عقد في الأردن المؤتمر الثاني “بغداد للتعاون والشراكة” في 20 ديسمبر 2022 في مركز الملك حسين بن طلال للمؤتمرات في البحر الميت، بعد انعقاد الأول في العاصمة العراقية بغداد في 21 أغسطس 2021 برعاية فرنسية وعربية، ليمثل هذا المؤتمر فرصة للحوار الإقليمي بين مختلف القوى المتصارعة وتهدئة التوترات من ناحية، ومن ناحية أخرى ترسيخ مبدأ دعم العراق وإبعاده عن ساحة الصراع وتصفية الحسابات بين القوى المختلفة، بالإضافة إلى استعادة دور ومكانة العراق الإقليمية. كانت النسخة الأولى منه في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق “مصطفى الكاظمي” الذي حاول تحقيق توازن في علاقات العراق الخارجية والعمل على عودته إلى محيطه العربي، بينما انعقدت النسخة الثانية من المؤتمر في عهد رئيس الوزراء الحالي “محمد شياع السوداني” بما يعكس استمرار السير على نهج سابقه، وهو ما اتضح في جولته الخارجية إلى الأردن في 22 نوفمبر 2022 والكويت في 23 نوفمبر بما يبعث برسائل لعودة العراق إلى محيطه، وتحقيق توازن في علاقاته الخارجية، وإن كان السوداني مقربًا من القوى السياسية العراقية الموالية لإيران (قوى الإطار التنسيقي) التي انتقدت في السابق مسار الكاظمي في عقد مؤتمر بغداد وإنشاء آلية التعاون الثلاثي بين مصر والأردن والعراق. وعليه، سوف يتم التركيز هنا على الأهمية التي عكسها مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، والتحديات التي تواجه المسار الذي يهدف المؤتمر إلى تحقيقه لتهدئة التوترات في الإقليم.
أهمية المؤتمر
يعكس انعقاد المؤتمر بشكل دوري عدة أمور ذات أهمية ضرورية لتهدئة التوترات في الإقليم ولتعزيز أمنه يتم ذكرها على النحو الآتي:
• آلية للحوار: ساهم المؤتمر في كونه آلية للحوار بين الأطراف المختلفة الإقليمية والدولية لمناقشة السياق الداخلي والإقليمي وكذلك الدولي وانعكاساته على المنطقة، وقد شارك في النسخة الثانية من المؤتمر ممثلون عن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي، ورؤساء كل من العراق والأردن ومصر وفرنسا، ووزراء خارجية كل من السعودية وقطر وعمان والبحرين وإيران وسفراء عن تركيا والكويت بما يعكس الدعم الدولي الذي يحظى به المؤتمر، وكونه آلية ضرورية لتعزيز الحوار بين العديد من الأطراف، بالإضافة إلى توسيع نطاق المشاركة به ليشمل أطرافًا ليست على حدود العراق ودول من خارج المنطقة مثل فرنسا بما عكس الاهتمام الفرنسي بالمنطقة. كما أن انعقاد المؤتمر بصفة دورية مؤشر إيجابي على الدعم الذي يحظى به المؤتمر، ويبعث رسائل إلى طهران بأن الحضور الغربي من خلال الشركاء الإقليميين على غرار مصر والأردن ودول الخليج العربي، سيظل قائمًا بالرغم من أن رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” شخصية مقربة من القوى الإيرانية، إلا أن عقد المؤتمر بالتزامن مع تولي السوداني يعكس الحرص العربي على سيادة الدولة العراقية واستمرار التعاون معها، وأن التعاون مؤسساتي أكثر من كونه مرتبطاً بشخصيات بعينها، وسوف تعقد النسخة الثالثة من المؤتمر في مصر في عام 2023.
كذلك ساهم المؤتمر في توسيع نطاق التنسيق الإقليمي والدولي بشأن قضايا الإقليم، وبحث انعكاسات التفاعلات الإقليمية والدولية على المنطقة، وهو ما تمثل في عقد العديد من اللقاءات الجانبية على هامش المؤتمر بشأن الحوار السعودي الإيراني، والملف النووي الإيراني ومنها: لقاء وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبداللهيان” مع وزير الخارجية السعودي الأمير “فيصل بن فرحان”، وكذلك مع مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل”، بالإضافة إلى لقاء خماسي جمع العاهل الأردني الملك “عبد الله الثاني” والرئيس “عبد الفتاح السيسي” والرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، ورئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” ورئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ “أحمد نواف الأحمد الصباح”.
• استعادة العراق: يمثل المؤتمر آلية ضرورية لإحداث توافق بين الأطراف المختلفة في ظل حاجه العراق إلى استثمارات الدول في البنية التحتية العراقية والتعاون في مجالات الطاقة، وهو ما تعززه آلية التعاون الثلاثي بين (مصر والأردن والعراق) من خلال التعاون الاقتصادي الذي يخدم الدول الثلاث في قطاعات التجارة والطاقة والربط الكهربائي، وإعادة إعمار العراق وربطه بشبكة الكهرباء وخط نفط البصرة – العقبة، ومشروع نقل البضائع بما يُعزز التكامل الاقتصادي ومواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية من حيث الأمن الغذائي وأمن الطاقة. وكان على هامش النسخة الثانية من المؤتمر لقاء ثلاثي بين الملك “عبد الله الثاني” والرئيس “عبد الفتاح السيسي” ورئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني”، لبحث تطورات الشراكة الثلاثية وتسريع وتيرة تنفيذ الاتفاقات فيما بينهم، كما تم التأكيد في البيان الختامي للنسخة الثانية من المؤتمر على دعم جهود العراق لتحقيق التنمية الشاملة، وأهمية مشاريع التعاون بين دول مجلس التعاون الخليجي والعراق خاصة الربط الكهربائي والنقل، وغيرها من المشاريع الإقليمية التي تُسهم في تحقيق التكامل الاقتصادي والتنمية، وبناء الجسور مع الأسواق العالمية، بما ينعكس إيجابًا على المنطقة برمتها، وذلك من خلال علاقات بناءة قائمة على مبادئ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام القانون الدولي، واعتماد الحوار سبيلًا لحل الخلافات، ومساندة العراق في مكافحة الإرهاب.
• تعزيز الأمن الإقليمي: نجاح مؤتمر بغداد كإحدى الآليات التي يمكن البناء عليها لحل خلافات الإقليم وتعزيز أمنه، يضفي أهمية على استمرار انعقاد القمم وانتهاج مسار دبلوماسية المؤتمرات لمعالجة الخلافات خاصة في ظل انخراط أطراف عديدة متباينة في المصالح والأهداف، وقد انعكس ذلك في لقاءات النسخة الأولى من المؤتمر وعقد لقاءات بين بعض القادة ورؤساء الوفود مثل لقاء الشيخ “محمد بن راشد آل مكتوم” نائب رئيس دولة الإمارات ووزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” ولقاء آخر بين أمير قطر الشيخ “تميم بن حمد آل ثاني” والرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي”.
• دعم دولي لاستقرار العراق: هناك حرص دولي على استقرار العراق، كما أن الحرب الروسية-الأوكرانية وتأثيراتها على أسواق الطاقة العالمية جعلت العراق في صدارة الخيارات التي ترغب كل من أوروبا وأمريكا في اللجوء إليها، ومن ثم العمل على استقراره كسوق بديل في ظل البحث عن موردين جدد للغاز والبترول بالنسبة لهم، وهنا تبرز الاتفاقيات مع القوى الدولية حيث التطلع الفرنسي للاستثمار في قطاع الطاقة العراقي؛ حيث أبرمت شركة توتال الفرنسية صفقة طاقة بقيمة 10 مليارات دولار العام الماضي مع العراق، وكذلك اتفاقية النفط مقابل إعادة الإعمار في أكتوبر 2019، حيث تحصل بكين على 100 ألف برميل من النفط يوميًا مقابل مشاركة الشركات الصينية في إعادة إعمار العراق.
• مواجهة التحديات: جاء المؤتمر في سياق إقليمي ودولي مليء بالتحديات من حيث اشتداد الأزمات السياسية في الدول العربية ومواجهة أزمات في الأمن الغذائي وجائحة كورونا، وتحديات الأمن المائي والصحي، لذلك يمثل المؤتمر أهمية ضرورية لمواجهة التحديات التي تشهدها المنطقة، والبحث عن تأمين إمدادات الطاقة وسلاسل التوريد والتعامل مع تداعيات التغير المناخي.
التحديات
مثّل مؤتمر بغداد آلية ضرورية للحوار الإقليمي، لكن هناك بعض التحديات التي تعيق المسار المستهدف منه، نذكرها على النحو التالي:
• قيود داخلية: ربما تمارس القوى الموالية لإيران قيودًا على رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” كعنصر ضاغط على تحركاته الخارجية خاصة أن هذه القوى تسيطر على الحكومة والبرلمان، ومن ثم لا تمنحه الدعم الكافي في الملفات الأمنية والاقتصادية وكذلك في ملفات السياسة الخارجية في حال مخالفة تحركاته للرؤية الإيرانية، هذا بالإضافة إلى بعض التحديات الأمنية في الداخل العراقي بسبب الميليشيات التابعة لإيران، أو بسبب نشاط داعش في العراق مؤخرًا في مدن كركوك في الشمال وديالى في الشرق.
• ساحة للصراع: ما زالت الأطراف الإقليمية تستخدم العراق كساحة للصراع وتصفية الحسابات بما يعرقل جهود الدول الداعمة لاستقرار العراق، وهو ما شهدنا في الهجمات الإيرانية والتركية ضد الأكراد في العراق في الأشهر الماضية، كما تضغط كل من إيران وتركيا على العراق في ملف الأمن المائي وتحاول عرقلة تدفق المياه إليها، بما يزيد من مخاطر الفقر المائي حيث تقوم إيران بقطع المياه عن أنهار (سيروان والكارون والكرخة والوند ) في محافظة ديالى، وخفضت تدفقات نهر سيروان ونهر الزاب الصغير عبر الحدود الإيرانية العراقية في إقليم كردستان العراق، أيضًا قامت تركيا ببناء شبكة من سدود الري والكهرباء على نهري دجلة والفرات دون التنسيق مع العراق. من ناحية أخرى لم تعكس مشاركة إيران في المؤتمر أي مؤشرات من جانبها لخفض نفوذها في العراق، بل أن مشاركتها محاولة لكسر العزلة المفروضة عليها، وحرصًا منها على استمرار الحوار مع الدول الإقليمية والأوروبية بعد اتهامات لها بتقديمها دعم عسكري لروسيا في الحرب الأوكرانية.
• رؤى متباينة: بالرغم من أن المؤتمر يوفر آلية للحوار بين الدول المختلفة إلا أنه بمراجعة كلمات ممثلي الدول خلال نسختي المؤتمر الأولى والثانية، نجد أن هناك تباين في أهدافها ومصالحها؛ حيث تبنت مصر والأردن مبادئ استقرار العراق وإعادة بناء مؤسسات الدولة وإعمار العراق ومساندتها في جهودها لمكافحة الإرهاب واستعادة نفوذها، بينما تبنت كل من الإمارات والسعودية دعم المشروعات الاقتصادية والاستثمارات بما يساعد الدولة على تنشيط الاقتصاد وتحسين الظروف المعيشية، بينما نظرت كل من إيران وتركيا إلى الإرهاب من منظور خاص بها وبمصالحها حيث اعتبرت إيران وجود مقاتلين أجانب في العراق أحد مصادر التهديد الرئيسية للعراق والمنطقة، كما ربطت طهران ممارسة الإرهاب ببعض العمليات التي حدثت في العراق خلال العامين الماضيين وتحديدًا اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني على الأراضي العراقية في يناير 2020، بينما لم تعتبر إيران تحركات الحشد الشعبي والفصائل المسلحة التابعة لها ضمن مهددات الاستقرار في العراق وكذلك الضغوط السياسية التي تمارسها القوى الموالية لها، أما تركيا فقد حددت وجود حزب العمال الكردستاني في شمال العراق مصدرا للإرهاب.
ختاماً؛ يمثل المؤتمر أداة ضرورية لمواجهة التحديات التي تشهدها المنطقة ومنصة هامة للتواصل مع القوى غير العربية (إيران وتركيا) لخفض التوترات وتحقيق التوازن في الإقليم، لكن لن يتحقق الاستقرار الإقليمي إلا من خلال إرادة جادة من قبل هذه الدول والالتزام من جانبها بحسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.