تلقّت رئيسة الوزراء البريطانية “تريزا ماي” هزيمة ساحقة وغير مسبوقة في تاريخ المملكة المتحدة عندما رفض البرلمان مشروع اتفاقها مع الاتحاد الأوروبي بفارق يزيد عن ٢٠٠ صوت. هذا الاتفاق كان يُقرّ بخضوع المملكة المتحدة للتشريعات والقوانين الأوروبية أثناء فترة انتقالية تنتهي في ديسمبر ٢٠٢٠، يتم فيها التفاوض حول مستقبل العلاقة بين الاتحاد والمملكة.
كان معروفًا أن مشروعها لن يمر، لكنّ حجم الخسارة كان مريعًا، لا سيما وأن هناك من أيّد المشروع بمنطق التضامن الوزاري لا عن اقتناع. فقد صوّت ضد المشروع كل أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي وكل مؤيدي “الطلاق الكامل” و”الخشن” لأنهم رأوا أن مشروع الاتفاق لا يقطع الروابط بالقدر المرجو.
وفي اليوم التالي، اصطف المحافظون وحلفاؤهم لرفض سحب الثقة من “ماي”، لا عن اقتناع بها وبأدائها، بل لأن البديل (تولي زعيم المعارضة السيد “جيريمي كوربين”) رئاسة الوزراء بديل “مخيف”، إذ يُجمع المحافظون على اعتباره خطرًا على الأمن القومي وعلى الاقتصاد.
وخلاصة التصويتين هي أنه لا توجد حكومة قادرة على ممارسة الحكم وحاصلة على أغلبية برلمانية داعمة.وبهذا انضمت بريطانيا إلى فريق الدول الأوروبية التي تعاني من استقطاب حاد ومن أزمة حكم، ومن عدم وجود بدائل مقنعة. وتواجه العديد من الدول نفس المعضلة؛ رفض شعبي متزايد لمشروع أو على الأقل لسياسات الاتحاد الأوروبي ولنتائج العولمة (إفقار، أزمة دولة الرفاه، الهجرة، أساليب غير ديمقراطية للحكم، الخوف على مستقبل الهوية الوطنية)، وفي المقابل صعوبات وتعقيدات وتكاليف تعتري طريق المغادرة.
يتسابق المراقبون إلى إبراز أخطاء “ماي”، وإرجاع الأزمة إلى تلك الأخطاء، حيث يقول -مثلًا- الأستاذ “جارفان والش” (أحد مستشاري حزب المحافظين) في مقال منشور على موقع “فورين بوليسي”، إنها لجأت إلى انتخابات مبكرة لدعم برنامجها الداعي إلى “طلاق خشن” مع الاتحاد، وهو برنامج يخالف قناعاتها الأصلية، إلا أن معاونيها أقنعوها بضرورة تغيير موقفها، وتبني خيار “البريكزيت” المفضل عند ناخبي الحزب. وكما هو معلوم، فإن نتائج الانتخابات جاءت بما لا تشتهيه السفن، إذ فقد المحافظون الأغلبية المطلقة بعد حملة انتخابية ضعيفة جدًّا، واضطروا إلى التحالف مع حزب أيرلندي (مؤيد أيضًا للبريكزيت).
وقد أدى ذلك إلى اضطرار “ماي” إلى الإعلان عن خطوط حمراء متنوعة لإرضاء كل الفصائل المؤيدة لها، لكنها “خطوط حمراء” تجمع بين التطرف والتناقض فيما بينها، إذ يفترض بعضها (المتعلقة بوضع أيرلندا الشمالية وعلاقتها مع كل من دولة أيرلندا وسائر أقاليم المملكة المتحدة) استمرار التجارة الحرة بين بريطانيا والمجموعة الأوروبية، بينما يتطلب البعض الآخر إنهاء تلك التجارة. وترفض “ماي” حرية انتقال الأفراد من دولة إلى أخرى (بناء على طلب أعداء الهجرة)، ما يفترض رقابة على الحدود، ولكنها ترفض أيضًا تلك الرقابة على الحدود مع دولة أيرلندا.
ويُشير “والش” إلى تفادي المشروع المرفوض حسم تلك المسائل، مكتفيًا بتأجيل البت فيها وبيان الآليات الواجب اتباعها، وهي آليات تختلف وفقًا للخيار الذي سيتم تبنيه. وفرض الاتحاد على “ماي” مبدأ قبول تقديم ضمانات لمنع إقامة حدود بين دولة أيرلندا وإقليم أيرلندا الشمالية، ويعني هذا أنه في حالة الموافقة على مشروع الاتفاق وعدم التوصل إلى اتفاق نهائي قبل نهاية الفترة الانتقالية فستخضع أيرلندا الشمالية لترتيبات وقوانين قد تكون مختلفة عن تلك التي تُنظّم الأوضاع في سائر أقاليم المملكة المتحدة (لأن التجارة بينها وأيرلندا الجنوبية ستكون حرة كما تنقلات الأفراد)، ما يستوجب تعديل الدستور البريطاني، وستخضع الخلافات بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة للتحكيم.
وهناك أيضًا من يلوم الاستراتيجية التفاوضية لماي، وتعددت هذه الانتقادات. حيث يقول البعض إنها كانت مخيرة بين السعي إلى اتفاق يشبه ذلك الذي وقّعته كندا مع الاتحاد (امتيازات قليلة والتزامات قليلة)، وبين محاولة إبرام اتفاق يشبه الاتفاق بين الاتحاد والنرويج (امتيازات كثيرة والتزامات كثيرة)، لكنها فضّلت عدم الحسم المبكر، وطالبت بامتيازات كثيرة لا تقابلها التزامات ثقيلة. وسعت إلى اتفاق على تجارة حرة مع منع حرية تنقل الأفراد، وإلى اتفاق شامل يتناول مشكلات وآليات الانسحاب معًا، وشكل وآليات العلاقة فيما بعد الانسحاب، وهو ما رفضه الاتحاد مفضلًا الفصل أولًا في آليات “الطلاق”، ثم التوصل لاحقًا إلى اتفاق آخر يحدد شكل العلاقة فيما بعده. ونتيجة لذلك، حاولت المملكة المتحدة دون جدوى إقناع بعض الدول بتبني رأيها وإضعاف الجبهة الأوروبية، ولم تنجح بل كانت النتيجة عكسية، واتهمت الاتحاد بمحاولة تقسيم المملكة، وحاولت إقناع الاتحاد بأن مصالح بريطانيا المنسحبة أهم من مصالح أيرلندا الدولة العضو، وفشلت طبعًا. ولم يكن من الوارد تفضيل مصالح دولة غير عضو على دولة عضو، حتى وإن كانت صغيرة. وأخيرًا وليس آخرًا انتقد كثيرون مسلك ولهجة الخطاب البريطاني وتصريحات “ماي” هي ووزراء الخارجية المتعاقبين. ويقولون إن كل هذا أدى إلى مزيد من التصلب الأوروبي. وكان الاتحاد يريد أصلًا فرض شروط قاسية للطلاق لكي لا ينساق أعضاء آخرون إلى خيار الانسحاب منه.
ومع الإقرار بوجاهة هذه التحليلات؛ إلا أننا نعتقد أنها تظلم “ماي”، فالوضع بالغ التعقيد نظرًا لعمق الانقسامات داخل المجتمع البريطاني وبين القوى السياسية الفاعلة، بل وداخل حكومتها، فضلًا عن اختلال موازين القوة بين الاتحاد والمملكة. فلا يوجد خيار من شأنه أن يَلقى إجماعًا بريطانيًّا، أو على الأقل دعم أغلبية أو حتى أقلية يُعتد بها؛ سواء التراجع عن الانسحاب، أو الطلاق الناعم، أو الطلاق الخشن، أو الانسحاب دون الوصول إلى اتفاق، أو المطالبة بالمزيد من الوقت، أو تنظيم استفتاء جديد. كل تلك الخيارات مطروحة من غير تأييدٍ كافٍ لأحدها. صحيح أن استطلاعات الرأي تشير الآن إلى تفوق طفيف لأنصار رفض البريكزيت، ولكنه لا يمكن التعويل عليها لأسباب لا يتسع المجال لشرحها، منها أن النتيجة تختلف مع اختلاف طريقة صياغة السؤال وتصوير البدائل (يمكن القول إن هناك بديلين أو ثلاثة أو أربعة، وتعدد البدائل يؤثر على النتيجة).
ورغم الانقسامات الحزبية، وداخل كل حزب، وتعقيدات هذه الانقسامات، وتداخل قضية البريكزيت مع قضايا الداخل، والتنافس على زعامة الأحزاب (وهو أمر دفع الكثير من المحافظين إلى إطلاق تصريحات معادية للألمان أثرت بالسلب على مسار المفاوضات)، وتأثير تلك العوامل على حسابات كل الفاعلين فيما يتعلق بتحديد المواقف من الانسحاب من الاتحاد؛ إلا أنه يمكن القول إن ما لا يقل عن ثلثي ناخبي الحزب المحافظ من أنصار البريكزيت، وإن ما لا يقل عن ثلثي ناخبي حزب العمال من أنصار البقاء في الاتحاد، وأن بريطانيا شأنها شأن دول أوروبية أخرى تعرف استقطابًا لم تعهده من قبل؛ بين مدن كبرى استفادت من العولمة ومعها أسكتلندا وقطاعات واسعة من أيرلندا الشمالية من ناحية، ومدن متوسطة وقلاع صناعية تضررت منها وتنسب لها تراجع الأحوال المعيشية وتدهور أداء المرافق العامة. وفي كل حزب من الأحزاب ممثلون عن المعسكرين، ويلاحظ أيضًا أن أغلبية واضحة من الإنجليز من أنصار الانسحاب.
لكن الوضع في حزب العمال أكثر تعقيدًا، لأن زعيم الحزب السيد “كوربين” يتمتع بشعبية كبيرة في صفوف كوادر أنصار الانسحاب، أي في صفوف الأقلية الحزبية في تلك القضية. فهو لا يحب الاتحاد وسياساته، وإضافة إلى ذلك يرى أن حزب العمال لن يفوز في الانتخابات دون الفوز في المعاقل الصناعية القديمة الكارهة للاتحاد. هذا الوضع يدفعه إلى عدم السعي الجدي إلى إسقاط “ماي” قبل تحديد مصير وشكل البريكزيت، ولذلك اكتفى حاليًّا بالدعوة إلى سحب الثقة من الحكومة (وهو يعلم تمامًا أنه لن ينجح في هذا)، والإصرار على رفض صيغة الخروج بلا اتفاق، وهو رفض محل شبه إجماع داخل صفوف حزبه.
الوضع الآن ضبابي، فقد أعلنت رئيسة الوزراء أنها ستجري اتصالات مع المعارضة ومع معارضي سياستها في حزبها للوصول إلى حل يقبله الجميع. ومن الواضح أنها تأمل في استثمار المخاوف من تبعات سيناريو الخروج من الاتحاد دون اتفاق لتليين مواقف من لا يحبذ هذا الحل. وهي إلى الآن لم تُغيِّر موقفها الداعي إلى ترك السوق الموحدة (وبالتالي منع حرية التنقل) والاتحاد الجمركي (الترك يسمح لبريطانيا بعقد اتفاقيات تجارية مع الغير دون التقيد بالقواعد الأوروبية)، لكنها استبعدت طلب تمديد المهلة، كما أصرت على رفضها مبدأ إجراء استفتاء جديد، وزعمت أن تنظيمه يحتاج إلى سنة، وهي مقولة دحضها الحزب الليبرالي الديمقراطي (١٢ عضوًا في مجلس العموم) المطالب باستفتاء جديد، حيث زعم رئيسه أن هناك من المحافظين من يؤيد هذا التوجه. ولا يفهم المراقبون كيف يمكن لماي أن تتوقع مساعدة حزب العمال للخروج من ورطتها، لا سيما أن أي تعاون مع “ماي” سيكشف انقسامات الحزب الداخلية. ولا يمكن لها أن تتوقع مساعدة القوميين الأسكتلنديين لأنهم يرون في الوضع الحالي فرصة لإعادة طرح مسألة الاستقلال عن المملكة المتحدة. ما لم يتفق الكل على صيغة تشبه مشروع “ماي” الذي مني بهزيمة ساحقة، وهو اتفاق يبدو صعبًا؛ فستخير “ماي” بين انسحاب من الاتحاد دون اتفاق، وهو خيار كارثي ترفضه الأغلبية ولكنها تعجز عن الاتفاق على بديل، وبين كسب الوقت والجمع بين طلب التأجيل وإعادة طرح البريكزيت على استفتاء جديد.