عند إعلان القيادة العامة للجيش الليبى، الأسبوع الماضى، بدء عمليته العسكرية فى مناطق الجنوب الليبى، كان الهدف فرض معادلة أمنية جديدة تسمح للدولة الليبية، والجيش الليبى بالخصوص، أن يعلن استقرارها أو فرض السيطرة عليها بالصورة التى تتيح إمكانية البناء على ما بعدها، فلا يخفى على أحد قدر السيولة التى تعانى منها تلك المنطقة التى اصطلح على تسميتها بـ«الجنوب»، منذ العام 2011م، تاريخ سقوط النظام السابق ودوامات الخلل التى اعترت المشهد الليبى بكامله.
لكن ظل الجنوب، رغم الانقسام العميق ما بين الشرق والغرب، رقم المعادلة الأصعب، باعتبار مكمن خلله الأساسى هو معادلته الأمنية، وما استُحدث فى جنباته من استيطان نشط للتنظيمات الإرهابية، حوّل «الجنوب» إلى أكثر من جنوب، على اختلاف مرجعيات وولاءات التنظيمات والجماعات التى راهنت على طبيعة الاتساع الجغرافى، الذى يسمح لها بالجوار الآمن دون نزاعات بينية، وعلى الانكشاف الحدودى مع الجوار الجنوبى، الذى فتح لها صياغات تعاون مع العناصر التشادية المعارضة التى تسكن الشمال التشادى، ودخلت مؤخراً إلى داخل الأراضى الليبية، حيث تسيطر تاريخياً على منطقة الشريط الحدودى، بالصورة التى تجعلها تتنقل على جانبَى الحدود بحرية كاملة.
لذلك ذهب الجيش الليبى إلى المعادلة الأعقد، على المستوى الأمنى والتجهيز العسكرى، وهو ما دفع لتناول تلك الحملة بحذر من قبَل المراقبين، ولا يزال هذا الهاجس حاضراً، وإن تمنت كافة دول الجوار للقوات الليبية كل التوفيق والنجاح فى هذه المهمة المعلوم حجم صعوبتها. فاستيطان الجماعات المسلحة لهذه البقعة الجغرافية من أهم دلالاته أنها لم تكن محل تهديد للداخل الليبى وحده، بل ظلت طوال الوقت مصدر تهديد حقيقى لدول مصر وتونس والجزائر، فضلاً عن العديد من دول الجوار الأفريقى، بالأخص فى الحزام الذى يجمع دول الساحل والصحراء. وهذا التهديد ليس افتراضياً لاعتبارات الجوار، بل شهدت السنوات منذ العام 2011 انخراطاً فعلياً من تلك التنظيمات فى استهدافات ممنهجة للداخل المصرى والتونسى على وجه الخصوص، بل وهناك تنظيمات بعينها تشكلت خصيصاً من أجل تلك الاستهدافات، واستخدمت تلك المنطقة فقط كملاذ آمن، تنطلق من خلالها وتدير عملياتها عبر المناطق الحدودية.
الفصول الأولى للعملية العسكرية بالجنوب، أفصحت سريعاً بأن الجيش الليبى لم يذهب إلى هناك إلا بعد تجهيز معلومات استخباراتية مهمة، توصلت إلى توفير خريطة دقيقة لإقامة ووجود العناصر القيادية للتنظيمات. وهذه تظل أهم وأثمن المعلومات قبيل الدخول فى عمليات من هذا النوع، حيث تبدو التنظيمات الإرهابية والمسلحة عامة طوال الوقت مرتبطة، بصورة وثيقة، بدائرة القيادة التى تحركها وتوفر لها التمويل وترسم لها المسار الخططى، وتبقى هى حلقة الوصل الحصرية مع مشغلى تلك التنظيمات، من الدول وعناصر استخباراتها المكلفة بها. لذلك جاء الإعلان عن استهداف ناجح لقياديين من تلك القيادات، كضربة افتتاحية هامة، قد تضمن للفصول التالية من العمل العسكرى مساراً إيجابياً فى تحقيق أهدافها المتعددة.
الأول هو «أبوطلحة الليبى» القيادى البارز فى تنظيم القاعدة، واسمه الحقيقى عبدالمنعم سالم خليفة بلحاج الحسناوى، من بلدة القرضة، التابعة إدارياً لمدينة سبها فى الجنوب الليبى. ويُعد أبوطلحة من المؤسسين الرئيسيين لـ«جبهة النصرة» الفرع القاعدى فى سوريا، بعد أن غادر ليبيا فى العام 2012 إلى سوريا، حيث تولى بعد تأسيس «النصرة» مهام الإشراف على «كتائب المهاجرين» التى كانت تتألف من عناصر أجنبية فى سوريا. ليعود إلى ليبيا لاحقاً فى 2014 ليؤسس فيها «مجلس شورى الحساونة»، على غرار «مجلس شورى بنغازى»، ويظل لاعباً رئيسياً كخط إمداد خلفى للأخيرة باعتبارهما كياناً قاعدياً واحداً، حيث تناوب على كلا التنظيمين قيادات وعناصر «الجماعة الليبية المقاتلة»، الفرع والمدرسة القاعدية المعتمدة فى ليبيا. ويحظى «أبوطلحة» بعلاقات وطيدة مع قيادات وعناصر «تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب العربى»، مما جعل نشاطه طوال تلك السنوات غير قاصر على الداخل الليبى، بل ظل يتحرك بحرية كبيرة وساهم بصورة فعالة فى إعادة المكون القاعدى إلى واجهة العمل المسلح، بعد سنوات من الخفوت لصالح تنظيم «داعش».
الثانى هو «أبو بركات» القيادى الداعشى، ابن مدينة سرت فى أقصى الشمال الليبى، واسمه الحقيقى المهدى دنقو، 38 عاماً. عاد إلى ليبيا فى 2014، بعدما عمل فى «المحكمة الشرعية» لداعش فى مدينة الموصل العراقية، وتحت قيادة أبى بكر البغدادى المباشرة، وعُد من أقرب مقربيه. وكانت مهمته الرئيسية التى كُلف بها من الأخير هى إنشاء فرع داعشى داخل ليبيا، اتخذ من مدينته مستقراً له وضم أعداداً كبيرة إلى صفوفه، قبل أن ينهزم أمام عملية الكرامة التى قادها الجيش الليبى، فيضطر إلى الانسحاب إلى الجنوب ليؤسس ويقود ما سُمى «جيش الصحراء»، ومعظم المنتمين إلى ذلك الكيان الإرهابى المسلح جاءوا من جنوب ليبيا، فضلاً عن عمليات استقطاب وتجنيد واسعة جرت معظمها من دول مجاورة مثل مصر والسودان وتونس والجزائر. أشهر العمليات التى قام بها المهدى ومقاتلوه هى مشاركته لإبراهيم الجضران، الموالى للإخوان، فى السيطرة على حقول النفط الليبية، قبل أن يقوم الجيش الليبى بتحريرها. لكن يظل الأشهر بالطبع، وفق ما أعلنه رئيس التحقيقات فى مكتب النائب العام الليبى «الصادق الصور» فى بيان صحفى، أن التحقيقات فى عملية قتل الأقباط المصريين تدل على تورط الإرهابى المهدى دنقو، الملقب بـ«أبى بركات»، فى تنفيذ تلك الجريمة فبراير 2015 وقت قيادته لفرع تنظيم «داعش» بالشمال الليبى، قبيل انسحابه إلى الجنوب فيما بعد. وجدير بالذكر أن الطلعات الجوية المصرية التى نُفذت رداً على المذبحة كانت موجهة إلى المعسكرات المسلحة التى ضمت العناصر التابعة للمهدى دنقو.
العمل العسكرى الليبى فى تلك الساحة شديد الصعوبة، لكنه فى حال استمراره فى تحقيق نجاحات مؤثرة قد يفوز فى النهاية بالصيد الثمين، وهو استرداد معادلة الأمن الحقيقى للجنوب الليبى.
*نقلا عن صحيفة “الوطن” المصرية، بتاريخ ٢٢ يناير ٢٠١٩.