على الرغم من أن العملية الأخيرة التي شنّها التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن على عدة مواقع عسكرية في صنعاء، يوم السبت الماضي (19 يناير 2019)، لا تُشكل متغيرًا جديدًا على مستوى خريطة الأهداف أو التوجهات الاستراتيجية التي يقوم بها التحالف منذ إطلاق عملية “عاصفة الحزم” في مارس 2015؛ إلا أن هذه العمليات تحمل رسائل ومضامين مهمة في سياق المرحلة اللاحقة لجولة استكهولم (ديسمبر 2018) وفي إطار التوجه الراهن للتعاطي مع الأزمة، وهو ما قد يحمل متغيرًا ستترتب عليه تبعات مستقبلية تُلقي بظلالها على مسار الأزمة بشكل عام.
في هذا الإطار، يسعى طرفا الأزمة لفرض معادلة توازن قوى جديدة، استعدادًا لمرحلة التسويات التي تتم في سياق متدرج بفعل توجه بعثة الأمم المتحدة إلى تفكيك الأزمة والتعامل معها بتكتيك الملفات المنفصلة وتدرج المراحل؛ فالميليشيا الحوثية سعت في خطوة استباقية إلى تحويل فائض قوة الصراع على جبهة الحديدة التي تم تحييدها بفعل جولة استكهولم إلى باقي الجبهات، وهو ما ظهر في واقعة استهداف قاعدة “العند الجوية”، بالإضافة إلى تفسير صيغة الاتفاق لصالحها كونها تتضمن عملية “إعادة انتشار” وليس “انسحابًا”. وبناء عليه، قامت بإعادة هيكلة جزء من قوتها العسكرية والأمنية للتوافق مع تلك الصيغة كخطوة استباقية تهدف إلى تعزيز موقعها كطرف موازٍ للحكومة الشرعية وليس كفصيل متمرد عليها. وفي المقابل، تدرك الحكومة اليمنية والتحالف مغزى تلك الخطوات، وتتعامل معها تكتيكيًّا بمنطق رد الفعل، ضمن استراتيجية أشمل لتحجيم نفوذ الميليشيا، وتقويض محاولات تمددها وإعادتها إلى حجمها الطبيعي.
أولًا- أهداف العملية:
تهدف عملية التحالف الأخيرة على صنعاء إلى تحقيق عدد من الأهداف المهمة، يمكن حصرها فيما يلي:
1- شل القدرات العسكرية الشاملة للميليشيا، وليس مجرد استهداف انتقائي للبنية التحية واللوجستية الخاصة بالطائرات دون طيار على النحو المعلن عنه. حيث شملت خريطة المواقع المستهدفة؛ مقر الفرقة الأولى مدرع، وقاعدة الديلمي، ومعسكر الصيانة في الحصبة، ومعسكر الحفاء في نقم (حرس جمهوري)، ومواقع في جبل النهدين، والدفاعات الجوية في منطقة جدر والحصبة، ومواقع قرب مطار صنعاء، ومجمع 22 مايو (تصنيع عسكري)، ومعسكر النقل. هذه المواقع ظلت تحت القصف الجوي لطيران التحالف منذ إطلاق “عاصفة الحزم”، ولم يتوقف القصف على أغلبها حتى ديسمبر 2018.
وبالتالي، فإن ما يميز الضربة الأخيرة التي شملت الإغارة على أغلب المواقع العسكرية في صنعاء تقريبًا دفعة واحدة عما سبقها من عمليات مماثلة هو شل القدرات العسكرية الشاملة وفقًا لما تتضمنه الطبيعة الوظيفية لإجمالي تلك الأهداف (مخازن سلاح وذخيرة، دفاعات، ورش، وسائل التنقل، مطار عسكري، مواقع تدريب قوات). ويؤكد ذلك ما أشار إليه المتحدث العسكري باسم التحالف “تركي المالكي”، الذي أشار إلى أنه تم استهداف مصنع للدرونز في برج تم استهدافه، ومن ثم يتعلق الحديث هنا بموقع من بين عدة مواقع ربما يُستخدم بعضها كشبكة لوجستيه، لكنها إجمالًا تمثل البنية العسكرية في العاصمة. كما أشارت تقارير محلية إلى عملية استهداف منزل قيادي حوثي بارز أثناء تجمع لعدد من القيادات، وهو ما يتم التكتم عليه من جانب الميليشيا التي فرضت طوقًا لعدم الوصول إليه، وهو ما يفسر تأكيد المتحدث باسم التحالف على دور العمل الاستخباري الدقيق في الهجمات.
2- استهداف شبكات الدعم الإيراني للبنية العسكرية، حيث ابتكرت الميليشيا وسائل تمويل جديدة للعمليات العسكرية كشف عنها تقرير أعده خبراء لجنة مراقبة العقوبات في مجلس الأمن قبيل الهجمات بيوم واحد، والذي أشار بدوره إلى توريد إيران شحنات وقود غير قانونية بوثائق مزورة للميليشيا الحوثية في اليمن تديرها شركات محلية صغيرة تابعة للميليشيا وتقوم ببيعها في السوق المحلية، وتحصل عوائدها المالية لتمويل العمليات العسكرية.
كما تضمن التقرير المشار إليه عددًا من التوصيات الخاصة باتخاذ تدابير إضافية لحركة النقل في موانئ الحديدة، والصليف، ورأس عيسى، كمؤشر على استمرار عمليات التهريب المتنوعة التي تشمل الصواريخ والدرونز والألغام وغيرها من إيران إلى اليمن أيضًا. إضافة إلى استمرار تدفق خبراء من ميليشيات إقليمية حليفة متخصصين في التعامل مع تلك الأنواع من الأسلحة غير النمطية، وهو ما ألمح إليه أكثر من مرة المتحدث باسم التحالف في حديثه خلال المؤتمر الصحفي لبيان العملية.
ثانيًا- دلالات العملية:
تنطوي هذه العملية على عدد من الدلالات المهمة، نشير فيما يلي إلى أهمها:
1- إعادة الاعتبار للخيار العسكري بموازاة خيار التسوية: فمن المتصور أن الخيار العسكري قد تراجع نسبيًّا في إطار استجابة التحالف لمبادرة التسوية الخاصة بالحديدة، بهدف إتاحة الفرصة لإنضاج هذا المسار الذي تقوده البعثة الأممية، والذي تم إسناده بقرار دولي جديد خاص بنشر بعثة المراقبين الدوليين. لكن هذه الاستجابة لم تُقابل بخطوات مماثلة من جانب الميليشيا في ظل توجهها لاستعراض القوة المسحلة. وبالتالي وجد التحالف والحكومة الشرعية أنفسهم مطالبين برد الفعل، وبالتالي يتجه التحالف أيضًا إلى تحويل فائض قوة معركة الحديدة التي لم تكتمل إلى المواقع الأخرى في طوق صنعاء، واستكمال التقدم على جبهة صعدة (معقل الميليشيا)، وهو ما كشفت عنه تقارير محلية لجهات محسوبة على الشرعية ذهبت إلى أن هناك اتجاهًا لتطوير التحرك العسكري على جبهة نهم وصرواح وباقي محاور طوق صنعاء تمهيدًا لعزل العاصمة وقطع روافد الإمداد والاتصال بين تلك الجبهات للتضييق على الميليشيا لإخضاعها للعودة إلى ما قبل تاريخ انقلابها على الشرعية في 21 سبتمبر 2014.
2- ردع الميليشيا: استخدام الحركة للدرونز لا يُشكل متغيرًا نوعيًّا أيضًا على الساحة، حيث بدأت في استخدامها منذ فترة طويلة، إلا أنها أصبحت تُحدث تأثيرًا منذ مايو 2018 على خلفية استهداف قوة عسكرية تابعة للتحالف على الحدود السعودية – اليمنية، وهو ما اعتبره التحالف آنذاك متغيِّرًا جديدًا على الساحة، لكن المتغير الحالي فيما بعد جولة استكهولم هو كثافة الاستخدام والأثر النوعي والكمي في ظل تقلص مساحات السيطرة وتراجع القدرات التجنيدية للميليشيا. وبالتالي يأتي التدخل الهجومي للتحالف لردع الميليشيا في سياق تأكيده على أن استخدام القوة من جانبها سيجابه برد فعل مناظر أكبر وأكثر تأثيرًا.
3- استنزاف الخصم: على الرغم من أن الحركة الحوثية أشاعت من خلال منصاتها الإعلامية أن العملية لم تحدث خسائر، وأنه تم استهداف المستهدف وقصف المقصوف، وفقًا لقناة “المسيرة” التابعة للميليشيا، إلا أن تلك التقارير تبدو وكأنها محاولة للتهوين من جانبها في الخسائر التي مُنيت بها. كما أن هناك تقارير محلية ودولية أشارت إلى أن الميليشيا تقوم بعملية رفع جزئي لكفاءة المواقع المستهدفة واستغلالها مجددًا في ظل حرصها على استمرار السيطرة عليها كورقة للمقايضة عليها ضمن الملف العسكري والأمني في مسار التسوية عندما تحين تلك اللحظة مستقبلًا.
ثالثًا- تداعيات العملية على مسار استكهولم:
مؤشرات التصعيد المتبادل على الجانبين تصب في اتجاه تحول طرفي الأزمة لفرض قواعد اشتباك جديدة، فجبهة التحالف والشرعية أصبحت تعتمد الخيار العسكري كعامل ضغط على الحوثيين في المفاوضات بعد أن ثبت عدم فاعليته كعامل لحسم الصراع في ضوء القيود الدولية التي تحول دون تقدم العمليات العسكرية على النحو الذي شهدته عملية “النصر الذهبي” في الحديدة، إضافة إلى القيود اللوجستية التي يشكلها الطابعان الطبوغرافي والديموغرافي لصنعاء. وفي المقابل، تعمل جبهة التمرد الحوثي -بدعم إيراني- على تعزيز وضعها العسكري، لا سيما وقد منحتها مبادرة الحديدة فرصة جديدة لالتقاط الأنفاس وإعادة الانتشار وتنظيم الصفوف. ومن ثم، من المتصور أن الطرفين سيعتمدان خيار التصعيد العسكري توازيًا مع خيار التفاوض مع إدراكهما أنه لن يتم الانتقال إلى الملفات الاستراتيجية دون تحقيق استحقاقات الجولة الأولى.
وفي المقابل، يبدو أن هذا التوجه الخاص بعدم إسقاط خيار التفاوض ينسجم وموقف بعثة الأمم المتحدة في الحفاظ على الاتفاق رغم تعثره، والرد دبلوماسيًّا على محاولة انتهاكه مع غض الطرف عن التفاعلات العسكرية التي تجري خارج نطاقه. فعلى سبيل المثال، طلبت الميليشيا الحوثية إدانة الهجمات الأخيرة للتحالف، لكن الأمم المتحدة لم تستجب لهذا الطلب، لا سيما مع تركيز الأطراف على الأهداف العسكرية، وتركيز كل منهما على أنها أهداف مشروعة؛ فالميليشيا الحوثية اعتبرت أن عملية “العند” هدف عسكري مشروع، وفي المقابل رد عليها التحالف بضرب أهداف مشروعة.
وفي المحصّلة الأخيرة، من المتوقع استمرار مسار التسوية رغم تعثره في ظل حرص الأمم المتحدة على إبقائه مهما كانت العقبات في طريق تنفيذه، أو مساعي عرقلته وإطالة أمد تنفيذ مخرجاته. ويؤكد ذلك أنه في أعقاب الهجوم الحوثي على “العند” انعقدت لجنة تبادل الأسرى في الأردن. وفي أعقاب العملية أيضًا أعلن وزير الخارجية اليمني “خالد اليماني” عن انعقاد أولى جولات لجنة فك الحصار عن تعز. وبعد هجوم الميليشيا الحوثية على موكب مسئول اللجنة الأممية في الحديدة “باتريك كيمرت” هناك توجه لنقلها خارج اليمن.