد ليكونوا وسيطا بين المشاركين والسلطة. وكان غياب القنوات بين الشعب والسلطة هو أحد أسباب الأزمة. وخلال الأسابيع السابقة على بدء الحوار قام العمد بفتح سجلات ليقوم المواطنون بتدوين مطالبهم واقتراحاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بها.
بدأت الفعاليات بلقاء جمع الرئيس والعمد دام سبع ساعات. طرح العمد خلاله ستين سؤالا يتعلق أغلبهم بتدهور الأحوال المعيشية، وبتراجع دور الدولة، وتدهور أداء المرافق العامة، وميل الدولة إلى نقل ملفات ومسئوليات واختصاصات إلى السلطات المحلية دون زيادة في التمويل والموارد المالية. الرئيس كان -كالعادة- ملما بالملفات إلماما مذهلا، إلا أنه ليس من المؤكد أن يكون هذا في صالحه. لأن الكثيرين يقولون إنه لامع وخطيب مفوه ولكنه لا يستمع ولا يتحاور بل بسعي دائما إلى إقناع الجميع أنهم مخطئون وأنه على حق، وأنهم جهلاء وأنه عالم. بمعني آخر لا نظن أن النظرة إليه ستتغير.
الغموض يكتنف المسار ومخرجاته. فيما يتعلق بالمسار، هناك سؤال مهم: ما هي الموضوعات التي سيتناولها الحوار؟ لقد تغير رد السلطات مرات عديدة قبل أن يتبلور في رسالة مكتوبة من الرئيس للشعب الفرنسي، اقترحت طرح ٣٥ سؤالا والرد عليها. ثم قال في ١٥ يناير إن تلك القائمة لا تمنع طرح أسئلة أخرى. وكل تحديد للموضوعات أثار احتجاجات واعتراضات. على سبيل المثال، قيل في بداية الأمر أن الهجرة ستكون مدرجة على جدول الأعمال، ما أثار اعتراضات لأن هذا يصب في مصلحة أقصى اليمين، ولذلك تم سحبها، ما أثار امتعاضا كبيرا لأن الهجرة هي الشغل الشاغل لقطاعات كثيرة. لذلك أعيد إدراجها في الرسالة التي وجهها الرئيس إلى الشعب والتي حاول فيها تحديد الأسئلة التي يتعين الرد عليها. ونلاحظ أن صيغة السؤال الذي تناول موضوع الهجرة لم تعجب الكثيرين. هناك مثال آخر، هو الصراع بين ماكرون والسترات الصفراء حول الضريبة على الثروة، فبينما يتمسك ماكرون برفض مناقشة إلغاء الضريبة على الثروات الكبيرة (كان هذا الإلغاء من أول قرارات الرئيس)، يصر أصحاب السترات الصفراء علي إجراء مثل هذه المناقشة. ونسوق هذه الأمثلة لنقول إننا لا نستطيع أن نؤكد أن السلطة تستطيع فرض جدولها على اجتماعات تعم البلاد.
ولا يعني هذا أن تحديد الموضوعات إجراء غير مجدي، بل له وظائف عدة، منها إثبات الجدية من ناحية، والحرص على تأطير الردود إن كان ذلك ممكنا، من ناحية أخرى. صيغة الأسئلة توحي بأن الرئيس يسعى إلى مخاطبة أنصاره، وإلى بناء ثنائية تجعل من السيدة مارين لوبن وحزبها البديل له ولسياساته، وإلى تنبيه الرأي العام الفرنسي إلى وجود تعارض بين المطلبين الرئيسين: تقليل الضرائب وزيادة إنفاق الدولة على العدالة الاجتماعية.
فيما يتعلق بالمخرجات، نشير أولا إلى تبعات فشل محتمل التي تدور حول بديلين: إما العودة إلى العنف، أو إجراء انتخابات مبكرة. وبالتالي هناك من له مصلحة في إنجاح الحوار (حزب الرئيس واليمين التقليدي) ومن له مصلحة في إفشاله (أقصي اليمين وأقصي اليسار)، سواء بمقاطعته أو بالحضور المخرب. ويلاحظ، ثانيا، أن السلطة تواجه مأزقا، ففي الوقت الذي لا تستطيع تحمل تكلفة الفشل، فإن النجاح سيؤدي غالبا إلى إصدار توصيات تناقض تماما توجهات السلطة، علما بأن الحوار في حد ذاته يمثل فشلا لمنهجها في الإصلاح الفوقي السلطوي. ولهذه الأسباب يعتقد فريق إن السلطة ستسعى إلى التلاعب بمجريات الفعاليات، إلا أننا نعتقد أنها لا تملك هذا الترف. ولكنها لم توضح -إلى وقت كتابة تلك السطور- ماذا ستفعل بعد الحوار؛ فمن المستبعد أن تلتزم الحكومة الفرنسية بكل التوصيات لاسيما إن اتسمت بعدم الواقعية أو اقتضت تراجعا كاملا عن سياساتها. يقول بعض المراقبين إن الرئيس قد يلجأ إلى إجراء استفتاء حول بعض القضايا. ويخشى البعض أن الرئيس يسعي فقط إلى كسب الوقت وإلى إظهار استحالة اتفاق الفرنسيين على توصيات محددة. ولا نستطيع أن نستبعد هذا، غير أن الذاكرة السياسية للشعب الفرنسي تعطي جلالة للحظة استشارة الشعب وتجسيد سيادته. نقصد أن تصور إمكانية التحكم في آليات ومسارات الأزمة قد يكون خاطئا. ويقول خبير واسع الاطلاع والاتصالات إن الرئيس لا يملك خطة الآن، وأنه يراقب تطور النقاش، وما هي المطالب الملحة، وهل ستظهر أفكار جديدة واستقطابات قابلة للاستغلال، وكيف ستتطور موازين القوة؟
وأيا كانت حقيقة الأمر، فإنه من الواضح أن قطاعات من المتظاهرين لا تثق في الرئيس وترى أن العنف هو الذي أجبره على تغيير مسلكه، ولذلك أعلنت أنها ستواصل التظاهر. ويُلاحظ أن عدد المشتركين في المظاهرات عاد إلى الارتفاع بعد انتهاء فترة الإجازات ورغم استمرار العنف، وإن كان هذا العدد أقل بكثير مما شوهد في بداية الأزمة.
وبصفة عامة، يمكن قراءة تفاعل الرئيس مع الأحداث بطريقتين أو ثلاث. يمكننا اختيار قراءة تقول إن الرئيس مازال متخبطا، وعاجز عن ضبط نفسه، وغير راغب في تغيير منهجه، وأن همه الأول هو التهدئة، إلا أن تصريحاته تؤدي إلى العكس. ويمكننا بناء رواية أخرى والقول إنه يعرف تماما ماذا يفعل. فهو يحاول حشد من لهم مصلحة في عودة النظام والهدوء وطمأنتهم، ويسعي إلى شيطنة السترات الصفراء وعزلهم عن مؤيديهم بوسائل عدة، منها: اتهامهم بعدم إدانة العنف النابع عن بعضهم، وبيان صعوبة الحوار مع حركة منقسمة على نفسها ولا قائد لها، وطرح صيغة للتحاور مع الجمهور، وتعديل موازين القوة لصالحه حتى لا يضطر إلى تقديم تنازلات مبالغ فيها. والغالب أن الرواية الأدق تجمع بين الروايتين السابقتين، بحيث تكون إحداهما الغالبة في لحظات وغير صحيحة في لحظات أخرى، أو صحيحة فيما يتعلق بقضية وخاطئة فيما يتعلق بغيرها.
أخيرا، وليس آخرا، نقول إن هذا الحوار يعكس أزمة الصيغة الحاكمة للمعادلة والدستور الفرنسيين، وسلطة مركزية قوية يرأسها رئيس منتخب انتخابا مباشرا. تلك الصيغة تنجح في حالة وجود حزبين كبيرين لا ثالث لهما، أو في حالة وجود إجماع مجتمعي وسياسي حول خطوط عامة، أو على الأقل ثقافة سياسية تسمح بالحوار وببناء تحالفات. لكن الوضع في فرنسا مختلف، فهناك حوالي خمسة أحزاب كبيرة، وعدد أكبر من الثقافات السياسية المتناحرة والكارهة لبعضها البعض؛ والرئيس لا يمثل أكثر من ثلث الناخبين على أحسن الفروض (فيما يتعلق بماكرون النسبة أقل بكثير). لقد كان الوضع مقبولا طالما كان الرئيس المنتخب حريصا على التوازنات أو على التدرج في الإصلاح. لكن الوضع تغير مع الرئيس الحالي الذي بني سياساته على تشخيص مفاده أن فرنسا تأخرت جدا وأن الاستعجال واجب. ولذلك يمكننا اعتبار الحوار محاولة بناء توافق بات ضروريا، ولكن مقوماته غير موجودة.
ولا تخفى المعضلة الاقتصادية على أي مراقب؛ فمن ناحية سعر اليورو والقواعد الأوروبية الضابطة لحدود عجز الميزانية لا تناسب النظام الاقتصادي الفرنسي. ومن ناحية أخرى، يعاني هذا النظام من ضيق قاعدة القوى العاملة لو قورنت بعدد السكان. هناك نسبة من العاطلين مهمة. الفرنسي يدخل سوق العمل في سن متأخرة نسبيا ويخرج منها في سن مبكرة نسبيا ولا يعمل عدد ساعات يكفي. ولذلك، وفي ضوء ارتفاع نسبة من لا يعمل سواء كان طفلا أو صاحب معاش أو عاطل، تزداد مسئوليات ونفقات دولة الرفاة. وبالتالي، تزداد كل من معدلات الاستدانة ونسبة الضرائب المتحصلة على من يعمل. ويترتب على ذلك أيضا الجمع بين ارتفاع تكلفة الفرد العامل (صاحب العمل يدفع ضرائب أكثر وبسدد قيمة تأمينات أكبر) وانخفاض القدرة الشرائية لمن يعمل. كل هذا في سياق دولي يشهد منافسة تزداد شراسة. ما ينقذ فرنسا هو وجود مدخرات وثروات تشكل نوعا من الاحتياط المطمئن نسبيا للدائنين.
ويحسب للرئيس ماكرون إدراك عمق المشكلة ولكنه سعى إلى فرض إصلاحات قاسية بطريقة سلطوية وبخطاب لم يقبله الفرنسيون لأنه كان مهينا. فرنسا تسير إلى المجهول، والأزمة تحتاج إلى قيادة محنكة تجمع بين المهارة السياسية والقدرات التكنوقراطية والقدرة على إقناع جمهور متعدد المشارب تتسم مطالبه بالتنوع والتناقض والمشروعية في الوقت ذاته.