تختلط المفاهيم وتتداخل التفسيرات عند الحديث عن مستقبل الصحافة في العالم بشكل عام، والأكثر إثارة هو حالة الانقسام والرؤى المتعارضة حول مستقبل الصحافة الورقية في مواجهة تقدم الصحافة الإلكترونية، حيث التخوف الأكبر من أن الصحافة الرصينة يُمكن أن تستمر في التراجع بسبب التحولات الهيكلية للصناعة التي أدت بالفعل إلى انخفاض كبيرٍ في عائدات الإعلانات.
في ظل تلك التقلبات، عادت مسألة استعادة ثقة القارئ في المحتوى الصحفي لتصبح أهم بكثير من الحديث عن الشكل أو الهيئة التي يطالع بها القارئ الأخبار بعد أن تعرضت الصحافة التقليدية لضربات متتالية لسطوة وسائل التواصل الاجتماعي التي شوّهت مهنة نقل الأخبار، وأخلت بمعايير راسخة لصناعة الصحافة.
تُعاني الصحافة ووسائل الإعلام الإخبارية القديمة من أزمة في البنية الهيكلية، وليست مجرد مسألة تحديات تكنولوجية أو نماذج أعمال فاشلة. فعندما يدير المواطنون ظهورهم للصحافة الإخبارية التقليدية والرصينة، ويقضون وقتًا أقل في متابعة الأخبار التي تُبث عبر الراديو والتليفزيون، ويشترون عددًا أقل من الصحف، ويُعربون عن انعدام ثقتهم بشكل متزايدٍ في المؤسسات الإعلامية، فإن المحتوى المقدم يحتاج في تلك الحالة إلى مراجعة نقدية من وسائل الإعلام الجماهيرية وفي مقدمتها الصحافة. ويجب أن تكون الأسئلة الأساسية اليوم لوسائل الإعلام، القديمة والجديدة، الصغيرة والكبيرة، الخاصة والعامة هي: كيف يمكن للصحافة أن تستعيد أهميتها ومعناها وثقتها في المجتمع؟ وكيف يمكن للصحافة إعادة التواصل مع المواطنين؟
كان العام الماضي (٢٠١٨) عامًا صعبًا بالنسبة للعديد من المؤسسات الإعلامية القديمة، حيث استمرت الانخفاضات الحادة لعائدات الطباعة إلى أقصى حدٍّ ممكن مع عدم قدرة الإعلام الرقمي على تعويض الفرق. فعلى الرغم من أن الإعلان عبر الإنترنت لا يزال ينمو بسرعة، إلا أن القليل جدًّا من العوائد يحصل عليها الناشرون نظرًا لأن الوضع العالمي الراهن يمنح شركات التكنولوجيا العملاقة حرية الحصول على العوائد دون مزاحمة حقيقية من الشركات أو المؤسسات التقليدية، وهو ما تنبهت إليه حكومات ومؤسسات عالمية تتفاوض على حقوقها اليوم مع عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث.
في هذا الإطار، خرجت مؤسسة رويترز وجامعة أكسفورد في أحدث دراسة صدرت مؤخرًا من خلال استطلاع رأي أُجري على ٢٠٠ من كبار المسئولين والرؤساء التنفيذيين في الصحف والمواقع الإخبارية العالمية بجملة من المؤشرات المهمة في العام الجديد (2019)، ومنها:
1- بداية تنظيم منصات التواصل الاجتماعي بعد تزايد القلق بشأن الأخبار المضللة، وانتهاك الخصوصية، التي أصبحت اليوم “أمرًا حتميًّا”، فيما ستظل منصات التواصل في حالة حذر وتسلك مسلكًا دفاعيًّا في ضوء الإجراءات التنظيمية المتوقعة عالميًّا.
2- أن الاشتراكات والحصول على العضوية هي الأولوية الرئيسية لصناعة الأخبار في المستقبل، حيث يتوقع أن أكثر من ٥٢٪ من المستطلع آراؤهم بالدراسة سيركزون على الإيرادات الرئيسية خلال عام ٢٠١٩، مقارنة بنحو ٢٧٪ سيركزون على عروض الإعلانات، و٨٪ على الإعلانات المُضمنة Native Ads (التي تظهر وفقًا لسياق الإعلانات بشكل موجه حسب نوعية القراء)، ٧٪ على التبرعات. ويُعتبر هذا تغييرًا كبيرًا من التركيز على الصناعة.
3- هناك قبول متزايد بأن دعم الجودة من خلال تقديم مساعدات مالية Subsides أصبح أمرًا رئيسيًّا في تقديم المحتوى الإخباري. فقد توقع ٢٩٪ دعمًا من المؤسسات العامة والمؤسسات غير الربحية. وتوقع حوالي ١٨٪ أن تقوم منصات التكنولوجيا بمساهمات أكثر في شأن دعم المحتوى الإخباري الجيد، في حين يعتقد واحد من كل عشرة أن الحكومات ستوفر المزيد من الدعم. فيما قال ٢٩٪ من الناشرين إنهم لا يتوقعون أيًّا مما سبق.
4- بدأت صناعة الأخبار تفقد صبرها إزاء ممارسات موقع فيسبوك، في حين يعيد الناشرون تركيز الاهتمام على مواقع أخرى للوصول إلى الجمهور المستهدف، حيث يرى أقل من نصف الناشرين أن منصة فيسبوك ستكون على الأرجح مهمة أو مهمة للغاية خلال العام الجاري، وهو رقم مشابه لأهمية كل من Apple News وYouTube، ولكن أقل بكثير من منصة أخبار جوجل Google التي حصلت على ٨٧٪.
5- يعتقد أكثر من ثلث أرﺑﺎع الرؤساء التنفيذيين (٧٨٪) أنه من المهم استثمار المزيد ﻓﻲ الذكاء الصناعي للمساعدة في تأمين مستقبل الصحافة، ولكن ليس كبديل للوظائف في الوقت الحالي.
ومن المؤشرات الإيجابية في الدراسة الأخيرة أن الباحثين قاموا بتتبع المصادر الرئيسية للأخبار عبر الدول الكبرى خلال السنوات السبع الماضية، حيث كان هناك نمو مستمر في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الأخبار. ففي العديد من البلدان حاليًّا، توقف نمو استخدام تلك الوسائل أو المنصات للوصول إلى الأخبار، أو بات الاتجاه يسير في الاتجاه المعاكس. ويُعزى ذلك تقريبًا إلى حدوث تغييرات في عادات فيسبوك. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يقول ٣٩٪ إنهم استخدموا فيسبوك كمصدر للأخبار في عام ٢٠١٨، بانخفاض ٩٪ عن عام ٢٠١٧. وفي شريحة الشباب وحدها، تراجع استخدامهم للموقع للوصول إلى الأخبار بنسبة ٢٠٪ مقارنة بعام ٢٠١٧. ولكن لا يمكن تعميم النتائج على جميع البلدان، حيث لا يزال استخدام فيسبوك للوصول إلى الأخبار مرتفعًا بشكل ملحوظ في دول كثيرة، إلا أن هناك اتجاهًا جديدًا أخذ في النمو خارج الولايات المتحدة، وربما تكون له انعكاسات مهمة على استعادة الإعلام التقليدي القائم على معايير واضحة مكانته عند الجمهور.