في مؤلفهما المهم “تحول السلطة”، الصادر في عام 1990 أكد الفين وهايدي توفلر أن الدولة القومية تتعرض لعملية تقسيم أنشطتها وفق خطوط طول وعرض غريبة، وأن تحول الرأسمالية في الدول الصناعية الكبرى أدى إلى أسلوب جديد في الإنتاج يقوم على تقسيم الصناعات إلى عدة عمليات إنتاجيه، بدلا من خطوط الإنتاج كما وضع تنظيمها فورد في علم الإدارة. كما أن هذا التنظيم الجديد للعملية الإنتاجية يتم وفقا للخطوط التي أشار إليها توفلر مثل صناعات السيارات والأدوات المنزلية إلى عدة عمليات إنتاجية، تتم في عدة دول تربط بينها سلاسل الإنتاج، تمويلا وإنتاجا وتجميعا وتصديرا، ما أدى إلى ظهور مجتمع المعلومات نتيجة تفتيت خطوط الإنتاج الكبرى إلى عمليات إنتاجية عديدة، ونتيجة اعتماد مجتمع المعلومات على المعلومة كسلعة، وإدماجها في كافة الأنشطة الاقنصادية، فتحول مجتمع المعلومات إلى مجتمع المعرفة القائم على الشبكات، وتحول المجتمع بدوره إلى “مجتمع شبكي”. وقد تكررت الرؤية ذاتها في عام 2004 في مؤلف آخر بعنوان “نظام عالمي جديد” أصدرته آن ماري سلوتر، أكدت فيه أن النظام العالمي طرأ عليه تحولين مهمين، الأول هو الاتجاه من البعد القومي إلى العالمي، والثاني هو الاتجاه من الحكم إلى الحوكمة، مؤكدة على مفهوم “الدولة الشبكية” ذات الأنشطة المتعددة المتكاملة، وأطلقت عليها في البداية “الدولة المقسمة”.
مفهوم “التقسيم” هنا لا يعني التقسيم الجغرافي وإنما يعني “التكامل الوظيفي”، حيث تؤكد سلوتر أن أنشطة عديدة تمارسها الدولة القومية اليوم باتت مقسمة بين عدة أفرع في الجهاز التنفيذي للدولة، فالإرهاب وتجارة السلاح وتجارة المخدرات وتجارة البشر وقراصنة الملكية الفكرية كلها أنشطة تتم من خلال شبكات عالمية. وطالما أن هذه التهديدات غير التقليدية هي تهديدات تتسم بـ”التشبيك”، فلا يمكن مواجهتها من قبل الدولة إلا بسياسات وجهود تتسم أيضا بـ”التشبيك”.
ويزيد الحاجة إلى تشبيك جهود الدولة ظهور ما يمكن أن نطلق عليها: “التهديد الناعم للأمن”، وهو مفهوم تم تطويره لمواجهة أنماط مختلفة من الأمن غير التقليدي، والأمن النابع من المجتمع ذاته، وتطوره على نحو ما حاولت تناوله “مدرسة كوبنهاجن” و”المدرسة الفرنسية” للأمن. كما يزيد الاحتياج إلى تشبيك أنشطة الدولة في حالة مصر أيضا ما كشفت عنه دراسات عديدة أن تحول المجتمع في مصر إلى الشكل الشبكي أدى إلى اختلال التوازن بين الدولة والمجتمع لصالح المجتمع لأول مره في تاريخ مصر، وهو وضع يتطلب ضرورة العمل على إعادة التوازن بين طرفي المعادلة، خاصة أن التشبيك الاجتماعي قد أدى إلى تحويل بعض الشبكات الاجتماعية إلى “شبكات استشعار إنساني”، وهو نمط من الشبكات الاجتماعية غالبا ما يأخذ الشكل العنقودي لجمع معلومات حول موضوع معين. وكان بداية ظهور هذه الشبكات مواكبا للزيادة المفاجئة في أعداد المهاجرين من الشرق الأوسط إلى دول أوروبية، فطالعنا مقالات مرفقا بها صور فوتوغرافية حول أوضاع اللاجئين في الدول التي استقبلتهم، إضافة لاهتمام الإعلام بأساليب نقلهم إلى الدول المستقبلة لهم، فكلها دلائل على وجود شبكات استشعار كان بعض أعضائها من المهاجرين أنفسهم، ما كشف عن مآسي إنسانية يتعرض لها المهاجرين ومخالفة للقانون الدولي.
هذه الملاحظة تتدعم أيضا حينما يتم تطبيق مفهوم “شبكات الاستشعار” على العديد من الأحداث الإرهابية التي تؤكد أن الإرهاب ناتج أيضا عن تحول شبكات اجتماعية إلى “شبكات استشعار”، ما يلزم أن يكون رد فعل الدولة ردا شبكيا أيضا ليمكنه التعامل مع أعضاء الشبكات الإرهابية، للوقوف على كيفية حصولهم على السلاح، وكيفية حصولهم على التمويل، وكيفية حصولهم على الدعم الإداري والمعلوماتي، والبيئة الحاضنة لهم، وشكل شبكة الاستشعار، وإسلوب قيادتها، وأماكن إقامتها، وكيفية تجنيد الإرهاب لها ودوافع ذلك كله. وكما نرى أن الشبكة الحكومية المقترحة للتعامل مع الإرهاب في هذه الحالة لا يجب أن تكون شبكة أمنية أو عسكرية فقط، بل يجب أن تضم خبراء أمنيون في تهريب السلاح، وخبراء في المجال المالي، وخبراء في المجال المعلوماتي ومجال بناء الشبكات، وخبراء في علم الاجتماع السياسي لديهم القدرة على التعرف على كيفية بناء الشبكات ومراكز السلطة فيها بالرغم من الانتشار القوى للسلطة في كل أنحاء المجتمع.
هذا التكامل الوظيفي ليس جديدا في العالم؛ فالحكومات في مناطق مختلفة من العالم تعمل بهذا الإسلوب الشبكي، حيث تتبادل شبكات المسئولين الحكوميين مثل الشرطة ورجال البنوك وحتى القضاء ونواب الشعب المعلومات فيما بينهم في إطار قانوني بشكل متزايد، وينسقون جهودهم بشكل يومي لمحاربة الجريمة ومعالجة المشكلات المشتركة على النطاق العالمي، وأضحت الشبكات ملمحا رئيسيا من ملامح النظام العالمي الجديد.
ففي أعقاب هجمات 11 سبتمبر اندفعت واشنطن لإقامة تحالف عسكري لمكافحة الإرهاب، إلا أن التجربة أثبتت أن دور الماليين الذين تابعوا حصر الأصول الإرهابية وتجميدها، ودور رجال القانون الذين تابعوا الإرهابيين المشتبه بهم، ودور رجال المخابرات الذين استبقوا الأحداث لتحديد الهجوم التالي، لم يكن يقل أهمية من تشكيل الحلف العسكري. بل إن الواقع أثبت أن الوكالات المحلية المسئولة عن الحاويات والجمارك وكافة أنواع التنظيم لابد لها أن توسع مجالات عملها إلى خارج البلاد لأنهم أدركوا أهمية الامتداد العولمي للدولة الوطنيه وسلطاتها، كما أدركوا أهمية التنسيق مع الغير.
ولم تقتصر الشبكات العالمية على الشق السياسي فقط، فالاقتصاد العالمي أصبح يتكون من شبكات وزراء المالية، التي اتسعت لتضم وزراء الاقتصاد، والصناعة، والتجارة، ومديري البنوك المركزيه أيضا. ومؤخرا انضم إليهم رؤساء بعض البنوك التجارية، وهو ما اتضح بجلاء في مفاوضات 5+1 التي قادتها واشنطن مع إيران بشأن ملفها النووي. وهناك مجموعة العشرين، وهي شبكة أُنشئت للمساعدة في تجنب وقوع أزمات مالية في المستقبل، وتضم وزراء مالية عشرين دولة متقدمة ونامية. وفي التسعينات من القرن العشرين تم إنشاء الجمعية الدولية لمشرفي التأمين. ويلاحظ أن هذه الشبكات الثلاث تضم العديد من موظفي الجهاز التنفيذي للدول الأعضاء وهدفهم تحقيق الاستقلال المالي في العالم.
كذلك، فإن أعضاء الهيئات القضائية يتبادلون مناقشة الموضوعات التي تهمهم مثل الدساتير أو الجريمة العابرة للحدود، أو الجرائم الاقتصادية سواء تم ذلك في مؤتمرات دولية أو إقليمية، أو في إطار مؤتمرات نوعية لرؤساء هذه الهيئات خصيصا، بل إن قضاة المحاكم التجارية عبر القومية بدأوا ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم جزء لا يتجزأ من النظام القضائي العالمي. كذلك فإن المشرعين، أي أعضاء الهيئات البرلمانية، رغم أنهم مرتبطين للغاية بدوائرهم الانتخابية التي يمثلونها، إلا أنهم بدأوا في التمدد خارج الحدود، فأصبحت لهم منتدياتهم الإقليمية والعالمية مثل “البرلمان العربي”، و”الاتحاد العالمي للبرلمانيين”. وعادة ما تشهد هذه المنتديات مبادرات في مجال البيئة وحقوق الإنسان، ومواقف في بعض القضايا مثل إلغاء عقوبة الإعدام. والجدير بالذكر أن “التشبيك” لم يقف عند حد شكل التفاعل وما يعكسه من تغيير طبيعة الزمن والمكان، لأن هؤلاء المشرعون بحكم طبيعة عملهم على المستوى القومي والمحلي هم على اتصال بالشركات والمنظمات المدنية، ويتكاملون مع مؤسسات المرأة وحقوق الإنسان، ويزورون السجون ويطلعون على أحوالها وهي سلوكيات تبني الثقة حول ما يطرحونه من آراء، وتساهم في اتخاذ مبادرات تقوم على حسن النية، وهي عوامل تعكس الظروف اللازمة لإقامة تعاون طويل المدى.
الخلاصة، إن الامتداد العولمي للدولة القومية تؤكده الشبكات العالمية المهيمنة على النظام العالمي والموضوعات العالمية التي يقوم عليها النظام العالمي الجديد. ويزيد من أهمية هذه السمة تزايد عدد الموضوعات التي انتقلت من الاختصاص الداخلي للدول إلى الاختصاص العالمي، وتغير طبيعة القوة وأدواتها، إضافة إلى الدور الحاسم لشركات المعلومات العالمية، وكلها عوامل تدفع نحو استخدام المزيد من القوة الناعمة أو قوة الاقناع والمعلومات، طالما أن استخدام القوة الصلبة يخضع للعديد من القيود.
ولا يعني ذلك أن جميع الشبكات ينبغي أن تشمل مؤسسات مختلفة في كل الأحوال، ولكن من المهم التأكيد على أهمية الشبكات الحكومية والمنظمات الدولية القائمة لأن نسبة يُعتد بها من المشكلات العالمية ذات جذور محلية، وينبغي حلها على هذا المستوى، وبالتالي لابد من تعامل الدولة القومية مع المستوى المحلي الداخلي (الحكم المحلي والمحافظات). ومع تداخل المشكلات على هذا المستوى فلابد من حلها من خلال شبكات حكومية تمثل مختلف الجهات الحكومية، وأن تتعامل مع الواقع المحلي كما هو قائم، ولذا فهذه الشبكات الحكومية ذات أهمية خاصة في تنفيذ سياسات انتقالية في الدول الضعيفة أو حتى الفاشلة. ولابد أن تكون القوة المستخدمة ناعمة طالما أن الهدف هو تنفيذ هذه السياسات بالاقناع وإشراك المجتمع المدني لتجاوز دور الحركات الاجتماعية. ولذا من المهم أيضا أن تتضمن هذه السياسات قيما يؤمن بها الجميع مثل النزاهة والإبداع والخبرة والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر شريطة الاتساق بين هذه القيم وتلك السياسات.