لفترة طويلة استحوذت الدول المتقدمة على تنظيم النسبة الأكبر من البطولات الرياضية العالمية، وذلك لما يتطلبه تنظيم هذه البطولات من بنية تحتية وتجهيزات عالية التكلفة. وكان تنظيم البطولات الرياضية الأهم، مثل “الأولمبياد” أو كأس العالم لكرة القدم، حكرًا على الدول المتقدمة في الغالب. لكن بحلول القرن الحادي العشرين بدأ ذلك الاتجاه في التغير، وتحديدًا منذ عام 2008، حينما بدأت بعض الدول ذات الاقتصادات النامية والناشئة بمزاحمة الدول الكبرى في الفوز بفرص تنظيم هذه البطولات. فقد نظمت الصين بطولة الألعاب الأولمبية الصيفية في عام 2008، ثم قامت دولة جنوب إفريقيا بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم في عام 2010. ولحقت بهم البرازيل، بتنظيمها بطولة كأس العالم لكرة القدم في عام 2014، وأولمبياد الألعاب الصيفية لعام 2016 بمدينة ريو دي جانيرو.
ووسط هذا التنافس الدولي على تنظيم تلك البطولات، طُرحت تساؤلات حول الجدوى الاقتصادية لتنظيم هذه البطولات في ظل تكاليفها المرتفعة، وما إذا كانت العائدات المتوقعة على المدى القصير والبعيد تغطي تلك التكاليف. وقد فرض هذا السؤال نفسه في مصر عقب فوزها بتنظيم كأس الأمم الإفريقية لعام 2019.
وتستند هذه التساؤلات، كما سبق القول، إلى التكلفة المرتفعة لتنظيم البطولات القارية والعالمية التي تتجاوز ملايين الدولارات، وربما المليارات. خلال الثلاثين عامًا الأخيرة، كانت التكلفة الأقل في حالة كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت بفرنسا في عام 1998 والتي بلغت حوالي 340 مليون دولار، بينما كانت التكلفة الأعلى في حالة كأس العالم 2014 في البرازيل، والتي تجاوزت 15 مليار دولار. وتُعد البنية الأساسية هي العنصر الأهم في هذه التكلفة، ما أدى إلى تقليل النفقات الإجمالية إلى أقل من مليار دولار في كأسي العالم لكرة القدم بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 1994، وفرنسا في 1998، مقابل زيادتها في روسيا 2018، والبرازيل 2014، وجنوب إفريقيا 2010، وألمانيا 2006، لأرقام تتراوح بين (4-15) مليار دولار.
تنظيم البطولات العالمية.. حالة الدول الكبرى
تشير بعض التقارير إلى أن كأس العالم 2018 في روسيا سيساهم في تعزيز الناتج المحلي الإجمالي لروسيا حتى عام 2023 بقيم تتراوح بين (26 – 30.8) مليار دولار(١)، من خلال تعزيز قطاع السياحة، والإنفاق واسع النطاق على الإنشاءات. ووفق أحد التقارير الروسية الرسمية، أعرب نائب رئيس الوزراء الروسي “أركادي دفوركوفيتش”، عن تطلعه لتنمية اقتصادية طويلة المدى في روسيا، رغم تكاليف البطولة المقدرة بنحو 11 مليار دولار(٢)، والتي لم تتضمن تكلفة البنية التحتية والملاعب التي كان من المزمع إنشاؤها حتى في حالة عدم تنظيم روسيا للبطولة. وأضاف التقرير أن هناك 220 ألف وظيفة تم توفيرها بسبب هذا الحدث.
وكانت روسيا قد أنفقت سابقًا 50 مليار دولار لتنظيم بطولة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 بمدينة سوتشي(٣)، لتعتبر أكثر البطولات الأولمبية الشتوية كلفة. وقد اعتبرت الحكومة الروسية تنظيم هذه البطولة نوعًا من “الوجاهة الوطنية” والدولية، رغم الانتقادات العديدة والاتهامات التي وُجّهت إليها بإهدار المال العام والفساد.
شكل رقم (1): تكلفة تنظيم بطولة كأس العالم في آخر 30 عامًا (مليار الدولار)
وبالعودة إلى الخبرات السابقة، لا يزال هناك جدل حول المكاسب الاقتصادية النهائية لتنظيم بطولة كأس العالم 1994 التي نظمتها الولايات المتحدة الأمريكية. ففي لوس أنجلوس وحدها، التي استضافت المباراة النهائية، قُدرت المكاسب بنحو 623 مليون دولار. أما في نيويورك وسان فرانسيسكو وبوسطن، فقد تجاوزت أرباحها مجتمعة المليار و45 مليون دولار(٤). وساهمت البطولة في زيادة أرباح الفنادق والمطاعم بحوالي 10% إلى 15% مقارنة بالسنة السابقة على تنظيم البطولة(٥).
وعلى الرغم من ذلك، برزت تقارير أحدث في عام 2004 حول فشل الولايات المتحدة في الفوز بتنظيم كأسي العالم 2018 و2022. وأشارت هذه التقارير إلى أن هذا الفشل ربما كان هو الأفضل على المدى الطويل للاقتصاد الأمريكي. وشككت هذه التقارير في تحليل مكاسب بطولة عام 1994. وأشار التقرير إلى انخفاض دخل المدن المستضيفة بحوالي 712 مليون دولار مقارنة بالتوقعات السائدة آنذاك.
حالة الاقتصادات الناشئة
أما في حالة كأس العالم 2010 الذي نظمته جنوب إفريقيا، وكأس العالم 2014 الذي نظمته البرازيل، فحتى اليوم لا تزال المكاسب الاقتصادية المتحققة من هذين الحدثين محل جدل واسع. إذ إن ارتفاع قيمة التكاليف، وسوء إدارة توزيع المكاسب على جميع الطبقات الاجتماعية؛ كانا موضعًا للنقد من جانب العديد من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، توقعت دولة جنوب إفريقيا إنفاق 225 مليون دولار على الملاعب، وتكلفة إجمالية لتنظيم البطولة قدرها 336 مليون دولار، لكن هذه التكلفة وصلت وفق بعض التقديرات إلى 2.13 مليار دولار للملاعب وحدها، وبتكلفة إجمالية لتنظيم البطولة تعدت 3 مليارات دولار(٦). وذهبت بعض التقديرات المتشائمة إلى أن جنوب إفريقيا لم تستطع تحقيق حتى 10% كأرباح من إجمالي التكاليف الكلية(٧)، وهو ما ردت عليه الحكومة بعدة تفسيرات، منها أن معظم التكاليف كانت موجهة بالأساس إلى قطاعات كانت هناك حاجة لتنميتها وتطويرها في جميع الأحوال، بغض النظر عن إقامة البطولة من عدمها.
لكن هذا لا يعني أن جنوب إفريقيا لم تحقق أية مكاسب حقيقية، ذلك أن جزءًا من هذه التكاليف تم توجيهه إلى قطاعي المواصلات والاتصالات، ما ساهم في تطوير هذين القطاعين بشكل كبير، خاصة المطارات ومحطات القطار. كما ساهمت البطولة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي بنحو 509 ملايين دولار، وزيادة عدد الوظائف في مجالات الإنشاء والفنادق بنحو 130 ألف وظيفة. كما نتج عن البطولة دخول أكثر من 306 آلاف سائح أنفقوا حوالي 444 مليون دولار على الإقامة والتسوق، وهو رقم أعلى من السنة التي سبقتها بنسبة 24%(٨).
أما في حالة البرازيل، فكان الاقتصاد في عام 2007 وقت اختيارها لتنظيم البطولة بحالة جيدة (معدل نمو اقتصادي 6.1%، معدل تضخم 3.6%)(٩). لكن بحلول عام 2008، تضررت البرازيل من الأزمة المالية العالمية، وتزايدت نفقات الحكومة ومعدلات التضخم. وبحلول موعد كأس العالم، شهدت البلاد مظاهرات عارمة اعتراضًا على الوضع الاقتصادي المتدهور. وقد تزامن مع ذلك كله تكاليف تنظيم البطولة التي تُعد الأعلى في تاريخ البطولة، والتي كان من المتوقع أن تصل إلى 24 مليار دولار، ثم خفضتها الحكومة بنسبة تتعدى 60% لتصل إلى 15 مليار دولار فقط(١٠). ووُجّه أغلبها لتحسين المطارات والملاعب والمواصلات. لكن في المقابل، حقق تنظيم البطولة العديد من المكاسب الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للاقتصاد البرازيلي. ففي دراسة قام بها معهد مؤسسة البحوث الاقتصادية FIPE البرازيلي، تبين ضخ 13.43 مليار دولار داخل الاقتصاد البرازيلي، منها 3 مليارات دولار من الدخل السياحي المحقق (3.7 ملايين سائح محلي وأجنبي بزيادة قدرها 42% مقارنة بالفترة نفسها خلال العام السابق). كما توصلت الدراسة نفسها إلى أن تنظيم البطولة نتج عنه توفير 910 آلاف وظيفة، منها 710 آلاف وظيفة دائمة و200 ألف وظيفة مؤقتة(١١).
ورغم وجود جدل حول الجدوى الاقتصادية لتنظيم البطولات الكروية الدولية، لكن لا بد من الأخذ في الاعتبار عدد من الملاحظات أثناء عملية التقييم الاقتصادي. الملاحظة الأولى، أنه لا بد من التمييز بين المكاسب الاقتصادية على المدى القصير والمكاسب المتحققة على المدى البعيد. الثانية، أن تقييم المكاسب الاقتصادية الإجمالية لا بد أن يأخذ في الاعتبار مدى جاهزية البنية الأساسية. ولا شك في أن عدم امتلاك الدولة المستضيفة لهذه البنية الأساسية يرفع من التكلفة الإجمالية للتنظيم، الأمر الذي يقلل من العائدات المتحققة مقارنةً بالتكاليف الفعلية. الملاحظة الثالثة، أنه حتى في حالة عدم امتلاك هذه البنية وتوجيه جزء من التكلفة لتوفيرها فإن هذا لا يقلل من المكاسب المتحققة على المدى البعيد ذلك أن هذه البنية تمثل إضافة لا يمكن إغفالها.
مصر وفرص كأس 2019
رغم قصر الفترة المتاحة أمام مصر للإعداد لبطولة كأس الأمم الإفريقية 2019، لكن تظل هناك العديد من العوامل التي تساهم في تعظيم المكاسب الاقتصادية من البطولة. أول هذه العوامل يتعلق بامتلاك مصر بنية أساسية مهمة في مجال الرياضة، بدءًا من الملاعب المجهزة (استاد القاهرة الدولي، استاد برج العرب، اللذان يسعان 75 ألف متفرج، 86 ألف متفرج على الترتيب). ولا شك في أن وجود هذه الملاعب المجهزة سيوفر الكثير من التكاليف الخاصة بإنشاء الملاعب. ويرتبط بمسألة البنية الأساسية امتلاك مصر سلسلة من الفنادق المهمة المهيّاة لاستقبال الفرق الرياضية والجماهير، فضلًا عن المطارات الدولية والطرق الرئيسية السريعة التي تربط بين المدن المتوقع استقبالها للمباريات الرياضية. وتكلفة إنشاء عناصر البنية الأساسية السابقة تمثل -كما سبق القول- النسبة الأكبر من تكاليف تنظيم هذه البطولات في حالة الدول التي تفتقد هذه البنية. فعلى سبيل المثال، أشار تقرير جابوني إلى أن إجمالي ما تم إنفاقه على تنظيم بطولة كأس عام 2017 بلغ نحو 769 مليون دولار، وهو ما يتجاوز قيمة ما تم إنفاقه لتنظيم كأس 2012 المقامة وقتها بين الجابون وغينيا الاستوائية (حوالي 105 ملايين دولار)(١٢). ووفق بعض التقديرات، فقد أنفقت دولة الجابون حوالي 1.5 مليار دولار خلال 5 سنوات فقط، أغلبها على البنية التحتية المطلوبة، قدّرها البعض بأنها تعادل ثلاثة أضعاف ميزانية جمهورية إفريقيا الوسطى، وحوالي 85% من ميزانية توجو.
هناك رؤى متفائلة بشأن تحقيق مصر عائدات كبيرة من تنظيم البطولة، خاصة مع انخفاض التكلفة نسبيًّا نتيجة جاهزية البنية التحتية كما سبق القول. ومن المنتظر أن تتأتى المكاسب بشكل أساسي من الدفعة القوية التي سيتلقاها قطاع السياحة، حيث يتوقع البعض أن تساهم البطولة في دخول حوالي مليون شخص لمصر خلال فترة البطولة، وهو ما سيحسن من معدلات النمو الاقتصادي بشكل عام، وقطاع السياحة بشكل خاص. ومن المتوقع أيضًا حصول مصر على مكاسب ضخمة من حقوق البث التليفزيوني وحدها، إذ أشار تقرير لمجلة “الإيكونوميست” إلى أن مكاسب بث أولمبياد 2012 بلندن قد تعدت 2.5 مليار دولار، مقارنة بحوالي 100 مليون دولار في حالة أولمبياد 1968 بمكسيكو سيتي. كما أوضح التقرير تحقيق منظمة الفيفا حوالي 3.7 مليارات دولار كمكاسب من بطولة كأس العالم لكرة القدم 2010، وحوالي 5 مليارات دولار من بطولة 2014، وقد نتج نصف هذه المكاسب تقريبًا من حقوق البث التليفزيوني(١٣).
وأخيرًا، يمكن الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي تزايد عدد اللاعبين الإفريقيين بالدوريات الكروية الأكبر في أوروبا، ما سينعكس على زيادة حجم التغطية التليفزيونية العالمية والرعاية من قبل العلامات التجارية المتصدرة.
——————-
الهوامش
1- “World Cup claimed to boost Russia’s economy by nearly $31B”, USA Today, April 25, 2018. Available at:
https://www.usatoday.com/story/sports/soccer/2018/04/25/world-cup claimed-to-boost-
2- مجموعة RBK الروسية (باللغة الروسية)، على الرابط التالي:
https://www.rbc.ru/society/08/06/2018/5b02f8039a7947289e44a869?from=center_2
3- “Russia spent $50 billion on the Sochi Olympics. It might actually have been worth it.”, The Washington Post, November 15, 2017. Available at:
https://www.washingtonpost.com/world/europe/that-sochi-olympic boondoggle-
4- Christian Ezeibe & Ike Chinedu, “Fifa World Cup Finals: Catalyst for Infrastructural Development? A Case Study of South Africa 2010”, IOSR Journal of Humanities and Social Science, January 2014. Pp. 86-95. Available at: https://www.researchgate.net/publication/272716838_Fifa_World_Cup_Finals_Catalyst_for_Infrastructural_Development_A_Case_Study_of_South_Africa_2010
5- Nation’s Restaurant News, 27 June 1994.
6- Dennis Coates, “World cup economics: What Americans need to know a US world cup bid”, University of Maryland, Baltimore County. Available at: https://economics.umbc.edu/files/2014/09/wp_10_121.pdf
7- تقرير الرياضة والترفيه الحكومي لجنوب إفريقيا
Gregor Pfeifer, Fabian Wahl. & Martyna Marczak, “Illuminating the World Cup Effect: Night Lights Evidence from South Africa”, Journal of Regional Science, October 2018. Available at:
https://www.researchgate.net/publication/304396738_Illuminating_the_World_Cup_Effect_Night_Lights_Evidence_from_South_Africa
8- Ibid.
9- إحصائيات البنك الدولي. متاحة على الرابط التالي:
https://data.worldbank.org/country/brazil
10- موقع المنتدى الاقتصادي العالمي
– World Economic Forum, “Does hosting a World Cup make economic sense?”, 07 Jun 2018. Available at: https://www.weforum.org/agenda/2018/06/world-cup-football-smart-investment-russia-host/
“World Cup Economic Impact”, Available at: https://assets.weforum.org/editor/SJn7GcMzmTxbk2DMABUJDceM1Gzvn21fql_j_kM94qM.png
11- João Saldanha Open Media Centre, “2014 FIFA World Cup to generate 1 million jobs in Brazil”, June 19, 2014. http://www.copa2014.gov.br/en/noticia/2014-fifa-world-cup-generate-1-million-jobs-brazil
12- “Gabon’s political, economic impasse casts
13- Andrew Zimbalist, “Circus Maximus: The Economic Gamble Behind Hosting the Olympics and the World Cup”, The Economist, Feb 28, 2015. Available at: https://www.economist.com/books-and-arts/2015/02/28/just-say-no