هناك أكثر من إعلان أمريكى وعراقى وسوري؛ بالانتصار على تنظيم «داعش» ما بين أعوام 2018 و2020، وكان المقصود حينها على ساحة وجوده بمناطق من سوريا والعراق. لم تتطرق تلك الإعلانات بالطبع، إلى أفرع التنظيم الموجودة خارج هذا النطاق الجغرافى، لكن بطبيعة الحال يظل الأهم النجاح فى انتزاع المناطق الشاسعة من قبضة التنظيم بعد سنوات من إحكام سيطرته عليها. تلك المناطق كانت تضم محافظات سورية وعراقية بكاملها، تقع على جانبى خط الحدود بين البلدين، ومنها محافظة ومدينة الرقة السورية، التى مثلت عاصمة لدولة إسلامية «افتراضية» كان التنظيم ومازال، يعتبر تأسيسها فى هذه البقعة الجغرافية من عقائده الرئيسية.
منذ تحقيق هذا الانتصار المبدئى، تحول التنظيم إلى استراتيجية جديدة للحفاظ على بقائه، وهى التوزع ضمن المدن على شكل خلايا نائمة ونشيطة، وإعادة التموضع فى جيوب معزولة داخل البادية السورية، فضلا عن صحراء الأنبار وعدة مناطق جبلية وعرة فى العراق. بعد تلقى التنظيم عدة ضربات مؤثرة على مستوى قياداته خلال العامين الماضيين، بدأت بالقضاء على أبوبكر البغدادى القائد التاريخى للتنظيم فى أكتوبر 2019، وصولا إلى القيادة الثالثة له أبو الحسن الهاشمى القرشى فى نهاية 2022. إلا أن التنظيم أثبت تماسكا ملحوظا، وتعاطى فى كل مرة ما يمكن اعتباره طابعا مؤسسيا، فيما يخص سرعته فى إعلان قيادة جديدة وبث خطابات إعلامية لمناصريه وغيرهم، يبدو فيه متماسكا وقادرا على تجاوز الحدث رغم محورية تأثيره فى كل مرة، حيث امتدت عمليات القتل إلى قيادات اخرى مؤثرة لها ارتباط مباشر بالعمل الحركى الداخلى، مثل المسئول عن النشاط المالى وقائد الفرع الرئيسى فى سوريا ومسئولى العضوية وبعض من كوادر الدائرة الإعلامية للتنظيم.
خلال تلك الفترة اقتصر النشاط العام للتنظيم فى محاولة إظهار قدر من التماسك، وظلت عملياته الإرهابية على الأرض متفرقة ومتباعدة زمنيا إلى حد كبير، وكانت الكفة العددية أرجح فى الساحة العراقية عنها فى الأراضى السورية. لكن أخيرا بدت ملامح جديدة تطرأ على نشاط التنظيم بصورة تدعو إلى الانتباه، حيث شهد الشهر الأخير من 2022 قيام التنظيم بشن عشرات الهجمات الدموية بمحافظتى كركوك وديالى بشمال العراق، وفى مناطق بادية حمص والسويداء وحماة وحلب والرقة ودير الزور بالداخل السوري. التقديرات الأمريكية قبل أن ينتهى الشهر، ذهبت إلى أن التنظيم يخطط بشكل شبه مؤكد لحملة انتقامية عنيفة ضد أمريكا وشركائها، بعد الضربات التى تلقاها فى سوريا العام الماضى، والتى أسفرت عن مقتل العديد من قادة التنظيم وكبار المسئولين. هذا ما نقلته صحيفة «الواشنطن تايمز» عن مسئولين أمنيين أمريكيين.
هذا تقدير جاد ويحمل كثيرا من الوجاهة، فله عدد من المؤشرات تؤكده، حيث كشف الجنرال «مايكل كوريلا» قائد القيادة المركزية الأمريكية عما هو أخطر وأكثر تفصيلا. كون التنظيم فى الوقت الراهن يملك ثلاث فئات عسكرية؛ يتكون كل منها من آلاف المقاتلين، ما يشير إلى استمرار مخاطر عودته وتمدده من جديد. الفئة الأولى هى «داعش الطليقة»، وهم الجيل الحالى من قادة وعناصر التنظيم الذى لا تزال عناصره وقادته ينشرون أيديولوجية التنظيم، رغم العمليات العسكرية التى وإن كانت غير مركزة مثلما كان الحال وقت نشاط التحالف، إلا أنها مازالت متلاحقة ضدهم. الفئة الثانية هم عناصر و«قادة التنظيم المحتجزون» فى سجون سوريا والعراق، حيث يوجد فى السجون العراقية أكثر من (20 ألف) عنصر وقيادة بالتنظيم، وفى سجون سوريا أكثر من (10 آلاف). يبقى الجيل الثالث، الذين يمكن تسميتهم بـ«الجيل القادم» دلالة خطورتهم أن عددهم يقارب (25 ألف) صبى وطفل، وأنهم موجودون بـ«مخيم الهول» الذى يقع بريف الحسكة الشرقي. يبلغ عدد قاطنى مخيم الهول وفق تقديرات الأمم المتحدة نحو (56 ألف) شخص، موزعين على 51 جنسية.
التهديد بات وشيكا بعد أن أصبح المخيم يضم مدنيين نزحوا بسبب المعارك، يعيشون جنبا إلى جنب مع عائلات عناصر تنظيم داعش، ويعيش هؤلاء فى ظروف خدمية سيئة على مختلف المجالات، سواء طبيا أو فى مجال التغذية وإمدادات المياه. لذلك ففى حال استمرار اعتقالهم داخله، دون إيجاد حلول تأخرت كثيرا لنقلهم أو إعادتهم لبلدانهم، وفى ظل ما يتعرضون له من انتهاكات، إضافة إلى الضغط الكبير من خلايا التنظيم التى تلاحق معارضيه، تصبح القنبلة البشرية على أهبة الانفجار دون الحاجة لمحفزات حاضرة طوال الوقت. القوات الأمريكية القريبة من تلك الأحداث ومعها «قوات سوريا الديمقراطية»، يرصدون انفاق داعش الكبير على المخيم من خلال قنوات اتصال سرية، لم يتمكنوا حتى الآن من قطع الطريق عليه، ويتابعون أمام أعينهم بشكل يومى حرص النساء على أن يكون الجيل الصاعد حاملا نفس «الفكر الداعشى» لمواصلة دورهم فى الإرهاب كقنابل موقوتة. دون وجود خطة مجابهة فعالة لهذا العدد الضخم، وفى ظل انشغال أمريكى كردى بقنبلة يرون خطورتها مرشحة للانفجار فى المدى الأقرب، وهم المحتجزون بالسجون باعتبارهم الأكثر خطرا، فمازالت تجربة أبو بكر البغدادى وكبار قيادات التنظيم ماثلة فى تداعياتها بعد خروجهم من السجون، فهم دخلوها أنصارا لتنظيم «أبومصعب الزرقاوي» وخرجوا ليؤسسوا ما هو أشرس وأكثر فتكا، لتظل تجربة السجن والاحتجاز بمثابة مفرخة نموذجية للمتطرفين ولإعادة تدوير للإرهاب. الخطر لم ينقطع، بل تمدد مع العام الجديد الذى لم يمض منه سوى أيام، حيث سجل فيه على تنظيم داعش تنفيذ (14 عملية) إرهابية فى مناطق الشمال السورى وحده، خلفت (12 قتيلا) بمنحى تصاعدى لافت. ويُطرح تساؤل عن طبيعة هذا الثوب الانتقامى الجديد، ومداه إلى أين سيصل؟